في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِي قَرۡيَةٖ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّآ أَخَذۡنَآ أَهۡلَهَا بِٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمۡ يَضَّرَّعُونَ} (94)

هذا الجزء - التاسع - يتألف من شطرين : الشطر الأول هو بقية " سورة الأعراف " - من القرآن المكي - وهو يؤلف ثلاثة أرباع هذا الجزء . . والشطر الثاني هو نصف الحزب الأول من سورة الأنفال - من القرآن المدني - وهو يؤلف الربع الباقي من الجزء . .

وسنكتفي هنا بالعرض الإجمالي للشطر الأول . ونرجىء الشطر الثاني إلى موضعه . حيث نقدم - إن شاء الله - سورة الانفال ؛ وفق المنهج الذي اتبعناه في التعريف بسور القرآن . .

مضى في الجزء الثامن - في الشطر الذي استعرضناه هناك من سورة الأعراف - قصص الرسل والرسالات والأقوام بعد آدم عليه السلام . وعرضنا من موكب الإيمان هناك قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب - عليهم السلام - ومصارع المكذبين من أقوامهم ونجاة المؤمنين .

فالآن يبدأ هذا الجزء بتكملة لقصة شعيب - عليه السلام - وقد اخترنا أن نضمها إلى نهاية الجزء الثامن تكملة للقصة هناك . .

ثم يقف سياق السورة وقفة للتعقيب على ذلك القصص - وفق منهج السورة - فيكشف في هذا التعقيب عن خطوات قدر الله بالمكذبين . . كيف يأخذهم بالبأساء والضراء لعل قلوبهم تصحو وترق ، وتلجأ إلى الله وتتضرع إليه ، فإذا لم تستيقظ هذه القلوب ولم تتفتح ولم تنتفع بالابتلاء ، أخذهم الله بالسراء - وهي أشد في الابتلاء - حتى يزدادوا عن قدر الله غفلة ، ويظنوا الحياة لهواً ولعباً . وعندئذ يأخذهم الله بغتة على حين غفلة : ( وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون . ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عَفوا ، وقالوا : قد مس آباءنا الضراء والسراء ! فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون ) . .

وهنا يكشف السياق كذلك عن العلاقة بين القيم الإيمانية وسنن الله في أخذ الناس ، حيث لا انفصال في خطوات قدر الله بين هذه السنن وتلك القيم . هذه العلاقة التي تخفى على الغافلين ، لأن آثارها قد لا تبدو في المدى القريب ؛ ولكنها لا بد واقعة في المدى الطويل : ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ؛ ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ) . .

ويعقب الكشف عن خطوات قدر الله بالمكذبين ؛ وسنته وعلاقتها بالقيم الإيمانية في حياة البشر ؛ لمسات من التهديد تهز القلوب ؛ ولفتات إلى مصارع المكذبين توقظ الغافلين : ( أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون . أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ؟ أفأمنوا مكر الله ؟ فلا يأمنمكر الله إلا القوم الخاسرون ) ( أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لونشاء أصبناهم بذنوبهم ، ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون ) . .

وينتهي هذا التعقيب بلفتة إلى رسول الله [ ص ] عن هذا القصص ؛ وتلخيص لأمر الأقوام التي كذبت من قبل ؛ ووصف لحقيقة حالهم ونسيانهم لعهد الله معهم على الاعتراف بألوهيته ووحدانيته ؛ وعدم جدوى الآيات والبينات والخوارق التي جاءهم بها رسلهم ، بسبب تعطل فطرتهم وغفلة قلوبهم : ( تلك القرى نقص عليك من أنبائها . ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات ، فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل . كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين . وما وجدنا لأكثرهم من عهد ، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ) . .

وبعد هذه الوقفة للتعقيب على مصارع قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم لوط ، وقوم شعيب . . تجيء قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون وملئه أولاً ؛ ثم مع قومه بني إسرائيل أخيراً . . وتشغل قصة موسى في هذه السورة أوسع مساحة وأكبر قدر شغلته في سورة واحدة من سور القرآن كلها . . وقد وردت حلقات من قصة بني إسرائيل في مواضع كثيرة ؛ وذلك عدا الإشارات القصيرة إليها في مواضع من القرآن أخرى . . وكانت أكثر القصص وروداً في القرآن كله . . ولعل ذلك التفصيل في قصة هذه الأمة كان للحكمة التي أشرنا إليها من قبل - في هذه الظلال - في الجزء السادس في صفحتي 868 - 869 على النحو التالي :

