يخبر تعالى عن كتابه الذي نزله أنه { أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } على الإطلاق ، فأحسن الحديث كلام اللّه ، وأحسن الكتب المنزلة من كلام اللّه هذا القرآن ، وإذا كان هو الأحسن ، علم أن ألفاظه أفصح الألفاظ وأوضحها ، وأن معانيه ، أجل المعاني ، لأنه أحسن الحديث في لفظه ومعناه ، متشابها في الحسن والائتلاف وعدم الاختلاف ، بوجه من الوجوه . حتى إنه كلما تدبره المتدبر ، وتفكر فيه المتفكر ، رأى من اتفاقه ، حتى في معانيه الغامضة ، ما يبهر الناظرين ، ويجزم بأنه لا يصدر إلا من حكيم عليم ، هذا المراد بالتشابه في هذا الموضع .
وأما في قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } فالمراد بها ، التي تشتبه على فهوم كثير من الناس ، ولا يزول هذا الاشتباه إلا بردها إلى المحكم ، ولهذا قال : { مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } فجعل التشابه لبعضه ، وهنا جعله كله متشابها ، أي : في حسنه ، لأنه قال : { أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } وهو سور وآيات ، والجميع يشبه بعضه بعضا كما ذكرنا .
{ مَثَانِيَ } أي : تثنى فيه القصص والأحكام ، والوعد والوعيد ، وصفات أهل الخير ، وصفات أهل الشر ، وتثنى فيه أسماء اللّه وصفاته ، وهذا من جلالته ، وحسنه ، فإنه تعالى ، لما علم احتياج الخلق إلى معانيه المزكية للقلوب ، المكملة للأخلاق ، وأن تلك المعاني للقلوب ، بمنزلة الماء لسقي الأشجار ، فكما أن الأشجار كلما بعد عهدها بسقي الماء نقصت ، بل ربما تلفت ، وكلما تكرر سقيها حسنت وأثمرت أنواع الثمار النافعة ، فكذلك القلب يحتاج دائما إلى تكرر معاني كلام اللّه تعالى عليه ، وأنه لو تكرر عليه المعنى مرة واحدة في جميع القرآن ، لم يقع منه موقعا ، ولم تحصل النتيجة منه ، ولهذا سلكت في هذا التفسير هذا المسلك الكريم ، اقتداء بما هو تفسير له ، فلا تجد فيه الحوالة على موضع من المواضع ، بل كل موضع تجد تفسيره كامل المعنى ، غير مراع لما مضى مما يشبهه ، وإن كان بعض المواضع يكون أبسط من بعض وأكثر فائدة ، وهكذا ينبغي للقارئ للقرآن ، المتدبر لمعانيه ، أن لا يدع التدبر في جميع المواضع منه ، فإنه يحصل له بسبب ذلك خير كثير ، ونفع غزير .
ولما كان القرآن العظيم بهذه الجلالة والعظمة ، أثَّر في قلوب أولي الألباب المهتدين ، فلهذا قال تعالى : { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } لما فيه من التخويف والترهيب المزعج ، { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } أي : عند ذكر الرجاء والترغيب ، فهو تارة يرغبهم لعمل الخير ، وتارة يرهبهم من عمل الشر .
{ ذَلِكَ } الذي ذكره اللّه من تأثير القرآن فيهم { هُدَى اللَّهِ } أي : هداية منه لعباده ، وهو من جملة فضله وإحسانه عليهم ، { يَهْدِي بِهِ } أي : بسبب ذلك { مَنْ يَشَاءُ } من عباده . ويحتمل أن المراد بقوله : { ذَلِكَ } أي : القرآن الذي وصفناه لكم .
{ هُدَى اللَّهِ } الذي لا طريق يوصل إلى اللّه إلا منه { يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } ممن حسن قصده ، كما قال تعالى { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ }
{ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } لأنه لا طريق يوصل إليه إلا توفيقه والتوفيق للإقبال على كتابه ، فإذا لم يحصل هذا ، فلا سبيل إلى الهدى ، وما هو إلا الضلال المبين والشقاء .
مدح - سبحانه - كتابه مدحا يليق به ، وبين حال المؤمنين الصادقين عند سماعه ، وسلى نبيه صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه . فقال - تعالى - : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً . . . } .
قوله - تعالى - : " مثانى " جمع مثنى من التثنية بمعنى التكرار والإِعادة ولذا سميت سورة الفاتحة بالسبع المثانى ، لأنها تكرر وتعاد مع كل صلاة .
أى : الله - تعالى - نزل بفضله ورحمته عليك - يا محمد - أحسن الحديث { كِتَاباً مُّتَشَابِهاً } أى : يشبه بعضه بعضا فى فصاحته وبلاغته ، وفى نظمه وإعجازه ، وفى صحة معانيه وأحكامه ، وفى صدقه وهداياته وإرشاداته إلى ما يسعد الناس فى دنياهم وآخرتهم . . .
" مثانى " أى : تثنى وتكرر فيه القصص والمواعظ ، والأمثال والأحكام والوعد والوعيد ، كما تثنى وتكرر قراءاته فلا تمل على كثرة الترداد ، وإنما يزداد المؤمنون حبا وتعلقا بتلاوته كلما أكثروا من هذه التلاوة .
وسمى - سبحانه - كتابه حديثا ، لأن النبى صلى الله عليه وسلم كان يحدث به قومه ، ويخبرهم بما كان ينزل عليه منه . فلفظ الحديث هنا بمعنى المحدث به لا بمعنى كونه مقابلا للقديم .
ولفظ { كتابا } بدل من قوله { أَحْسَنَ الحديث } وقوله : { مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ } صفتان للكتاب .
ووصف بهما وهو مفرد وكلمة { مثانى } جمع ، باعتبار اشتماله على الكثير من السور والآيات والقصص والمواعظ والأحكام .
أى : الله - تعالى - أنزل أحسن الحديث كتابا مشتملا على السور والآيات والمواعظ . . . التى يشبه بعضها فى الإِعجاز . . والتى تثنى وتكرر فلا تمل على كثرة التكرار . .
ورحم الله صاحب الكشاف فقد أجاد عند تفسيره لهذه الآية فقال له ما ملخصه : " وإيقاع اسم مبتدأ ، وبناء { نزل } عليه ، فيه تفخيم لأحسن الحديث ورفع منه ، واستشهاد على حسنه ، وتأكيد لاستناده إلى الله ، وأنه من عنده ، وأن مثله لا يجوز أن يصدر إلا عنه ، وتنبيه على أنه وحى معجز مباين لسائر الأحاديث .
فإن قلت : كيف وصف الواحد بالجمع ؟ قلت : إنما صح ذلك لأن الكتاب جملة ذات تفاصيل ، وتفاصيل الشئ هى جملته لا غير ، ألا تراك تقول : القرآن سور وآيات . . . كما تقول الإِنسان عظام وعروق ، فإن قلت : ما فائدة التثنية والتكرير ؟ قلت : النفوس أنفر شئ عن حديث الوعظ والنصيحة ، فما لم يكرر عليها عودا عن بدء لم يرسخ فيها ، ولم يعمل عمله ، ومن ثم كانت عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكرر عليهم ما كان يعظ به وينصح ثلاث مرات ، ليركزه فى قلوبهم ، كى يغرسه فى صدورهم . . .
وقوله - تعالى - : { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله . . . } .
استئناف مسوق لبيان آثار هذا القرآن الكريم فى نفوس قارئيه وسامعيه بعد بيان أوصافه فى ذاته .
