التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِي قَرۡيَةٖ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّآ أَخَذۡنَآ أَهۡلَهَا بِٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمۡ يَضَّرَّعُونَ} (94)

واستمع إلى السورة الكريمة وهى تصور هذه المعانى وغيرها بأسلوبها الحكيم فتقول : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ . . . . } .

هذه هى الآيات التي جاءت في السورة الكريمة بعد حديثها المتنوع عن بعض الأنبياء مع أقوامهم ، وقبل حديثها المستفيض - الذي سنراه بعد قليل عن قصة موسى مع فرعون ومع بنى إسرائيل .

وقد بدئت بقوله - تعالى - : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأسآء والضرآء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } البأساء : الشدة والمشقة كلاحرب والجدب وشدة الفقر . والضراء : ما يضر الإنسان في بدنه أو معيشته كالمرض والمصائب .

والمعنى : ذلك الذي قصصناه عليك يا محمد شأن الرسل السابقين مع أقوامهم الهالكين لهم ألوانا من الشدائد والمصائب لعلهم ينقادون لأمر الله ، ويثوبون إلى رشدهم ، ويكثرون من التضرع إليه والاستجابة لهديه .

فالآية الكريمة إشارة إجمالية إلى بيان أحوال سائر الأمم ، إثر بيان أحوال الأمم التي سبق الحديث عنها وهى أمة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب - عليه السلام - .

والمقصود منها التحذير والتخويف لكفار قريش وغيرهم ، لينزجروا عن الضلال والعناد ، ويستجيبوا لله ولرسوله .

وإنما ذكر القرية لأنها مجتمع القوم الذين بعث إليهم ، ويدخل تحت هذا اللفظ المدينة لأنها مجتمع الأقوام .

وقوله : { مِّن نَّبِيٍّ } فيه حذف وإضمار والتقدير : من نبى كذبه قومه أو أهل القرية لأن قوله : { إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا } لا يترتب على الإرسال ، وإنما يترتب على التكذيب والعصيان . و { مِّن } لتأكيد النفى .

والاستثناء في قوله : { إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا } مفرغ من أعم الأحوال ، و { أَخَذْنَا } في موضع نصب على الحال من فاعل { أَرْسَلْنَا } أى : وما أرسلنا - في قرية من القرى المهلكة بسبب ذنوبها - نبيا من الأنبياء في حال من الأحوال إلا حال كوننا آخذين أهلها بالبأساء والضراء . قبل إنزال العقوبة المستأصلة لهم .

وجملة { لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } تعليلية . أى : فعلنا ما فعلنا لكى يتضرعوا ويتذللوا ويتوبوا من ذنوبهم .

فما يأخذ الله به الغافلين من الشدائد والمحن ليس من أجل التسلية والتشفى - تعالى الله عن ذلك - وإنما من أجل أن ترق القلوب الجامدة ، وتتعظ المشاعر الخامدة ، ويتجه البشر الضعاف إلى خالقهم ، يتضرعون إليه ويستغفرونه ، عما فرط منهم من خطايا .