" من جوانب هذه الحكمة أن بني إسرائيل هم أول من واجه الدعوة الإسلامية بالعداء والكيد والحرب في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها . فقد كانوا حرباً على الجماعة المسلمة منذ اليوم الأول . هم الذين احتضنوا النفاق والمنافقين في المدينة ؛ وأمدوهم بوسائل الكيد للعقيدة وللمسلمين معا . وهم الذين حرضوا المشركين وواعدوهم وتآمروا معهم على الجماعة المسلمة . وهم الذين تولوا حرب الإشاعات والدس والكيد في الصف المسلم ؛ كما تولوا بث الشبهات والشكوك والتحريفات حول العقيدة وحول القيادة . وذلك كله قبل أن يسفروا بوجوههم في الحرب المعلنة الصريحة . . فلم يكن بد من كشفهم للجماعة المسلمة ، لتعرف من هم أعداؤها : ماطبيعتهم ؟ وما تاريخهم ؟ وما وسائلهم ؟ وما حقيقة المعركة التي تخوضها معهم ؟

" ولقد علم الله أنهم سيكونون أعداء هذه الأمة في تاريخها كله ؛ كما كانوا أعداء هدى الله في ماضيهم كله . فعرض لهذه الأمة أمرهم كله مكشوفاً ؛ ووسائلهم كلها مكشوفة .

" ومن جوانب هذه الحكمة أن بني إسرائيل هم أصحاب آخر دين قبل دين الله الأخير . وقد امتد تاريخهم قبل الإسلام فترة طويلة ؛ ووقعت الانحرافات في عقيدتهم ، ووقع منهم النقض المتكرر لميثاق الله معهم ؛ ووقع في حياتهم آثار هذا النقض وهذا الانحراف ، كما وقع في أخلاقهم وتقاليدهم . . فاقتضى هذا أن تلم الأمة المسلمة - وهي وارثة الرسالات كلها وحاضنة العقيدة الربانية بجملتها - بتاريخ القوم ، وتقلبات هذا التاريخ ؛ وتعرف مزالق الطريق وعواقبها ، ممثلة في حياة بني إسرائيل وأخلاقهم ، لتضم هذه التجربة - في حقل العقيدة والحياة - إلى حصيلة تجاربها ؛ وتنتفع بهذا الرصيد وتنفع على مدار القرون . ولتتقي - بصفة خاصة - مزالق الطريق ، ومداخل الشيطان ، وبوادر الانحراف ، على هدى التجارب الأولى .

" ومن جوانب هذه الحكمة أن تجربة بني إسرائيل ذات صحائف شتى في المدى الطويل . وقد علم الله أن الأمد حين يطول على الأمم تقسو قلوبها ، وتنحرف أجيال منها ؛ وأن الأمة المسلمة التي سيمتد تاريخها حتى تقوم الساعة ، ستصادفها فترات تمثل فترات من حياة بني إسرائيل ؛ فجعل أمام أئمة هذه الأمة وقادتهاومجددي الدعوة في أجيالها الكثيرة ، نماذج من العقابيل التي تلم بالأمم ؛ يعرفون منها كيف يعالجون الداء بعد معرفة طبيعته . ذلك أن أشد القلوب استعصاء على الهدى والاستقامة هي القلوب التي عرفت ثم انحرفت ! فالقلوب الغفل الخامة أقرب إلى الاستجابة ، لأنها تفاجأ من الدعوة بجديد يهزها ، وينفض عنها الركام ، لجدته عليها ، وانبهارها بهذا الجديد الذي يطرق فطرتها لأول مرة . فأما القلوب التي نوديت من قبل ، فالنداء الثاني لا تكون له جدته . ولا تكون له هزته ؛ ولا يقع فيها الإحساس بضخامته وجديته ؛ ومن ثم تحتاج إلى الجهد المضاعف ، وإلى الصبر الطويل ! " . .

. . . الخ

وقد وردت حلقات من قصة موسى - عليه السلام - وبني إسرائيل من قبل في هذه الظلال - المرتبة وفق ترتيب السور في المصحف لا وفق ترتيب النزول - في سورة البقرة ، وسورة آل عمران ، وسورة النساء ، وسورة المائدة ، وسورة الأنعام . . ولكن إذا اعتبرنا ترتيب النزول ، فإن هذه الحلقات الواردة منها هنا في سورة الأعراف المكية تكون سابقة على ما ورد منها في السور المدنية . وذلك ظاهر من طبيعة عرضها هنا وطبيعة عرضها هناك . فهي هنا تعرض على طريقة الحكاية والقصص . وهناك تعرض على سبيل مواجهة بني إسرائيل بها ، وتذكيرهم بأحداثها ووقائعها ومواقفهم فيها .