وقوله " تقشعر " من الاقشعرار ، وهو الانقياض الشديد للبدن . يقال : اقشعر جسد فلان ، إذا انقبض جلده واهتز . . . وهو هنا كناية عن الخوف الشديد من الله - تعالى - .
أى : أن هذا الكتاب العظيم عندما يقرؤه أو يسمعه المؤمنون الصادقون الذين يخشون ربهم تقشعر جلودهم من شدة ما اشتمل عليه من زواجر ونذر . ثم تلين جلودهم وقلوبهم إذا ما قرأوا أو استمعوا إلى آيات الرحمة والمغفرة .
قال الجمل : " فإن قلت : لم ذكرت الجلود وحدها أولا ثم قرنت القلوب بها ثانيا ؟ .
قلت : ذكر الخشية التى تحملها القلوب مستلزم لذكر القلوب ، فكأنه قيل : تقشعر جلودهم وتخشى قلوبهم فى أول الأمر ، فإذا ذكروا الله - تعالى - وذكروا رحمته وسعتها ، استبدلوا بالخشية رجاء فى قلوبهم ، وبالقشعريرة لينا فى جلودهم . .
والخلاصة أن من صفات هؤلاء المؤمنين الصادقين ، أنهم يجمعون عند قراءتهم أو سماعهم للقرآن الكريم بين الخوف والرجاء ، الخوف من عذاب الله - تعالى - والرجاء فى رحمته ومغفرته ، إذ أن إقشعرار الجلود كناية عن الخوف الشديد ، ولين الجلود والقلوب كناية عن السرور والارتياح ، وعدى الفعل " تلين " بإلى لتضمينه معنى تسكن وتطمئن .
ومفعول { ذِكْرِ الله } محذوف للعلم به ، أى : ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله رحمته وثوابه وجنته .
قال ابن كثير ما ملخصه : هؤلاء المؤمنون يخالفون غيرهم من وجوه :
أحدها : أن سماع هؤلاء تلاوة الآيات ، وسماع أولئك نغمات الأبيات .
الثانى : أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ، بأدب وخشية ورجاء ومحبة وفهم وعلم ، ولم يكونوا - كغيرهم - متشاغلين لاهين عنها .
الثالث : أنهم يلزمون الأدب عند سماعها . . . . ولم يكونوا يتصارخون ويتكلفون ما ليس فيهم .
قال قتادة عند قراءة لهذه الآية : هذا نعت أولياء الله ، نعتهم الله بأنهم تقشعر جلودهم وتبكى أعينهم ، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله ، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم ، والغشيان عليهم ، إنما هذا فى أهل البدع ، وهذا من الشيطان . . .
واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - : { ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } يعود إلى الكتاب الذى مرت أوصافه ، وأوصاف القارئين له والمستمعين إليه .
أى : ذلك الكتاب العظيم المشتمل على أحسن الإرشادات وأحكمها ، هدى الله الذى يهدى بسببه من يشاء من عباده إلى الصراط المستقيم ، ومن يضلله - سبحانه - عن طريق الحق ، فماله من هاد يهديه إلى هذا الطريق القويم .
{ الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كتابا متشابها مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله } .
استئناف بياني نشأ بمناسبة المضادة بين مضمون جملة { فَوَيْلٌ للقاسِيةِ قُلوبهم من ذِكر الله } [ الزمر : 22 ] . ومضمون هذه الجملة وهو أن القرآن يُلين قلوب الذين يخشون ربهم لأن مضمون الجملة السابقة يثير سؤال سائل عن وجه قسوة قلوب الضالين من ذكر الله فكانت جملة { الله نَزَّلَ أحْسَنَ الحدِيثِ } إلى قوله : { مِنْ هَادٍ } مُبينة أن قساوة قلوب الضالّين من سماع القرآن إنما هي لرَيْن في قلوبهم وعقولهم لا لنقص في هدايته . وهذا كما قال تعالى في سورة البقرة { هدى للمتقين } ثم قال : { إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم } [ البقرة : 6 7 ] .
وهذه الجملة تكميل للتنويه بالقرآن المفتتح به غرض السورة وسيقفى بثناء آخر عند قوله : { ولقد ضربْنَا للنَّاسِ في هذا القُرءَانِ من كل مَثَل لعلَّهُم يتذَكَّرُونَ } [ الزمر : 27 ] الآية ، ثم بقوله : { إنَّا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق } [ الزمر : 41 ] ثم بقولِه : { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } [ الزمر : 55 ] .
وافتتاح الجملة باسم الجلالة يؤذن بتفخيم أحسن الحديث المنزل بأن منزّله هو أعظم عظيم ، ثم الإِخبار عن اسم الجلالة بالخبر الفعلي يدل على تقوية الحُكم وتحقيقه على نحو قولهم : هو يعطي الجزيل ، ويفيد مع التقوية دلالة على الاختصاص ، أي اختصاص تنزيل الكتاب بالله تعالى ، والمعنى : الله نزّل الكتاب لا غيرُه وضَعه ، ففيه إثبات أنه منزّل من عالم القدس ، وذلك أيضاً كناية عن كونه وحياً من عند الله لا من وضع البشر . فدلت الجملة على تقوَ واختصاص بالصراحة ، وعلى اختصاص بالكناية ، وإذ أخذ مفهوم القصْر ومفهوم الكناية وهو المغاير لمنطوقهما كذلك يؤخذ مغاير التنزيل فعلاً يليق بوضع البشر ، فالتقدير : لا غير الله وضَعه ، ردّاً لقول المشركين : هو أساطير الأولين .
والتحقيق الذي درج عليه صاحب « الكشاف » في قوله تعالى : { اللَّه يستهزىء بهم } [ البقرة : 15 ] هو أن التقوى والاختصاص يجتمعان في إسناد الخبر الفعلي إلى المسند إليه ، ووافقه على ذلك شرّاح « الكشاف » .
ومفاد هذا التقديم على الخبر الفعلي فيه تحقيقٌ لما تضمنته الإِضافة من التعظيم لشأن المضاف في قوله تعالى : { مِن ذِكرِ الله } [ الزمر : 22 ] كما علمتَه آنفاً ، فالمراد ب { أحْسَنَ الحدِيثِ } عين المراد ب { ذِكرِ الله } وهو القرآن ، عدل عن ذكر ضميره لقصد إجراء الأوصاف الثلاثة عليه . وهي قوله : { كِتاباً مُتشابِهاً مثَاني تَقْشَعر منه جلودُ الذين يخشونَ ربَّهُم } الخ ، فانتصب { كِتاباً } على الحال من { أحْسَنَ الحدِيثِ } أو على البدلية من { أحْسَنَ الحدِيثِ } ، وانتصب { مُتَشَابهاً } على أنه نعتُ { كِتَاباً } .
الوصف الأول : أنه أحسن الحديث . أي أحسن الخبر ، والتعريف للجنس ، والحديث : الخبر ، سمي حديثاً لأن شأن الإِخبار أن يكون عن أمر حدث وجدّ .
سمي القرآن حديثاً باسم بعض ما اشتمل عليه من أخبار الأمم والوعد والوعيد . وأما ما فيه من الإِنشاء من أمر ونهي ونحوهما فإنه لما كان النبي صلى الله عليه وسلم مبلغَه للناس آل إلى أنه إخبار عن أمر الله ونهيه .
وقد سُمي القرآن حديثاً في مواضع كثيرة كقوله تعالى : { فبأي حديث بعده يؤمنون } في سورة [ الأعراف : 185 ] ، وقوله : { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً } في سورة [ الكهف : 6 ] .
