{ 94 - 95 ْ } { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ْ }
يقول تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ ْ } يدعوهم إلى عبادة اللّه ، وينهاهم عن ما هم فيه من الشر ، فلم ينقادوا له : إلا ابتلاهم الله { بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ْ } أي : بالفقر والمرض وأنواع البلايا { لَعَلَّهُمْ ْ } إذا أصابتهم ، أخضعت نفوسهم فتضرعوا إلى الله واستكانوا للحق .
واستمع إلى السورة الكريمة وهى تصور هذه المعانى وغيرها بأسلوبها الحكيم فتقول : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ . . . . } .
هذه هى الآيات التي جاءت في السورة الكريمة بعد حديثها المتنوع عن بعض الأنبياء مع أقوامهم ، وقبل حديثها المستفيض - الذي سنراه بعد قليل عن قصة موسى مع فرعون ومع بنى إسرائيل .
وقد بدئت بقوله - تعالى - : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأسآء والضرآء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } البأساء : الشدة والمشقة كلاحرب والجدب وشدة الفقر . والضراء : ما يضر الإنسان في بدنه أو معيشته كالمرض والمصائب .
والمعنى : ذلك الذي قصصناه عليك يا محمد شأن الرسل السابقين مع أقوامهم الهالكين لهم ألوانا من الشدائد والمصائب لعلهم ينقادون لأمر الله ، ويثوبون إلى رشدهم ، ويكثرون من التضرع إليه والاستجابة لهديه .
فالآية الكريمة إشارة إجمالية إلى بيان أحوال سائر الأمم ، إثر بيان أحوال الأمم التي سبق الحديث عنها وهى أمة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب - عليه السلام - .
والمقصود منها التحذير والتخويف لكفار قريش وغيرهم ، لينزجروا عن الضلال والعناد ، ويستجيبوا لله ولرسوله .
وإنما ذكر القرية لأنها مجتمع القوم الذين بعث إليهم ، ويدخل تحت هذا اللفظ المدينة لأنها مجتمع الأقوام .
وقوله : { مِّن نَّبِيٍّ } فيه حذف وإضمار والتقدير : من نبى كذبه قومه أو أهل القرية لأن قوله : { إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا } لا يترتب على الإرسال ، وإنما يترتب على التكذيب والعصيان . و { مِّن } لتأكيد النفى .
والاستثناء في قوله : { إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا } مفرغ من أعم الأحوال ، و { أَخَذْنَا } في موضع نصب على الحال من فاعل { أَرْسَلْنَا } أى : وما أرسلنا - في قرية من القرى المهلكة بسبب ذنوبها - نبيا من الأنبياء في حال من الأحوال إلا حال كوننا آخذين أهلها بالبأساء والضراء . قبل إنزال العقوبة المستأصلة لهم .
وجملة { لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } تعليلية . أى : فعلنا ما فعلنا لكى يتضرعوا ويتذللوا ويتوبوا من ذنوبهم .
فما يأخذ الله به الغافلين من الشدائد والمحن ليس من أجل التسلية والتشفى - تعالى الله عن ذلك - وإنما من أجل أن ترق القلوب الجامدة ، وتتعظ المشاعر الخامدة ، ويتجه البشر الضعاف إلى خالقهم ، يتضرعون إليه ويستغفرونه ، عما فرط منهم من خطايا .
عطفت الواو جملة { ما أرسلنا } على جملة { وإلى مدين أخاهم شعيباً } [ الأعراف : 85 ] ، عطف الأعم على الأخص . لأن ما ذكر من القصص ابتداء من قوله تعالى : { لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه } [ الأعراف : 59 ] كله ، القصد منه العبرة بالأمم الخالية موعظة لكفّار العرب فلما تلا عليهم قصص خمس أمم جاء الآن بحكم كلي يعم سائر الأمم المكذبة على طريقة قياس التمثيل ، أو قياس الاستقراء الناقص ، وهو أشهر قياس يسلك في المقامات الخطابية ، وهذه الجمل إلى قوله : { ثم بعثنا من بعدهم موسى } [ يونس : 75 ] كالمعترضة بين القَصَص ، للتنبيه على موقع الموعظة ، وذلك هو المقصود من تلك القصص ، فهو اعتراض ببيان المقصود من الكلام وهذا كثير الوقوع في اعتراض الكلام .
وعُدّيَ { أرسلنا } ب ( في ) دون ( إلى ) لأن المراد بالقرية حقيقتها ، وهي لا يرسل إليها وإنما يرسل فيها إلى أهلها ، فالتقدير : وما أرسلنا في قرية من نبيء إلى أهلها إلاّ أخذنا أهلها فهو كقوله تعالى : { وما كان ربّك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً } [ القصص : 59 ] ولا يجري في هذا من المعنى ما يجري في قوله تعالى الآتي قريباً : { وأرسل في المدائن حاشرين } [ الأعراف : 111 ] إذ لا داعي إليه هنا .
و { منْ } مزيد للتنصيص على العموم المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي ، وتخصيص القرى بإرسال الرسل فيها دون البوادي كما أشارت إليه هذه الآية وغيرها من آي القرآن ، وشهد به تاريخ الأديان ، ينبىء أن مراد الله تعالى من إرسال الرسل هو بث الصلاح لأصحاب الحضارة التي يتطرق إليها الخلل بسبب اجتماع الأصناف المختلفة ، وإن أهل البوادي لا يخلون عن الإنحياز إلى القرى والإيواء في حاجاتهم المدنية إلى القرى القريبة ، فأما مجيء نبيء غير رسول لأهل البوادي فقد جاء خالد بن سنان نبياً في بني عبس ، وأما حنظلة بن صفوان نبيء أهل الرسّ فالأظهر أنه رسول لأن الله ذكر أهل الرسل في عداد الأمم المكذبة ، وقد قيل : إنه ظهر بقرية الرس التي تسمى أيضاً ( فتح ) بالمهملة أو ( فتَخ ) بالمعجمة أو ( فيْج ) بتحتية وجيم ، أو فلْج ( بلام وجيم ) من اليمامة .
والاستثناء مفرغ من أحوال ، أي ما أرسلنا نبيّاً في قرية في حال من الأحوال إلاّ في حال أنّنا أخذنا أهلها بالبأساء ، وقد وقع في الكلام إيجاز حذف دل عليه قوله : { لعلهم يضرّعون } فإنه يدل على أنهم لم يضرّعُوا قبل الأخذ بالبأساء والضراء ، فالتقدير : وما أرسلنا في قرية من نبيء إلاّ كذبه أهل القرية فخوفناهم لعلّهم يذلون لله ويتركون العناد الخ . . .
والأخذ : هنا مجاز في التناول والإصابة بالمكروه الذي لا يستطاع دفعه ، وهو معنى الغلبة ، كما تقدم في قوله تعالى : { ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخدناهم بالبأساء والضراء } في سورة الأنعام ( 42 ) .
وقوله : { بالبأساء والضراء لعلهم يضرّعون } تقدم ما يُفسّرها في قوله : { ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلّهم يتضرعون } في سورة الأنعام ( 42 ) . ويُفسر بعضها أيضاً في قوله : { والصابرين في البأساء والضراء } في سورة البقرة ( 177 ) .
واستغنت جملة الحال الماضوية على الواو و ( قد ) بحرف الاستثناء ، فلا يجتمع مع ( قد ) إلاَّ نادراً ، أي : ابتدأناهم بالتخويف والمصائب لتَفُل من حدتهم وتصرف تأملهم إلى تطلب أسباب المصائب فيعلموا أنها من غضب الله عليهم فيتوبوا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.