ولقد وردت القصة في أكثر من ثلاثين موضعاً في القرآن كله - مكية ومدنيه - ولكن ورودها مفصلة اقتصر على عشرة مواضع في عشر سور منها ستة مواضع هي أكثرها تفصيلاً . والذي ورد منها في سورة الأعراف كان أول تفصيل . . كما أنه هو أوسع مساحة . وإن تكن الحلقات التي وردت في هذه المساحة أقل مما ورد منها في سورة طه .

وهي تبدأ هنا من حلقة مواجهة فرعون وملئه بالرسالة . بينما تبدأ في سورة طه من حلقة النداء لموسى - عليه السلام - في جانب الطور . وتبدأ في سورة القصص من حلقة مولد موسى في فترة اضطهاد بني إسرائيل . . ويبدأ عرضها - متناسقاً مع جو السورة وأهدافها على طريقة القرآن في سياقة القصص كله - بالتوجيه إلى عاقبة تكذيب فرعون وملئه . وذلك منذ اللحظة الأولى في عرضها : ( ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه ، فظلموا بها . فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ) .

ثم تمضي حلقات القصة ومشاهدها . . أولاً . . في مواجهة فرعون وملئه . . وأخيراُ في مواجهة بني إسرائيل ، والتوائهم وزيغهم وانحرافهم !

ولما كنا سنستعرض القصة - فيما بعد - بالتفصيل . فإننا نكتفي هنا بالوقوف أمام معالمها البارزة وموحياتها الكلية :

إن موسى - عليه السلام - يواجه فرعون وملأه بأنه رسول من رب العالمين : وقال موسى : يا فرعون إني رسول من رب العالمين . حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل . . كذلك حين تقع المباراة بينه وبين سحرة فرعون فيغلبون ويؤمنون ، فإنهم يؤمنون برب العالمي ( وألقي السحرة ساجدين . قالوا : آمنا برب العالمين . رب موسى وهارون . . وحين يهددهم فرعون بالعذاب الرعيب : فإنهم يتجهون إلى ربهم ، ويعلنون أنهم عائدون إليه في حياتهم ومماتهم وبعثهم وفي أمرهم كله : قالوا : إنا إلى ربنا منقلبون . تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ، ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين . .

ثم إن موسى - عليه السلام - وهو يعلم قومه في مواضع كثيرة يعرفهم بربهم الحق . . فعندما أعلن فرعون أنه سيعيد اضطهاد بني إسرائيل بقتل ذكورهم واستحياء إناثهم قال( موسى لقومه استعينوا باللّه واصبروا ، إن الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ) . . . ( قالوا : أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعدما جئتنا . قال : عسى ربكم أن يهلك عدوكم ، ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ) . . وعندما جاوز بهم البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم وطلبوا إلى موسى أن يجعل لهم إلهاً كما لهؤلاء القوم آلهة ! ( قال : إنكم قوم تجهلون . إن هؤلاء مُتَبَّرٌ ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون . قال : أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين ؟ ) . .

فهذه النصوص القرآنية في القصة تثبت حقيقة الدين الذي جاء به موسى عليه السلام ؛ وحقيقة التصور الاعتقادي الذي تنشئه هذه الحقيقة . . وهو التصور الصحيح الذي جاء به الإسلام ؛ وتضمنه دين الله في جميع الرسالات . كما أنها تثبت زيف النظريات والتكهنات التي يدلي بها الباحثون في تاريخ الأديان من الغربيين ومن يأخذ بمنهجهم وتقريراتهم ممن يكتبون عن تطور العقيدة !

كذلك تثبت هذه النصوص ألوان الانحراف التي صاحبت تاريخ بني إسرائيل وجبلتهم الملتوية - حتى بعد بعثة موسى عليه السلام . ذلك من مثل قولهم : ( يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ) . . ومثل اتخاذهم العجل في غيبة موسى على الجبل لميقاته مع ربه ! ومثل طلبهم رؤية الله جهرة وإلا فإنهم لا يؤمنون ! ولكن هذه الانحرافات لا تمثل حقيقة العقيدة التي جاء بها موسى من ربه . إنما هي انحرافات عن هذه العقيدة . فكيف تحسب الانحرافات إذن على العقيدة ذاتها ؟ ويقال : إنها " تطورت " إلى التوحيد ؟ !