ومعنى كون القرآن أحسن الحديث أنه أفضل الأخبار لأنه اشتمل على أفضل ما تشتمل عليه الأخبار من المعاني النافعة والجامعة لأصول الإِيمان ، والتشريع ، والاستدلال ، والتنبيه على عظم العوالم والكائنات ، وعجائب تكوين الإِنسان ، والعقل ، وبثّ الآداب ، واستدعاء العقول للنظر والاستدلال الحق ، ومن فصاحة ألفاظه وبلاغة معانيه البالغَيْن حدّ الإعجاز ، ومن كونه مصدقاً لما تقدمه من كتب الله ومهيمناً عليها . وفي إسناد إنزاله إلى الله استشهاد على حسنه حيث نزّله العليم بنهاية محاسن الأخبار والذكر .
الوصف الثاني : أنه كتاب ، أي مجموع كلام مراد قراءته وتلاوته والاستفادة منه ، مأمور بكتابته ليبقى حجة على مرّ الزمان فإنّ جعل الكلام كتاباً يقتضي أهمية ذلك الكلام والعناية بتنسيقه والاهتمام بحفظه على حالته . ولما سمّى الله القرآن كتاباً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر كتَّاب الوحي من أصحابه أن يكتبوا كل آية تنزل من الوحي في الموضع المعيّن لها بَين أخواتها استناداً إلى أمر من الله ، لأن الله أشار إلى الأمر بكتابته في مواضع كثيرة من أولها قوله : { بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ } [ البروج : 21 22 ] وقوله : { إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون } [ الواقعة : 77 78 ] .
الصفة الثالثة : أنه متشابه ، أي متشابهة أجزاؤه متماثلة في فصاحة ألفاظها وشرف معانيها ، فهي متكافئة في الشرف والحسن ( وهذا كما قالوا : امرأة متناصفة الحسن ، أي أنصفَتْ صفاتُها بعضُها بعضاً فلم يزد بعضها على بعض ، قال ابن هرمة :
إني غَرِضْتُ إلى تناصف وجهها *** غَرَض المحب إلى الحبيب الغائب
ومنه : قولهم وجه مقسّم ، أي متماثل الحسن ، كأن أجزاءه تقاسمت الحسن وتعادلته ، قال أرقم بن عِلباء اليَشكُري :
ويوماً توافينا بوجه مقسَّم *** كأنْ ظبيةٌ تعطو إلى وَارِق السَّلَمْ
أي بوجه قسّم الحسن على أجزائه أقساماً .
فمعانيه متشابهة في صحتها وأحكامها وابتنائها على الحق والصدق ومصادفة المحزّ من الحجة وتبكيت الخصوم وكونها صلاحاً للناس وهدى . وألفاظه متماثلة في الشرف والفصاحة والإِصابة للأغراض من المعاني بحيث تبلغ ألفاظه ومعانيه أقصى ما تحتمله أشرف لغة للبشر وهي اللغة العربية مفردات ونظماً ، وبذلك كان معجزاً لكل بليغ عن أن يأتي بمثله ، وفي هذا إشارة إلى أن جميع آيات القرآن بالغ الطرف الأعلى من البلاغة وأنها متساوية في ذلك بحسب ما يقتضيه حال كل آية منها ، وأما تفاوتها في كثرة الخصوصيات وقلتها فذلك تابع لاختلاف المقامات ومقتضيات الأحوال ، فإن بلاغة الكلام مطابقته لمقتضى الحال ، والطرف الأعلى من البلاغة هو مطابقة الكلام لجميع ما يقتضيه الحال ، فآيات القرآن متماثلة متشابهة في الحسن لدى أهل الذوق من البلغاء بالسليقة أو بالعِلم وهو في هذا مخالف لغيره من الكلام البليغ فإن ذلك لا يخلو عن تفاوت ربما بلغ بعضُه مبلغَ أن لا يشبه بقيته ، وهذا المعنى مما يدخل في قوله تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير اللَّه لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } [ النساء : 82 ] ، فالكاتب البليغ والشاعر المجيد لا يخلو كلام أحد منهما من ضعف في بعضه ، وأيضاً لا تتشابه أقوال أحد منهما بل تجد لكل منهما قِطعاً متفاوتة في الحسن والبلاغة وصحة المعاني . وبما قررنا تعلم أن المتشابه هنا مراد به معنى غير المراد في قوله تعالى : { وأُخر متشابهات } [ آل عمران : 7 ] لاختلاف ما فيه التشابه .
الصفة الرابعة : كونه مثاني ، ومثاني : جمع مُثَنَّى بضم الميم وبتشديد النون جمعاً على غير قياس ، أو اسم جمع . ويجوز كونه جمع مَثْنى بفتح الميم وتخفيف النون وهو اسم لِجعل المعدود أزواجاً اثنين ، اثنين ، وكلا الاحتمالين يطلق على معنى التكرير . كُنِّي عن معنى التكرير بمادة التثنية لأن التثنية أول مراتب التكرير ، كما كُني بصيغة التثنية عن التكرير في قوله تعالى : { ثم ارجع البصر كرتين } [ الملك : 4 ] ، وقول العرب : لَبَّيْك وسَعْديك ، أي إجابات كثيرة ومساعدات كثيرة .
وقد تقدم بيان معنى { مثاني } في قوله تعالى : { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني } في سورة [ الحجر : 87 ] ، فالقرآن مثاني لأنه مكرر الأغراض .
وهذا يتضمن امتناناً على الأمة بأن أغراض كتابها مكررة فيه لتكون مقاصده أرسخ في نفوسها ، وليسمعها من فاته سماع أمثالها من قبلُ . ويتضمن أيضاً تنبيهاً على ناحية من نواحي إعجازه ، وهي عدم المَلل من سماعه وأنه كلما تكرر غرض من أغراضه زاده تكرره قبولاً وحَلاوة في نفوس السامعين . فكأنه الوجه الحسن الذي قال في مثله أبو نواس :
يزيدك وجهه حُسناً *** إذا ما زدته نظَرا
وقد عدّ عياض في كتاب « الشفاء » من وجوه إعجاز القرآن : أن قارئه لا يَمَلّه وسامعه لا يمجه ، بل الإِكباب على تلاوته يزيده حلاوة ، وترديده يوجب له محبة ، لا يزال غضاً طرياً ، وغيره من الكلام ولو بلغ من الحسن والبلاغة مبلغاً عظيماً يُمَل مع الترديد ويُعادى إذا أعيد ، ولذا وَصف رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن : " بأنه لا يخلق على كثرة الرد " رواه الترمذي عن علي بن أبي طالب مرفوعاً .
وذكر عياض أن الوليد بن المغيرة سمِع من النبي صلى الله عليه وسلم { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } [ النحل : 90 ] الآية فقال : « والله إن له لحلاوة وإن عليه لطَلاوة » .
وبهذا تعلم أن وصف القرآن هنا بكونه مثاني هو غير الوصف الذي في قوله : { ولقد أتيناك سبعاً من المثاني } [ الحجر : 78 ] لاختلاف ما أريد فيه بالتثنية وإن كان اشتقاق الوصف متّحداً .
ووصَف { كِتاباً } وهو مفرد بوصف { مثاني } وهو مقتض التعدد يعيّن أن هذا الوصف جرى عليه باعتبار أجزائه ، أي سوره أو آياته باعتبار أن كل غرض منه يكرر ، أي باعتبار تباعيضه .
