{ 5 } { بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ }
أي : { بَلْ } كلامهم الذي صدر منهم ، إنما هو عناد وتكذيب للحق الذي هو أعلى أنواع الصدق { لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ } أي : مختلط مشتبه ، لا يثبتون على شيء ، ولا يستقر لهم قرار ، فتارة يقولون عنك : إنك ساحر ، وتارة مجنون ، وتارة شاعر ، وكذلك جعلوا القرآن عضين ، كل قال فيه ، ما اقتضاه رأيه الفاسد ، وهكذا ، كل من كذب بالحق ، فإنه في أمر مختلط ، لا يدرى له وجهة{[812]} ولا قرار ، [ فترى أموره متناقضة مؤتفكة ] كما أن من اتبع الحق وصدق به ، قد استقام أمره ، واعتدل سبيله ، وصدق فعله قيله .
ثم كشف - سبحانه - عن حقيقة أحوالهم ، وعن الأسباب التى دفعتهم إلى إيثار الباطل على الحق فقال : { بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ في أَمْرٍ مَّرِيجٍ } . أى : إن هؤلاء الكافرين لم يكتفوا بإنكارهم للبعث . . بل جاءوا بما هو أشنع وأفظع منه ، وهو تكذيبهم لنبوتك - أيها الرسول الكريم - تلك النبوة الثابتة بالمعجزات الناصعة ، ومن مظاهر هذا التكذيب أنهم تارة يقولون عنك ساحر ، وتارة يقولون عنك كاهن وتارة يصفوك بالجنون .
فهم فى أمر مريج ، أى : مضطرب مختلط . بحيث لا يستقرون على حال . يقال : مرج الأمر - بزنة طرب - إذا اختلط وتزعزع ، وفقد الثبات والاستقرار والصلاح . . ومنه قولهم : مرجعت أمانات الناس ، إذا فسدت وعمتهم الخيانة ، ومرج الخاتم فى إصبع فلان ، إذا تخلخل واضطرب لشدة هزال صاحبه .
وفى هذا الرد عليهم تصوير بديع معجز ، حيث بين - سبحانه - بأنه عليم بما تأكله الأرض من أجسادهم المغيبة فيها ، وبتناقص هذه الاجساد رويدا رويدا ، وأن كل أحوالهم مسجلة فى كتاب حفيظ ، وأنهم عندما فارقوا الحق الثابت وكذبوه ، مادت الأرض من تحتهم واضطربت ، واختلطت عليهم الأمور والتبست ، فصاروا يلقون التهم جزافا دون أن يستقروا على رأى ، أو يجتمعوا على كلمة .
وقيل قوله : { بل كذبوا } مضمر ، عنه وقع الإضراب تقديره : ما أجادوا النظر أو نحو هذا ، والذي يقع عنه الإضراب ب { بل } ، الأغلب فيه أنه منفي تقضي { بل } بفساده ، وقد يكون أمراً موجباً تقضي { بل } بترك القول فيه لا بفساده ، وقرأ الجمهور : «لَمّا » بفتح اللام وشد الميم . وقرأ الجحدري : «لِمَا » بكسر اللام وتخفيف الميم ، قال أبو الفتح : هي كقولهم : أعطيته لما سأل ، وكما في التاريخ : لخمس خلون ، ونحو هذا ، ومنه قوله تعالى :
{ لا يجليها لوقتها إلا هو }{[10514]} [ الأعراف : 187 ] ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
إذا هبت لقاربها الرياح . . . {[10515]}
و : «المريج » : معناه : المختلط ، قاله ابن زيد ، أي بعضهم يقول ساحر ، وبعضهم كاهن ، وبعضهم يقول شاعر{[10516]} إلى غير ذلك من تخليطهم ، وكذلك عادت فكرة كل واحد منهم مختلطة في نفسها ، قال ابن عباس : المريج : المنكر . وقال مجاهد : الملتبس ، والمريج المضطرب أيضاً ، وهو قريب من الأول ، ومنه الحديث : مرجت عهود الناس ومنه { مرج البحرين }{[10517]} [ الفرقان : 53 ، الرحمن : 19 ] وقال الشاعر [ أبو دؤاد ] :
مرج الدين فأعددت له . . . مشرف الحارك محبوك الكتد{[10518]}
إضراب ثان تابع للإضراب الذي في قوله : { بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم } [ ق : 2 ] على طريقة تكرير الجملة في مقام التنديد والإبطال ، أو بدل من جملة { بل عجبوا أن جاءهم منذر } لأن ذلك العجب مشتمل على التكذيب ، وكلا الاعتبارين يقتضيان فصل هذه الجملة بدون عاطف . والمقصد من هذه الجملة : أنهم أتوا بأفظع من إحالتهم البعث وذلك هو التكذيب بالحق .
والمراد بالحق هنا القرآن لأن فعل التكذيب إذا عدي بالباء عدي إلى الخبر وإذا عدي بنفسه كان لتكذيب المخبر .
و { لمّا } حرف توقيت فهي دالة على ربط حصول جوابها بوقت حصول شرطها فهي مؤذنة بمبادرة حصول الجواب عند حصول الشرط كقوله تعالى : { فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] ، وقوله { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } [ البقرة : 89 ] وقد مضيا في سورة البقرة . ومعنى { جاءهم } بلغهم وأعلموا به .
والمعنى : أنهم بادروا بالتكذيب دون تأمل ولا نظر فيما حواه من الحق بل كذبوا به من أول وهلة فكذبوا بتوحيد الله ، وهو أول حق جاء به القرآن ، ولذلك عقب بقوله : { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها } إلى قوله : { وأحيينا به بلدة ميتا } [ ق : 6 11 ] . فالتكذيب بما جاء به القرآن يعمّ التكذيب بالبعث وغيره .
وفرع على الخبر المنتقل إليه بالإضراب وصفُ حالهم الناشئة عن المبادرة بالتكذيب قبل التأمل بأنها أمر مريج أحاط بهم وتجلجلوا فيه كما دل عليه حرف الظرفية .
و { أمر } اسم مبهم مثل شيء ، ولما وقع هنا بعد حرف { في } المستعمل في الظرفية المجازية تعين أن يكون المراد بالأمر الحالُ المتلبسون هم به تلبُّس المظروف بظرفه وهو تلبس المحوط بما أحاط به فاستعمال { في } استعارة تبعية .
والمريج : المضطرب المختلط ، أي لا قرار في أنفسهم في هذا التكذيب ، اضطربت فيه أحوالهم كلها من أقوالهم في وصف القرآن فإنهم ابتدروا فنفوا عنه الصدق فلم يتبينوا بأي أنواع الكلام الباطل يلحقونه فقالوا : { سحر مبين } [ المائدة : 110 ] ، وقالوا { أساطير الأولين } [ الأنعام : 25 ] وقالوا { قول شاعر } [ الحاقة : 41 ] ، وقالوا : { قول كاهن } [ الحاقة : 42 ] وقالوا : ( هذيان مجنون ) . وفي سلوكهم في طرق مقاومة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وما يصفونه به إذا سألهم الواردون من قبائل العرب . ومن بهتهم في إعجاز القرآن ودلالة غيره من المعجزات وما دمغهم به من الحجج على إبطال الإشراك وإثبات الوحدانية لله . وهذا تحميق لهم بأنهم طاشت عقولهم فلم يتقنوا التكذيب ولم يرسوا على وصف الكلام الذي كذبوا به .