كذلك تكشف مواجهة موسى لفرعون وملئه عن حقيقة المعركة بين دين الله كله وبين الجاهلية كلها . وتبين كيف ينظر الطاغوت إلى هذا الدين ؛ وكيف يحس فيه الخطر على وجوده ؛ كما تبين كيف يدرك المؤمنون حقيقة المعركة بينهم وبين الطاغوت !

إنه بمجرد أن قال موسى عليه السلام لفرعون : يا فرعون إني رسول من رب العالمين . حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق ، . . . قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل . . تبين مدلول هذه الدعوة إلى ( رب العالمين ) . . إنه رد السلطان كله إلى الله برد عبودية العالمين كلها إلى رب العالمين ! وبناء على هذا المدلول طلب موسى إطلاق سراح بني إسرائيل . فإنه إذ كان الله رب العالمين ، فما يكون لعبد من عبيده - وهو فرعون المتجبر الطاغي - أن يعبدهم لنفسه . فهم ليسوا عبيداً إلا لرب العالمين . . إن رد الربوبية كلها لله سبحانه معناه رد الحاكمية كلها له . فالحاكمية هي مظهر ربوبية الله للناس - وهم من العالمين - وهي تتجلى في العالمين كذلك بخضوعهم لله وحده . فلا يكون الناس معترفين بربوبية الله لهم إلا إذا خضعوا له وحده ؛ والا إذا خلصت عبوديتهم لهذه الربوبية . . أو بتعبير آخر لهذه الحاكمية . . وإلا فقد أنكروا ربوبية الله لهم متى خضعوا لحاكمية أحد غيره . لا يحكمهم بشرعه .

ولقد أدرك فرعون وملؤه خطر الدعوة إلى ( رب العالمين ) . وأحسوا أن توحيد الربوبية معناه سلب سلطان فرعون - وسلطانهم المستمد منه - فعبروا عن هذا الخطر بأن موسى يريد أن يخرجهم من أرضهم : ( قال الملأ من قوم فرعون : إنّ هذا لساحر عليم . يريد أن يخرجكم من أرضكم . فماذا تأمرون ؟ ) . . ( وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك ؟ ) . . وما أرادوا إلا أن هذه الدعوة إلى ربالعالمين لا تحمل إلا مدلولاً واحداً هو انتزاع السلطان من يد العبيد - الطواغيت - ورده إلى صاحبه - سبحانه - وهذا معناه - من وجهة نظرهم - الإفساد في الأرض ! أو كما يقال اليوم في قوانين الجاهلية لمثل هذه الدعوة بذاتها : إنها محاولة لقلب نظام الحكم ! ومن وجهة نظر الطواغيت الجاهلية التي تغتصب سلطان الله - أي تغتصب ربوبيته وتزاول اختصاصاتها ولو لم تقل هذا باللسان - يكون هذا " قلباً " لنظام الحكم . لأن نظام الحكم في الجاهليات يقوم على ربوبية عبد من العبيد لبقية العبيد . بينما الدعوة إلى رب العالمين تعني أن تكون الربوبية على العبيد لخالق العبيد ! وكذلك قال فرعون للسحرة الذين بهرهم الحق فآمنوا برب العالمين ؛ وخلعوا ربقة العبودية له بهذا الإعلان : إنهم يمكرون لإخراج أهل المدينة من مدينتهم . وهددهم بأبشع العذاب والنكال : قال فرعون : آمنتم به قبل أن آذن لكم ! إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون . لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ، ثم لأصلبنكم أجمعين . .

ومن الجانب الآخر كان هؤلاء السحرة الذين آمنوا برب العالمين ؛ وأسلموا لله وحده ؛ وأعلنوا الخروج من العبودية الزائفة للطاغوت المغتصب للربوبية واختصاصاتها . . كانوا يعلمون حقيقة المعركة بينهم وبين الطاغوت . إنها المعركة على العقيدة . لأن هذه العقيدة تهدد سلطان الطواغيت بمجرد إعلان أصحابها أن عبوديتهم خالصة لرب العالمين . بل بمجرد إعلان أن الله رب العالمين ! ومن ثم قالوا لفرعون رداُ على اتهامه لهم بأن هذا مكر مكروه في المدينة ليخرجوا منها أهلها - وهو مرادف للاتهام في الجاهليات الحديثة لكل من يعلن ربوبية الله للعالمين بمعناها الجاد بأنه يعمل على قلب نظام الحكم ! - : ( وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ) . . ثم لجأوا إلى ربهم الذي آمنوا به فتمردوا على العبودية لغيره قائلين : ( ربنا أفرغ علينا صبراُ وتوفنا مسلمين ) . . فكان هذا فرقاناُ جعله الله في قلوبهم حين استقرت حقيقة الإسلام لله فيها .