الصفة الخامسة : أنه تقشعر منه جلود الذين يخشَون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم ، وهذا الوصف مرتب على الوصف قبله وهو كون القرآن مثاني ، أي مثنَّى الأغراض ، وهو مشتمل على ثلاث جهات :
أولاها : وصف القرآن بالجلالة والروعة في قلوب سامعيه ، وذلك لما في آياته الكثيرة من الموعظة التي تَوْجَل منها القلوب ، وهو وصف كمال لأنه من آثار قوة تأثير كلامه في النفوس ، ولم يزل شأن أهل الخطابة والحكمة الحرصَ على تحصيل المقصود من كلامهم لأن الكلام إنما يواجه به السامعون لحصول فوائد مرْجوة من العمل به ، وما تبارى الخطباء والبلغاء في ميادين القول إلا للتسابق إلى غايات الإِقناع ، كما قال قيس بن خارجة ، وقد قيل له : ما عندك ؟ « عندي قِرى كلِ نازل ، ورضى كل سَاخط ، وخُطبةٌ من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب ، آمر فيها بالتواصل وأنهى عن التقاطع » . وقد ذكر أرسطو في الغرض من الخطابة أنه إثارة الأهواء وقال : « إنها انفعالات في النفس تثير فيها حزناً أو مسرة » .
وقد اقتضى قوله : { تَقْشَعر منه جُلُودُ الذين يخشَونَ ربَّهُم } أن القرآن يشتمل على معان تقشعر منها الجلود وهي المعاني الموسومة بالجَزالة التي تثير في النفوس روعة وجلالة ورهبة تبعث على امتثال السامعين له وعملهم بما يتلقونه من قوارع القرآن وزواجره ، وكنّي عن ذلك بحالةٍ تقارِنُ انفعال الخشية والرهبة في النفس لأن الإِنسان إذا ارتاع وخشي اقشعرّ جِلده من أثر الانفعال الرهبني ، فمعنى { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ } تقشعر من سماعه وفهمه ، فإن السماع والفهم يومئذٍ متقارنان لأن السامعين أهل اللسان . يقال : اقشعر الجلد ، إذا تقبض تقبضاً شديداً كالذي يحصل عند شدة برد الجسد ورعدته . يقال : اقشعر جلده ، إذا سمع أو رأى مَا يثير انزعاجه ورَوعه ، فاقشعرار الجلود كناية عن وجل القلوب الذي تلزمه قشعريرة في الجلد غالباً .
وقد عدّ عياض في « الشفاء » من وجوه إعجاز القرآن : الروعة التي تلحق قلوب سامعيه عند سماعه والهيبةَ التي تعتريهم عند تلاوته لعلوّ مرتبته على كل كلام من شأنه أن يهابه سامعه ، قال تعالى : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية اللَّه وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون } [ الحشر : 21 ] .
وعن أسماء بنت أبي بكر كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرىء عليهم القرآن كما نعتهم الله تدمَع أعينهم وتقشعرّ جلودهم . وخص القشعريرة بالذين يخشون ربهم باعتبار ما سيردف به من قوله : { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهم } كما يأتي ، قال عياض : « وهي ، أي الروعة التي تلحق قلوب سامعيه عند سماعه ، على المكذبين به أعظم حتى كانوا يستثقلون سماعه كما قال تعالى :
{ وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولَّوا على أدبارهم نفوراً } [ الإسراء : 46 ] .
وهذه الروعة قد اعْترت جماعة قبل الإِسلام ، فمنهم من أسلم لها لأولِ وهلة . حُكي في الحديث الصحيح عن جبير بن مطعم قال : « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ قوله تعالى : { أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } إلى قوله : { المصيطرون } [ الطور : 35 37 ] كاد قلبي أن يطير وذلك أول ما وُقر الإِسلام في قلبي » .
ومنهم من لم يسلم ، روي عن محمد بن كعب القرظي قال : « أخبرت أن عتبة بن ربيعة كلّم النبي صلى الله عليه وسلم في كفّه عن سبِّ أصنامهم وتضليلهم ، وعرض عليه أموراً والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع فلما فرغ قال له النبي صلى الله عليه وسلم اسمع ما أقول ، وقَرأ عليه { حم } [ فصلت : 1 ] حتى بلغ قوله : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } [ فصلت : 13 ] فأمسك عتبة على فم النبي صلى الله عليه وسلم وناشده الرحِم أن يكفّ » أي عن القراءة .
وأما المؤمن فلا تزال روعته وهيبته إياه مع تلاوته توليه انجذاباً وتكسبه هشاشة لميل قلبه إليه ، قال تعالى : { تَقْشَعِرُّ منه جُلُود الذين يخشَونَ ربَّهُم ثمَّ تَلِينُ جلودُهم وقُلُوبهم إلى ذِكرِ الله } .
الجهة الثانية من جهات هذا الوصف : لين قلوب المؤمنين عند سماعه أيضاً عقب وجَلها العارض من سماعه قبلُ .
واللين : مستعار للقبول والسرور ، وهو ضد للقساوة التي في قوله : { فويَلٌ للقاسِيَةِ قلوبُهُم من ذِكرِ الله } ، فإن المؤمن إذا سمع آيات الوعيد والتهديد يخشى ربه ويتجنب ما حذر منه فيقشعرّ جلده فإذا عقب ذلك بآيات البشارة والوعد استبشر وفرِح وعرض أعماله على تلك الآيات فرأى نفسه متحلية بالعمل الذي وعد الله عليه بالثواب فاطمأنت نفسه وانقلب الوجل والخوف رجاءً وترقباً ، فذلك معنى لين القلوب .
وإنما يبعث هذا اللينَ في القلوب ما في القرآن من معاني الرحمة وذلك في الآيات الموصوفةِ معانيها بالسهولة نحو قوله تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنَّه هو الغفُورُ الرَّحِيمُ } [ الزمر : 53 ] ، والموصوفةِ معانيها بالرقة نحو : { يا عبادِ لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين } [ الزخرف : 68 69 ] ، وقد علم في فن الخطابة أن للجزالة مقاماتها وللسهولة والرقة مقاماتهما .
الجهة الثالثة من جهات هذا الوصف : أعجوبة جمعه بين التأثيريْن المتضادَّيْن : مرةً بتأثير الرهبة ، ومرة بتأثير الرغبة ، ليكون المسلمون في معاملة ربهم جارِين على ما يَقتضيه جلالُه وما يقتضيه حلمه ورحمته . وهذه الجهة اقتضاها الجمع بين الجهتين المصرح بهما وهما جهة القشعريرة وجهة اللين ، مع كون الموصوف بالأمرين فريقاً واحداً وهم الذين يخشون ربهم ، والمقصود وصفهم بالتأثريْن عند تعاقب آيات الرحمة بعد آيات الرهبة .
قال الفخر : إن المحققين من أهل الكمال قالوا : « السائرون في مبدأ جلال الله إن نظروا إلى عالم الجلال طاشُوا ، وإن لاح لهم أثر من عالم الجمال عاشوا » اهـ . فالآية هنا ذكرتْ لهم الحالتين لوقوعها بعد قوله : { مَثَانِيَ } كما أشرنا إليه آنفاً ، وإلا فقد اقتصر على وصف الله المؤمنين بالوجل في قوله تعالى : { إنما المؤمنون الذين إذا ذُكِرَ اللَّه وَجلت قلوبهم } في سورة [ الأنفال : 2 ] ، فالمقام هنا لبيان تأثر المؤمنين بالقرآن ، والمقام هنالك للثناء على المؤمنين بالخشية من الله في غير حالة قراءة القرآن .
وإنما جُمع بين الجلود والقلوب في قوله تعالى : { ثم تَلِينُ جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } ولم يُكتف بأحد الأمرين عن الآخر كما اكتُفي في قوله : { تَقْشعر منه جلودُ الذين يخشونَ ربهم } لأن اقشعرار الجلود حالة طارئة عليها لا يكون إلا من وجل القلوب وروعتها فكنّي به عن تلك الروعة .
وأما لين الجُلود عقب تلك القشعريرة فهو رجوع الجلود إلى حالتها السابقة قبل اقشعرارها ، وذلك قد يحصل عن تناسسٍ أو تشاغل بعد تلك الروعة ، فعطف عليه لين القلوب ليعلم أنه لين خاص ناشىء عن اطمئنان القلوب بالذكر كما قال تعالى : { ألا بذكر اللَّه تطمئن القلوب } [ الرعد : 28 ] وليس مجرد رجوع الجلود إلى حالتها التي كانت قبل القشعريرة . ولم يُكتف بذكر لين القلوب عن لين الجلود لأنه قصد أن لين القلوب أفعمها حتى ظهر أثره على ظاهر الجلود .
و{ ذِكْرِ الله } وهو أحسن الحديث ، وعُدل عن ضميره لبعد المعاد ، وعدل عن إعادة اسمه السابق لمدحه بأنه ذكر من الله بعد أن مُدِح بأنه أحسن الحديث والمراد ب { ذِكْرِ الله } ما في آياته من ذكر الرحمة والبشارة ، وذلك أن القرآن ما ذَكَر موعظة وترهيباً إلا أعقبه بترغيب وبشارة .
وعُدّي فعل { تَلِينُ } بحرف { إلى } لتضمين { تَلِينُ } معنى : تطمئن وتسكن .
{ ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هاد }
استئناف بياني فإن إجراء تلك الصفات الغُرّ على القرآن الدالةِ على أنه قد استكمل أقصى ما يوصف به كلام بالغ في نفوس المخاطبين كيف سلكت آثاره إلى نفوس الذين يخشون ربهم مما يثير سؤالاً يهجس في نفس السامع أن يقول : كيف لم تتأثر به نفوس فريق المصرِّين على الكفر وهو يقرع أسماعهم يوماً فيوماً ، فتقع جملة { ذلك هُدَى الله يَهْدِي بهِ من يَشَاءُ } جواباً عن هذا السؤال الهاجس .
فالإِشارة إلى مضمون صفات القرآن المذكورة وتأثر المؤمنين بهديه ، أي ذلك المذكورُ هدى الله ، أي جعله الله سبَباً كاملاً جامعاً لوسائل الهدى ، فمن فطر الله عقله ونفسَه على الصلاحية لقبول الهدى سريعاً أو بطيئاً اهتدى به ، كذلك ومَن فطر الله قلبه على المكابرة ، أو على فساد الفهم ضلّ فلم يهتد حتى يموت على ضلاله ، فأطلق على هذا الفَطْر اسم الهُدى واسم الضلال ، وأسند كلاهما إلى الله لأنه هو جبَّار القلوب على فطرتها وخالق وسائل ذلك ومدبر نواميسه وأنظمته .
فمعنى إضافة الهدى إلى الله في قوله : { ذلك هُدَى الله } راجع إلى ما هيّأه الله للهدى من صفات القرآن فإضافته إليه بأنه أنزله لذلك . ومعنى إسناد الهدى والإضلال إلى الله راجع إلى مراتب تأثر المخاطبين بالقرآن وعدم تأثرهم بحيث كان القرآن مستوفياً لأسباب اهتداء الناس به فكانوا منهم من اهتدى به ومنهم من ضل عنه .
ويجوز أن تكون الإِشارة إلى { أحْسَنَ الحَدِيثِ } وهو الكتاب ، أي ذلك القرآن هدى الله ، أي دليل هدى الله . ومقصده : اهتدى به من شاء الله اهتداءه ، وكفر به من شاء الله ضلاله .
فجملة { ومَن يُضْلِل الله فما لهُ من هَادٍ } تذييل للاستئناف البياني .
ومعنى { مَن يشَاءُ } على تقدير : من يشاء هديه ، أي من تعلّقت مشيئته ، وهي إرادته بأنه يهتدي فخلقه متأثراً بتلك المشيئة فقدّر له الاهتداء ، وفهم من قوله { مَنْ يَشَاء } أنه لا يهدي به من لم يشأ هديَه وهو ما دلت عليه المقابلة بقوله : { ومَن يُضْلِل الله فما لهُ من هَادٍ } ، أي من لم يشأ هديه فلم يقلع عن ضلاله فلا سبيل لهديه .
والمعنى : إن ذلك لنقص في الضالّ لا في الكتاب الذي من شأنه الهدى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{الله نزل أحسن الحديث} يعني القرآن.
{كتابا متشابها} يشبه بعضه بعضا {مثاني} يعني يثني الأمر في القرآن مرتين أو ثلاثا، أو أكثر من نحو ذكر الأمم الخالية، ومن نحو ذكر الأنبياء، ومن نحو ذكر آدم عليه السلام وإبليس، ومن نحوه ذكر الجنة والنار، والبعث والحساب، ومن نحو ذكر النبت والمطر، ومن نحو ذكر العذاب، ومن نحو ذكر موسى وفرعون.
{تقشعر منه} يعني مما في القرآن من الوعيد {جلود الذين يخشون} عذاب {ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله}.
{ذلك} الذي ذكر من القرآن {هدى الله يهدي به} يعني بالقرآن {من يشاء} لدينه. {ومن يضلل الله} عن دينه {فما له من هاد} إلى دينه، من أضله الله عن الهدى، فلا أحد يهديه إليه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"اللّهُ نَزّلَ أحْسَنَ الحَدِيثِ كِتابا" يعني به القرآن، "مُتَشابِها "يقول: يشبه بعضه بعضا، لا اختلاف فيه، ولا تضادّ... عن سعيد بن جُبَير، في قوله: "كِتابا مُتَشابِها" قال: يشبه بعضه بعضا، ويصدّق بعضه بعضا، ويدلّ بعضه على بعض.
وقوله: "مَثانِيَ" يقول: تُثْنَي فيه الأنباء والأخبار والقضاء والأحكام والحُجَج...
وقوله: "تَقْشَعِر مِنْهُ جُلُودُ الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ" يقول تعالى ذكره: تقشعرّ من سمَاعه إذا تُلي عليهم جلودُ الذين يخافون ربهم، "ثُمّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللّهِ" يعني إلى العمل بما في كتاب الله، والتصديق به...
"ذلكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ" يقول تعالى ذكره: هذا الذي يصيب هؤلاء القوم الذين وصفت صفتهم عند سماعهم القرآن من اقشعرار جلودهم، ثم لينها ولين قلوبهم إلى ذكر الله من بعد ذلك، "هُدَى اللّهِ" يعني: توفيق الله إياهم وفّقهم له "يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ" يقول: يهدي تبارك وتعالى بالقرآن من يشاء من عباده.
وقد يتوجّه معنى قوله: "ذلكَ هُدَى" إلى أن يكون ذلك من ذكر القرآن، فيكون معنى الكلام: هذا القرآن بيان الله يهدي به من يشاء، يوفق للإيمان به من يشاء.