ومن خلال عرض الآيات التي جاء بها موسى لفرعون وملئه ؛ وما أخذهم الله به من السنين ونقص الثمرات ، وما أرسله عليهم من الآفات . ومواجهتهم لهذا كله بالعناد والمراوغة والإصرار في النهاية على ما هم فيه حتى أهلكهم الله كما يقول تعالى : ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون . فإذا جاءتهم الحسنة قالوا : لنا هذه ، وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه - ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون - وقالوا : مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين . فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، آيات مفصلات ، فاستكبروا وكانوا قوماُ مجرمين . ولما وقع عليهم الرجز قالوا : يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك . لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ، ولنرسلن معك بني إسرائيل . فلما كشفنا عنهم الرجز - إلى أجل هم بالغوه - إذا هم ينكثون . فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين . . من خلال عرض هذا كله يتبين مدى إصرار الطاغوت على الباطل في وجه الحق . ومدى مقاومته للدعوة إلى ( رب العالمين ) . . ذلك أنه يعلم علم اليقين أن هذه الدعوة بذاتها هي حرب عليه ، بإنكار شرعية قيامه من أساسه ! وما يمكن أن يسمح الطاغوت بإعلان أن لا إله إلا الله . أو أن الله هو رب العالمين . إلا حين تفقد هذه الكلمات مدلولها الحقيقي ، وتصبح مجرد كلمات لا مدلول لها . . وهي في مثل هذه الحالة لا تؤذيه ! لأنها لا تعنيه ! فأما حين تأخذ عصبة من الناس هذه الكلمات جداً بمدلولها الحقيقي ، فإن الطاغوت الذي يزاول الربوبية - بمزاولته للحاكمية بغير شرع الله ، وتعبيد الناس له بهذه الحاكمية وعدم إرسالهم لله - لا يطيق هذه العصبة . كما لم يطق فرعون دعوة موسى إلى رب العالمين ، وإعلان السحرة المؤمنين أنهم آمنوا برب العالمين . وكما ظل هو والملأ من قومه مصرين على رد هذه الدعوة ، والآيات تتوالى عليهم ، والنكبات كذلك تتوالى عليهم من الجدب والآفات والجوع والبلاء . . ولكن هذا كله كان عندهم أيسر وأهون من التسليم بربوبية الله للعالمين . لما تحويه من مدلول صريح بعزلهم هم عن مزاولة هذا السلطان المغتصب ، الذي يعبدون به الناس لغير رب العالمين !

كذلك تتجلى من خلال عرض هذه الآيات خطوات قدر الله بالمكذبين . . من أخذهم بالبأساء والضراء . ثم أخذهم بالرخاء والسراء . ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر في نهاية المطاف ! والتمكين للمؤمنين الذين كانوا يستضعفون : ( وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ، وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ، ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه ، وما كانوا يعرشون ) . .

ولكن بني إسرائيل غلبت عليهم جبلتهم الملتوية الخبيثة . ففسقوا عن أمر الله - كما يجلو السياق القرآني ذلك - وراوغوا موسى نبيهم وزعيمهم ومنقذهم مراوغة مؤذية ؛ وعصوا وبطروا النعمة ولم يستقيموا ولم يشكروا ؛ وتكرر منهم ذلك كله بعد مغفرة الله لهم وقبولهم مرة بعد مرة ، إلى أن حقت عليهم كلمة الله في النهاية : ( وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب . إن ربك لسريع العقاب ، وإنه لغفور رحيم ) . .

ولقد صدق وعيد الله . . ولا بد أن يصدق في مقبل الأيام . . وإنما هي دورات لهم في التاريخ . حتى إذا عتوا وأفسدوا وتجبروا واشتد أذاهم ، بعث الله عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة !

وأخيراً فإن هذه السورة مكية . وقد ورد فيها عن التواء بني إسرائيل ومعصيتهم وسوء جبلتهم الكثير . . بينما يزعم المستشرقون - اليهود والصليبيون سواء - أن محمداً [ ص ] لم يهاجم اليهود - بزعمهم - بهذا القرآن إلا بعد أن يئس في المدينة من استجابتهم له . وأنه كان يحاسنهم في مكة ، وفي أول عهده بالمدينة . فيقول - بزعمهم - قرآناً لا يهاجمهم فيه ؛ إنما يحدثهم عن التقاء العرب بهم في النسب إلى جدهم إبراهيم ! طمعاً في إسلامهم له ! فلما يئس منهم هاجمهم هذا الهجوم . . وكذبوا . فهذه سورة مكية تصف الحق في شأنهم ، لا فرق بين ما جاء فيها وما جاء في سورة البقرة المدنية في هذا الحق الذي لا يتبدل . . وإذا نحن تجاوزنا عن الآيات من 163 إلى 170 في هذه السورة بوصفها مدنية ، وهي التي ورد فيها تأذن الله - سبحانه - بأن يرسل عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة ، فإن الآيات التي قبلها والتي بعدها والتي لا شك في أنها مكية تضمنت الحق في جبلة بني إسرائيل . وفيها ذكر عبادتهم للعجل . . وطلبهم من موسى أن يجعل لهم إلهاً صنماً بينما هم خارجون من مصر باسم الله الواحد ! وأخذ الرجفة لهم لأنهم أبوا الإيمان إلا أن يروا الله جهرة . وتبديلهم قول الله لهم وهم يدخلون القرية . . الخ مما يدمغ أولئك الزاعمين من المستشرقين بالافتراء على التاريخ بعد الافتراء على الله ورسوله . . وهؤلاء هم الذين يتخذهم بعض من يكتبون عن الإسلام أساتذة لهم فيما يكتبون !

وحسبنا هذه المعالم في القصة حتى نواجه نصوصها بالتفصيل .

تعريف بباقي موضوعات الأعراف

وإذا كانت القصة بطولها مسوقة في هذه السورة - في استعراض موكب الإيمان - لتدل على خطوات قدر الله مع المكذبين ، ولتصور العلاقة بين القيم الإيمانية وسنة الله في الحياة البشرية ، فإنها مسوقة كذلك لبيان طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر ؛ ممثلتين في شخوص القصة وأطرافها . وقد ختمت بمشهد أخذ الميثاق على بني إسرائيل ، تحت المعاينة الكاملة لبأس الله الشديد : ( وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة ، وظنوا أنه واقع بهم ، خذوا ما آتيناكم بقوة ، واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ) . .

لذلك أعقب هذا المشهد مشهد أخذ الميثاق على فطرة البشر كافة : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ، وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ! شهدنا . . أن تقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا غافلين . أو تقولوا : إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم ، أفتهلكنا بما فعل المبطلون ؟ ) . .

وأعقب هذا المشهد مشهد الذي ينسلخ من هذا العهد ، كما ينسلخ من العلم بآيات الله بعد إذ أراه إياها . . وهو مشهد مثير . . وفيه لمسات قوية للتنفير من هذا الانسلاخ ، والتحذير من مآله المنظور : ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا ، فانسلخ منها ، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين . ولو شئنا لرفعناه بها ، ولكنه أخلد إلى الأرض ، واتبع هواه . فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث . ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا . فاقصص القصص لعلهم يتفكرون . ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا ، وأنفسهم كانوا يظلمون ) . .

ثم بيان لطبيعة الهدى وطبيعة الكفر . يكشف عن أن الكفر تعطلٌ في أجهزة الفطرة يحول دون تلقي هدى الله ، وينتهي بالخسارة المطلقة : ( من يهد الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون . ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ، لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها . أولئك كالأنعام بل هم أضل . أولئك هم الغافلون ) . .

تعقب هذا البيان لفتة إلى المشركين الذين كانوا يواجهون دعوة الإسلام في مكة بالتكذيب ، ويلحدون في أسماء الله فيشتقون منها أسماء الآلهة المفتراة . وتهديد لهم باستدراج الله . ودعوة لهم كذلك أن يتفكروا تفكراً عميقاً بعيداً عن الهوى في أمر صاحبهم الذي يدعوهم إلى الهدى [ ص ] فينبزونه بأن به جنة ! وإلى أن ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما في صفحات الوجود من موحيات الهدى ؛ ولمسة لهم بالموت الذي يترقبهم وهم عنه غافلون : ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ، وذروا الذين يلحدون في أسمائه . سيجزون ما كانوا يعملون . وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون . والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون . . وأملي لهم إن كيدي متين . . أولم يتفكروا ؟ ما بصاحبهم من جنة . إن هو إلا نذير مبين . أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ، وما خلق الله من شيء ، وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ؟ فبأي حديث بعده يؤمنون ؟ من يضلل الله فلا هادي له ، ويذرهم في طغيانهم يعمهون . .