وقوله: "وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هادٍ" يقول تعالى ذكره: ومن يخذلْه الله عن الإيمان بهذا القرآن والتصديق بما فيه، فيضله عنه، فَما له من هاد يقول: فما له من مُوَفّق له، ومسدد يسدده في اتباعه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} أصدقه خبرا وأعدله حكما، وهو ما ذكر في آية أخرى، ووصفه بالصدق والعدل حين قال عز وجل {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} [الأنعام: 115] أي صدقا في خبره وعدلا في حكمه.
وجائز أن يكون قوله: {أحسن الحديث} أي أتقنه وأحكمه، {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]،وهو أحسن الحديث؛ لأن من تأمله ونظر فيه وتفكر، أنار قلبه وأضاء صدره، وهداه سبيل الخير والحق، ودفع عنه الوساوس والشبهات وكل شر، وأفضاه إلى كل خير وبر؛ فهو أحسن الحديث، إذ لا حديث يعمل ما يعمل هو لما ذكرنا وغير ذلك.
{مثاني} أصله أنه سماه مثاني؛ لأنه ذكر فيه المواعظ والذكرى وكررها، في غير موضع لما لو لم يكررها لغفلوا عنها وسهوا عنها، لأن الحكيم إذا وعظ أحدا عظة، وزجره عن شيء، ثم تركه لم يعظه، ولم يزجره ثانيا، غفل عما وعظه، وزجره وسها عنه.
{ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ} عند تلاوة آية الرحمة...
وجائز أن يكون ذلك لهم بجميع القرآن بما فيه من الرحمة والرهبة جميعا؛ يكون فيهما الموعظة: تلين قلوبهم، وتقشعر جلودهم، وتخاف أنفسهم، لأن آية الرحمة ليست بأحق بتليين القلوب من آية الرهبة، بل آية الرهبة أحق بذلك، وقتادة يقول: كانت جلودهم تقشعر وعيونهم تبكي وقلوبهم تطمئن إليه، ولا تذهب عقولهم، ولا يغشى عليهم كما رأينا أهل البدع يفعلونه، وإنما ذلك من الشيطان. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أخبر أن من أضله الله فلا هادي له، على ما قال في المعيشة والرزق؛ قال عز وجل: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2] وقال عز وجل: في الضراء والخير حين قال: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107] ذكر في الضلال والهدى ما ذكر في الرزق والضر والخير...
ذكر أن لله في فعلهم وصنعهم تدبيرا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
إيقاع اسم الله مبتدأ وبناء {نَزَّلَ} عليه: فيه تفخيم لأحسن الحديث ورفع منه، واستشهاد على حسنه، وتأكيد لاستناده إلى الله وأنه من عنده، وأن مثله لا يجوز أن يصدر إلاّ عنه، وتنبيه على أنه وحي معجز مباين لسائر الأحاديث...
{متشابها} مطلق في مشابهة بعضه بعضاً.
فإن قلت: كيف وصف الواحد بالجمع؟ قلت: إنما صحّ ذلك لأنّ الكتاب جملة ذات تفاصيل، وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير، ألا تراك تقول: القرآن أسباع وأخماس، وسور وآيات، وأصله: كتاباً متشابهاً فصولاً مثاني، ويجوز أن لا يكون مثاني صفة، ويكون منتصباً على التمييز من متشابهاً، والمعنى: متشابهة مثانية، فإن قلت: ما فائدة التثنية والتكرير؟ قلت: النفوس أنفر شيء من حديث الوعظ والنصيحة، فما لم يكرر عليها عوداً عن بدء، لم يرسخ فيها ولم يعمل عمله، ومن ثم كانت عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكرر عليهم ما كان يعظ به وينصح ثلاث مرات وسبعاً ليركزه في قلوبهم ويغرسه في صدورهم...
اقشعر الجلد: إذا تقبّض تقبضاً شديداً، وتركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس، مضموماً إليها حرف رابع وهو الراء، ليكون رباعياً ودالاً على معنى زائد. يقال: اقشعر جلده من الخوف وقف شعره، وهو مثل في شدّة الخوف، فيجوز أن يريد به الله سبحانه التمثيل، تصويراً لإفراط خشيتهم، وأن يريد التحقيق.
فإن قلت: ما وجه تعديه «لان» بإلى؟ قلت: ضمن معنى فعل متعدّ بإلى، كأنه قيل: سكنت أو اطمأنت إلى ذكر الله لينة غير متقبضة، راجية غير خاشية.
أما كونه كله متشابها كما في هذه الآية، فقال ابن عباس: معناه أنه يشبه بعضه بعضا، وأقول هذا التشابه يحصل في أمور:
أحدها: أن الكاتب البليغ إذا كتب كتابا طويلا، فإنه يكون بعض كلماته فصيحا، ويكون البعض غير فصيح، والقرآن يخالف ذلك فإنه فصيح كامل الفصاحة بجميع أجزائه.
وثانيها: أن الفصيح إذا كتب كتابا في واقعة بألفاظ فصيحة فلو كتب كتابا آخر في غير تلك الواقعة كان الغالب أن كلامه في الكتاب الثاني غير كلامه في الكتاب الأول، والله تعالى حكى قصة موسى عليه السلام في مواضع كثيرة من القرآن وكلها متساوية متشابهة في الفصاحة.
ورابعها: أن هذه الأنواع الكثيرة من العلوم التي عددناها متشابهة متشاركة في أن المقصود منها بأسرها الدعوة إلى الدين وتقرير عظمة الله، ولذلك فإنك لا ترى قصة من القصص إلا ويكون محصلها المقصود الذي ذكرناه، فهذا هو المراد من كونه متشابها.
الصفة الثالثة: من صفات القرآن كونه مثاني، والمقصود منه بيان أن كل ما سوى الحق زوج ويدل على أن كل شيء مبتلى بضده ونقيضه، وأن الفرد الأحد الحق هو الله سبحانه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان من المستبعد جداً أن يقسو قلب من ذكر الله، بينه الله وصوره في أعظم الذكر فإنه كان للذين آمنوا هدى وشفاء، وللذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وفي أبصارهم عمى، فقال مفخماً للمنزل بجعل الاسم الأعظم مبتدأ وبناء الكلام عليه: {الله} أي الفعال لما يريد الذي له مجامع العظمة والإحاطة بصفات الكمال.
{نزّل} أي بالتدريج للتدريب وللجواب عن كل شبهة.
{أحسن الحديث} وأعظم الذكر، ولولا أنه هو الذي نزله لما كان الأحسن، وأبدل من "أحسن "قوله: {كتاباً} أي جامعاً لكل خير.
{متشابهاً} أي في البلاغة المعجزة والموعظة الحسنة، لا تفاوت فيه أصلاً في لفظ ولا معنى، مع كونه نزل مفرقاً في نيف وعشرين سنة، ولم يقل: مشتبهاً، لئلا يظن أنه كله غير واضح الدلالة وذلك لا يمدح به.
ولما كان مفصلاً إلى سور وآيات وجمل، وصفه بالجمع في قوله: {مثاني} جمع مثنى مفعل من التثنية بمعنى التكرير،لا يمل من تكراره، وترداد قراءته وتأمله واعتباره مع أن جميع ما فيه أزواج من الشيء وضده: المؤمن والكافر...فلا ترتب على شيء من ذلك جزاء صريحاً إلا ثني بإفهام ما لضده تلويحاً، فكان مذكوراً مرتين، ومرغباً فيه أو مرهباً منه كرتين، ويجوز أن يكون التقدير: متشابهة مثانيه، فيكون نصبه على التمييز.