ومواجهة كذلك لهؤلاء المشركين في تكذيبهم بالساعة ، وسؤالهم عن موعدها . . مواجهة بضخامة هذا الشأن الذي يسألون عنه مستهينين ، وهول هذا الأمر الذي يتناولونه مستخفين . وجلاء كذلك لطبيعة الرسالة وحقيقة الرسول ؛ وتقرير لحقيقة الألوهية وتفرد الله سبحانه بكل خصائصها . ومنها علم الغيب ؛ وتجلية الساعة ؛ ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ؟ قل : إنما علمها عند ربي ، لا يجليها لوقتها إلا هو ، ثقلت في السماوات والأرض ، لا تأتيكم إلا بغتة . يسألونك كأنك حفيٌّ عنها ! قل : إنما علمها عند الله ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون . قل : لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً - إلا ما شاء الله - ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء . إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون )

وفي سياق مواجهة المشركين يجيء بيان عن طبيعة الشرك وقصة الانحراف عن عهد الفطرة بتوحيد الله ، وكيف يقع في النفس هذا الانحراف . . وكأنما هو تصوير لانحراف جيل المشركين بعد أن كان أسلافهم الأولون على دين إبراهيم الحنيف : ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ، وجعل منها زوجها ليسكن إليها ، فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به . فلما أثقلت دعوا الله ربهما : لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين . فلماآتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما . فتعالى الله عما يشركون . أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ؟ ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون ؟ ) . . إنه تمثيل للأجيال المتلاحقة بصورة الحالات المتتابعة في النفس الواحدة . . وهو تصوير ذو دلالات عجيبة في صدقها وفي جمالها جميعاً . .

ولأن المقصود هو تمثيل حالة المشركين الذين كان هذا القرآن يواجههم فإن السياق ينتقل مباشرة من المثل إلى مخاطبتهم مواجهة ، ويوجه الرسول [ ص ] إلى تحديهم هم وآلهتهم : وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم ، سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون . إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ، فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين . ألهم أرجل يمشون بها ؟ أم لهم أيد يبطشون بها ؟ أم لهم أعين يبصرون بها ؟ أم لهم آذان يسمعون بها ؟ قل : ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون . إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين . والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون . وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا . وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون . .

وفي نهاية السورة يتجه الخطاب إلى رسول الله [ ص ] وإلى الأمة المسلمة . يوجهه إلى اليسر في أخذ الناس في هذه الدعوة ؛ ونهنهة النفس عن الغضب مما يبدر منهم من تقاعس واعتراض ؛ والاستعاذة من الشيطان الذي يثير الغضب ويحنق الصدر : خذ العفو . وأمر بالعرف ؛ وأعرض عن الجاهلين . وإما ينزعنك من الشيطان نزع فاستعذ بالله ، إنه سميع عليم . إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون . وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون . وإذا لم تأتهم بآية قالوا : لولا اجتبيتها ! قل : إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي ، هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون . .

وهذا التوجيه يذكرنا بما ورد في مطلع السورة : ( كتاب أنزل إليك ، فلا يكن في صدرك حرج منه ، لتنذر به وذكرى للمؤمنين ) . . فهو يشي بثقل هذا العبء - عبء دعوة الناس ، ومواجهة ما في نفوسهم من رواسب وركام وعقابيل ، والتواءات وأغراض وشهوات ، وغفلة وثقلة وتقاعس . . وضرورة الصبر . . وضرورة اليسر . . وضرورة السير أيضاً في الطريق !

ثم توجيه إلى الزاد المعين على مشاق الطريق . . الاستماع والإنصات إلى القرآن . . وذكر الله في كل آن وفي كل حال . والحذر من الغفلة . والاقتداء بالمقربين من الملائكة في الذكر والعبادة : وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون . واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ، ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ، ولا تكن من الغافلين . إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون . .

إنه زاد الطريق . وأدب العبادة . ومنهج المقربين الموصولين . .

وحسبنا هذه الإشارات المجملة لنواجه النصوص بالتفصيل . .

94

( وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون . ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا ، وقالوا : قد مس آباءنا الضراء والسراء . فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون . ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ؛ ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ) . .

إن السياق القرآني هنا لا يروي حادثة ، إنما يكشف عن سنة . ولا يعرض سيرة قوم إنما يعلن عن خطوات قدر . . ومن ثم يتكشف أن هناك ناموساً تجري عليه الأمور ؛ وتتم وفقه الأحداث ؛ ويتحرك به تاريخ " الإنسان " في هذه الأرض . وأن الرسالة ذاتها - على عظم قدرها - هي وسيلة من وسائل تحقيق الناموس - وهو أكبر من الرسالة وأشمل - وأن الأمور لا تمضي جزافا ؛ وأن الإنسان لا يقوم وحده في هذه الأرض - كما يزعم الملحدون بالله في هذا الزمان ! - وأن كل ما يقع في هذا الكون إنما يقع عن تدبير ، ويصدر عن حكمة ، ويتجه إلى غاية . وأن هنالك في النهاية سنة ماضية وفق المشيئة الطليقة ؛ التي وضعت السنة ، وارتضت الناموس . . ووفقاُ لسنة الله الجارية وفق مشيئته الطليقة كان من أمر تلك القرى ما كان ، مما حكاه السياق . ويكون من أمر غيرها ما يكون !

إن إرادة الإنسان وحركته - في التصور الإسلامي - عامل مهم في حركة تاريخه وفي تفسير هذا التاريخ أيضا . ولكن إرادة الإنسان وحركته إنما يقعان في إطار من مشيئة الله الطليقة وقدره الفاعل . . . والله بكل شىء محيط . . وإرادة الإنسان وحركته - في إطار المشيئة الطليقة والقدر الفاعل - يتعاملان مع الوجود كله ، ويتأثران ويؤثران في هذا الوجود أيضا . . فهناك زحمة من العوامل والعوالم المحركة للتاريخ الإنساني ؛ وهناك سعة وعمق في مجال هذه الحركة ؛ مما يبدو إلى جانبه " التفسير الاقتصادي للتاريخ " و " التفسير البيولوجي للتاريخ " ، و " التفسير الجغرافي للتاريخ " . . . بقعا صغيرة في الرقعة الكبيرة . وعبثا صغيرا من عبث الإنسان الصغير !

( وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ) . .

فليس للعبث - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - يأخذ الله عباده بالشدة في أنفسهم وأبدانهم وأرزاقهم وأموالهم . وليس لإرواء غلة ولا شفاء إحنة - كما كانت أساطير الوثنيات تقول عن آلهتها العابثة الحاقدة ! إنما يأخذ الله المكذبين برسله بالبأساء والضراء ، لأن من طبيعة الابتلاء بالشدة أن يوقظ الفطرة التي ما يزال فيها خير يرجى ، وأن يرقق القلوب التي طال عليها الأمد متى كانت فيها بقية ؛ وأن يتجه بالبشر الضعاف إلى خالقهم القهار ؛ يتضرعون إليه ؛ ويطلبون رحمته وعفوه ؛ ويعلنون بهذا التضرع عن عبوديتهم له -والعبودية لله غاية الوجود الإنساني - وما بالله سبحانه من حاجة إلى تضرع العباد وإعلان العبودية : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون . ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون . إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين )

ولو اجتمع الإنس والجن - على قلب رجل واحد - على طاعة الله ما زاد هذا في ملكه شيئاً . ولو اجتمع الإنس والجن - على قلب رجل واحد - على معصيته - سبحانه - ما نقصوا في ملكه شيئاً [ كما جاء في الحديث القدسي ] . . ولكن تضرع العباد وإعلان عبوديتهم لله إنما يصلحهم هم ؛ ويصلح حياتهم ومعاشهم كذلك . . فمتى أعلن الناس عبوديتهم لله تحرروا من العبودية لسواه . . تحرروا من العبودية للشيطان الذي يريد ليغويهم - كما جاء في أوائل السورة - وتحرروا من شهواتهم وأهوائهم . وتحرروا من العبودية للعبيد من أمثالهم ؛ واستحيوا أن يتبعوا خطوات الشيطان ؛ واستحيوا أن يغضبوا الله بعمل أو نية وهم يتجهون إليه في الشدة ويتضرعون ، واستقاموا على الطريقة التي تحررهم وتطهرهم وتزكيهم ، وترفعهم من العبودية للهوى والعبودية للعبيد !

لذلك اقتضت مشيئة الله أن يأخذ أهل كل قرية يرسل إليها نبياً فتكذبه ، بالبأساء في أنفسهم وأرواحهم ، وبالضراء في أبدانهم وأموالهم ، استحياء لقلوبهم بالألم . والألم خير مهذب ، وخير مفجر لينابيع الخير المستكنة ، وخير مرهف للحساسية في الضمائر الحية ، وخير موجه إلى ظلال الرحمة التي تنسم على الضعاف المكروبين نسمات الراحة والعافية في ساعات العسرة والضيق . . ( لعلهم يضرعون ) . .