{الذين يخشون} روى الطبراني عن العباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت خطاياه".
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
كذلك تصور الآية الثانية هيئة تلقي المؤمنين لهذا القرآن. هذا الكتاب المتناسق الذي لا اختلاف في طبيعته ولا في اتجاهاته، ولا في روحه، ولا في خصائصه. فهو (متشابه) وهو (مثاني) تكرر مقاطعه وقصصه وتوجيهاته ومشاهده. ولكنها لا تختلف ولا تتعارض، إنما تعاد في مواضع متعددة وفق حكمة تتحقق في الإعادة والتكرار. في تناسق وفي استقرار على أصول ثابتة متشابهة. لا تعارض فيها ولا اصطدام.
والذين يخشون ربهم ويتقونه، ويعيشون في حذر وخشية، وفي تطلع ورجاء، يتلقون هذا الذكر في وجل وارتعاش، وفي تأثر شديد تقشعر منه الجلود؛ ثم تهدأ نفوسهم، وتأنس قلوبهم بهذا الذكر فتلين جلودهم وقلوبهم وتطمئن إلى ذكر الله..
وهي صورة حية حساسة ترسمها الكلمات، فتكاد تشخص فيها الحركات.
(ذلك هدى الله يهدي به من يشاء)..
فما ترتعش القلوب هكذا إلا حين تحركها أصبع الرحمن إلى الهدى والاستجابة والإشراق. والله يعلم من حقيقة القلوب ما يجازيها عليه بالهدى أو بالضلال:
(ومن يضلل الله فما له من هاد)..
فهو يضله بما يعلمه من حقيقته المستقرة على الضلال، التي لا تقبل الهدى ولا تجنح إليه بحال.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف بياني نشأ بمناسبة المضادة بين مضمون جملة {فَوَيْلٌ للقاسِيةِ قُلوبهم من ذِكر الله} [الزمر: 22] ومضمون هذه الجملة؛ وهو أن القرآن يُلين قلوب الذين يخشون ربهم لأن مضمون الجملة السابقة يثير سؤال سائل عن وجه قسوة قلوب الضالين من ذكر الله فكانت جملة {الله نَزَّلَ أحْسَنَ الحدِيثِ} إلى قوله: {مِنْ هَادٍ} مُبينة أن قساوة قلوب الضالّين من سماع القرآن؛ إنما هي لرَيْن في قلوبهم وعقولهم لا لنقص في هدايته، وهذا كما قال تعالى في سورة البقرة {هدى للمتقين} ثم قال: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم} [البقرة: 6 7]...
وافتتاح الجملة باسم الجلالة يؤذن بتفخيم أحسن الحديث المنزل بأن منزّله هو أعظم عظيم، ثم الإِخبار عن اسم الجلالة بالخبر الفعلي يدل على تقوية الحُكم وتحقيقه على نحو قولهم: هو يعطي الجزيل، ويفيد مع التقوية دلالة على الاختصاص، أي اختصاص تنزيل الكتاب بالله تعالى، والمعنى: الله نزّل الكتاب لا غيرُه وضَعه، ففيه إثبات أنه منزّل من عالم القدس، وذلك أيضاً كناية عن كونه وحياً من عند الله لا من وضع البشر، فدلت الجملة على تقوَ واختصاص بالصراحة، وعلى اختصاص بالكناية، وإذ أخذ مفهوم القصْر ومفهوم الكناية وهو المغاير لمنطوقهما كذلك يؤخذ مغاير التنزيل فعلاً يليق بوضع البشر، فالتقدير: لا غير الله وضَعه، ردّاً لقول المشركين: هو أساطير الأولين...
الوصف الأول: أنه أحسن الحديث، أي أحسن الخبر، والتعريف للجنس.
الحديث: الخبر، سمي حديثاً لأن شأن الإِخبار أن يكون عن أمر حدث وجدّ، سمي القرآن حديثاً باسم بعض ما اشتمل عليه من أخبار الأمم والوعد والوعيد. وأما ما فيه من الإِنشاء من أمر ونهي ونحوهما فإنه لما كان النبي صلى الله عليه وسلم مبلغَه للناس آل إلى أنه إخبار عن أمر الله ونهيه، وقد سُمي القرآن حديثاً في مواضع كثيرة كقوله تعالى: {فبأي حديث بعده يؤمنون} في سورة [الأعراف: 185]، ومعنى كون القرآن أحسن الحديث أنه أفضل الأخبار؛ لأنه اشتمل على أفضل ما تشتمل عليه الأخبار من المعاني النافعة والجامعة لأصول الإِيمان والتشريع والاستدلال، والتنبيه على عظم العوالم والكائنات وعجائب تكوين الإِنسان والعقل وبثّ الآداب واستدعاء العقول للنظر والاستدلال الحق، ومن فصاحة ألفاظه وبلاغة معانيه البالغَيْن حدّ الإعجاز، ومن كونه مصدقاً لما تقدمه من كتب الله ومهيمناً عليها، وفي إسناد إنزاله إلى الله استشهاد على حسنه حيث نزّله العليم بنهاية محاسن الأخبار والذكر...
الوصف الثاني: أنه كتاب، أي مجموع كلام مراد قراءته وتلاوته والاستفادة منه، مأمور بكتابته ليبقى حجة على مرّ الزمان فإنّ جعل الكلام كتاباً يقتضي أهمية ذلك الكلام والعناية بتنسيقه والاهتمام بحفظه على حالته، ولما سمّى الله القرآن كتاباً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر كتَّاب الوحي من أصحابه أن يكتبوا كل آية تنزل من الوحي في الموضع المعيّن لها بَين أخواتها استناداً إلى أمر من الله؛ لأن الله أشار إلى الأمر بكتابته في مواضع كثيرة من أولها قوله: {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} [البروج: 21- 22] وقوله: {إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون} [الواقعة: 77- 78].
الصفة الثالثة: أنه متشابه، أي متشابهة أجزاؤه متماثلة في فصاحة ألفاظها وشرف معانيها، فهي متكافئة في الشرف والحسن والإِصابة للأغراض من المعاني بحيث تبلغ ألفاظه ومعانيه أقصى ما تحتمله أشرف لغة للبشر وهي اللغة العربية مفردات ونظماً.
الصفة الرابعة: كونه مثاني، وهذا يتضمن امتناناً على الأمة بأن أغراض كتابها مكررة فيه لتكون مقاصده أرسخ في نفوسها، وليسمعها من فاته سماع أمثالها من قبلُ، ولذا وَصف رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن:"بأنه لا يخلق على كثرة الرد" رواه الترمذي عن علي بن أبي طالب مرفوعاً، وذكر عياض أن الوليد بن المغيرة سمِع من النبي صلى الله عليه وسلم {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل: 90] الآية فقال: « والله إن له لحلاوة وإن عليه لطَلاوة»، وبهذا تعلم أن وصف القرآن هنا بكونه مثاني هو غير الوصف الذي في قوله: {ولقد أتيناك سبعاً من المثاني} [الحجر: 78] لاختلاف ما أريد فيه بالتثنية وإن كان اشتقاق الوصف متّحداً...
الصفة الخامسة: أنه تقشعر منه جلود الذين يخشَون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم، وهذا الوصف مرتب على الوصف قبله وهو كون القرآن مثاني، أي مثنَّى الأغراض، وهو مشتمل على ثلاث جهات:
أولاها: وصف القرآن بالجلالة والروعة في قلوب سامعيه،وهو وصف كمال؛ لأنه من آثار قوة تأثير كلامه في النفوس، ولم يزل شأن أهل الخطابة والحكمة الحرصَ على تحصيل المقصود من كلامهم؛ لأن الكلام إنما يواجه به السامعون لحصول فوائد مرْجوة من العمل به،وقد اقتضى قوله: {تَقْشَعر منه جُلُودُ الذين يخشَونَ ربَّهُم} أن القرآن يشتمل على معان تقشعر منها الجلود وهي المعاني الموسومة بالجَزالة التي تثير في النفوس روعة وجلالة ورهبة تبعث على امتثال السامعين له وعملهم بما يتلقونه من قوارع القرآن وزواجره، وكنّي عن ذلك بحالةٍ تقارِنُ انفعال الخشية والرهبة في النفس، فمعنى {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ} تقشعر من سماعه وفهمه، فإن السماع والفهم يومئذٍ متقارنان؛ لأن السامعين أهل اللسان.
قال تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية اللَّه وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} [الحشر: 21]، وهذه الروعة قد اعْترت جماعة قبل الإِسلام، فمنهم من أسلم لها لأولِ وهلة، حُكي في الحديث الصحيح عن جبير بن مطعم قال: « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ قوله تعالى: {أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} إلى قوله: {المصيطرون} [الطور: 35- 37] كاد قلبي أن يطير وذلك أول ما وُقر الإِسلام في قلبي»، ومنهم من لم يسلم، روي عن محمد بن كعب القرظي قال: « أخبرت أن عتبة بن ربيعة كلّم النبي صلى الله عليه وسلم في كفّه عن سبِّ أصنامهم وتضليلهم وعرض عليه أموراً والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع فلما فرغ قال له النبي صلى الله عليه وسلم اسمع ما أقول، وقَرأ عليه {حم} [فصلت: 1] حتى بلغ قوله: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} [فصلت: 13] فأمسك عتبة على فم النبي صلى الله عليه وسلم وناشده الرحِم أن يكفّ» أي عن القراءة، وأما المؤمن فلا تزال روعته وهيبته إياه مع تلاوته توليه انجذاباً وتكسبه هشاشة لميل قلبه إليه، قال تعالى: {تَقْشَعِرُّ منه جُلُود الذين يخشَونَ ربَّهُم ثمَّ تَلِينُ جلودُهم وقُلُوبهم إلى ذِكرِ الله}...
الجهة الثالثة: من جهات هذا الوصف: أعجوبة جمعه بين التأثيريْن المتضادَّيْن: مرةً بتأثير الرهبة، ومرة بتأثير الرغبة، ليكون المسلمون في معاملة ربهم جارِين على ما يَقتضيه جلالُه وما يقتضيه حلمه ورحمته. وهذه الجهة اقتضاها الجمع بين الجهتين المصرح بهما وهما جهة القشعريرة وجهة اللين، مع كون الموصوف بالأمرين فريقاً واحداً وهم الذين يخشون ربهم، والمقصود وصفهم بالتأثريْن عند تعاقب آيات الرحمة بعد آيات الرهبة.
{ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هاد}، استئناف بياني فإن إجراء تلك الصفات الغُرّ على القرآن الدالةِ على أنه قد استكمل أقصى ما يوصف به كلام بالغ في نفوس المخاطبين كيف سلكت آثاره إلى نفوس الذين يخشون ربهم مما يثير سؤالاً يهجس في نفس السامع أن يقول: كيف لم تتأثر به نفوس فريق المصرِّين على الكفر وهو يقرع أسماعهم يوماً فيوماً، فتقع جملة {ذلك هُدَى الله يَهْدِي بهِ من يَشَاءُ} جواباً عن هذا السؤال الهاجس، فالإِشارة إلى مضمون صفات القرآن المذكورة وتأثر المؤمنين بهديه، أي ذلك المذكورُ هدى الله، أي جعله الله سبَباً كاملاً جامعاً لوسائل الهدى، فمن فطر الله عقله ونفسَه على الصلاحية لقبول الهدى سريعاً أو بطيئاً اهتدى به، كذلك ومَن فطر الله قلبه على المكابرة، أو على فساد الفهم ضلّ فلم يهتد حتى يموت على ضلاله، فأطلق على هذا الفَطْر اسم الهُدى واسم الضلال، وأسند كلاهما إلى الله لأنه هو جبَّار القلوب على فطرتها وخالق وسائل ذلك ومدبر نواميسه وأنظمته...
يقول الله تعالى: ما دُمتم ستتبعون الأحسن وتختارونه فأنا مُنزِلٌ عليكم أحسن الحديث، نعم هو أحسن الحديث لأنه كلامُ الله وكلام الله صفته، وهو كامل الكمال المطلق، وقد جعله الله مُعْجزاً، وتولى سبحانه حفظه بنفسه ولم يكل حفظه للخلق.
وفي عُرْف البشر أن الإنسان لا يحفظ إلا ما كان حجة له ولا يحفظ الحجة عليه، أما الحق سبحانه فيحفظ القرآن وهو حجة عليه سبحانه لخَلْقه، فكل ما أتى في القرآن ضمن الحق سبحانه حدوثه، كما أخبرنا الله به لأنه هو منزله وهو حافظه.
والمراد بأحسن الحديث القرآن الكريم، ومعنى {مُّتَشَابِهاً} [الزمر: 23] أي: يشبه بعضُه بعضاً في الحُسْن أو في البلاغة أو في الموضوع، فإياك أن تقول: هذه الآية أبلغ من هذه، لأن كل آية بليغة في موضوعها...
وقوله: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ..} وهذه صفة العبد الذي يخشى ربه ويراقبه ويعمل لنظره إليه حساباً، لأنه دائماً يعرض سلوكه على ربه، فإن رأى فيه مخالفة عاد إلى كلام الله وتذكَّر وعيده فيحدث عنده قشعريرة في جلده من خشية ربه، وهي أنْ يجفّ الجلد ويقعقع وتحدث رعشة في البدن من خوف العذاب، ومن خوف غضب الله، ثم يعود فيتذكر رحمة ربه التي سبقتْ غضبه، وعفوه الذي سبق عقوبته، فيعود إلى حالته الأولى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ}.
إذن: المؤمن يجمع بين الخوف والرجاء، وقلبه بين هذين الأمرين، فساعةَ يتذكر العقاب على المخالفة يقشعر جلده خوفاً، وساعة يتذكر رحمة ربه يلين جلده ويهدأ قلبه، ولِمَ لا وربه قد قال: {قُلْ يٰعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
(ذلك) وهذا هو الذي يحدث للمؤمن {هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23] وقد وقف كثيرون عند هذه الآية يقولون: ما دام أن الله هو الذي يُضل فَلِمَ يُعذّب الضال؟ ومعنى {وَمَن يُضْلِلِ} يعني: يعلم ضلاله، ويعلم أنه لن يسمع كلامه ولن يتبع منهجه، وقد خلقه الله تعالى مختاراً إنْ شاء آمن وإنْ شاء كفر، إذن: فالكافر ما كفر غَصْباً عن الله، إنما هل رضي الله منه ذلك؟
وقوله: {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يعني: إياكم أنْ تستدركوا على الله بأحكام بشرية تُصنِّفها لكم عقول الذين يستنكفون أنْ يأخذوا عن الله، فما دام الله قال فلا يصح أنْ نستدركَ عليه سبحانه؛ لأنه لا يمكن أنْ نأتي بهدي أحسن من هُدَى الله.