31 - 34 وقوله : وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ * وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ *
وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ .
يقول تعالى في بيان عناد المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم : وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا الدالة على صدق ما جاء به الرسول .
قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ وهذا من عنادهم وظلمهم ، وإلا فقد تحداهم اللّه أن يأتوا بسورة من مثله ، ويدعوا من استطاعوا من دون اللّه ، فلم يقدروا على ذلك ، وتبين عجزهم .
فهذا القول الصادر من هذا القائل مجرد دعوى ، كذبه الواقع ، وقد علم أنه صلى الله عليه وسلم أُمِّيٌّ لا يقرأ ولا يكتب ، ولا رحل ليدرس من أخبار الأولين ، فأتى بهذا الكتاب الجليل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد .
ثم حكى القرآن بعد ذلك جانبا من الدعاوى الكاذبة التي تفوه بها المشركون فقال - تعالى - { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين } .
وقد ذكر كثير من المفسرين " أن القائل لهذا القول : النضر بن الحارث ؛ فإنه كان قد ذهب إلا بلاد فارس فأحضر منها قصصاً عن ملوكهم . . ولما قدم مكة ووجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلو القرآن قال للمشركين : لو شئت لقلت مثل هذا ، وكان - صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلس ، جاء بعده النضر فجلس فيه وحدث المشركين بأخبار ملوك الفرس والروم ، وغيرهم ثم قال : أينا أحس قصصا ؟ أنا أو محمد ؟ وقد أمكن الله منه يوم بدر ، فقد أسره المقداد بن عمرو ، فأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - بضرب عنقه وقال فيه : " إنه كان يقول في كتاب الله - عز وجل - ما يقول " " .
وأسند - سبحانه - قول النضر إلى جميع المشركين ، لأنهم كانوا راضين بقوله ، ولأنه كان من زعمائهم الذين يقودونهم إلى طريق الغواية .
والأساطير - كما يقول ابن جرير - : جمع أسطر ، لأن واحد الأسطر سطر . ثم يجمع السطر : أسطر وسطور ، ثم يجمع الأسطر أساطير وأساطر . وقد كان بعض أهل العربية يقول : واحد الأساطير : أسطورة - كأحاديث وأحدوثة .
والمراد بها : تلك القصص والحكايات التي كتبها الكاتبون عن القدامى ، والتى يغلب عليها طابع الخرافة والتخيلات التي لا حقيقة لها .
والمعنى : أن هؤلاء المشركين قد بلغ بهم الكذب والتمادى في الطغيان ، أنهم كانوا إذا تتلى عليهم آيات الله { قَالُواْ } بصفاته ووقاحة : { قَدْ سَمِعْنَا } أى : قد معنا ما قرأته علينا - يا محمد - ووعيناه { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا } أي لو نشاء لقلنا مثل هذا القرآن الذي تتلوه علينا يا محمد وما هو إلا من قصص الأولين وحكاياتهم التي سطرها بعضهم عنهم وليس من عند الله - تعالى - .
ولا شك أن قولهم هذا يدل على تعمدهم الكذب على أنفسهم وعلى الناس فإن هذا القرآن - الذي زعموا أنهم لو شاءوا لقالوا مثله - قد تحداهم في نهاية المطاف أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا وانقلبوا خاسرين .
والذى نعتقده أن قولهم هذا ، ما هو إلا من قبيل الحرب النفسية التي كاوا يشنونها على الدعوة الإِسلامية ، بقصد تضليل البسطاء ، والوقوف في وجه تأثير القرآن في القلوب ، ومحاولة طمس معالم الحق ولو إلى حين .
ولكنهم لم يفلحوا . فإن نور الحق لا تحجبه الشبهات الزائفة ، ولا يعدم الحق أن يجد له أنصاراً حتى من أعدائه ، يكفى هنا أن نستشهد بما قاله الوليد بن المغيرة في وصف القرآن الكريم : " إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن اسفله لمغدق ، وإن أعلاه لمثمر . . وما يقول هذا بشر " .
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لقوله - تعالى - { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا . . . } : نفاجة منهم وصلت تحت الراعدة ، فإنهم لم تيوانوا في مشيئتهم لو ساعدتهم الاستطاعة ، وإلا فما منعهم إن كانوا مستطيعين أن يشاؤوا غلبة من تحداهم وقرعهم بالعجز حتى يفوزوا بالقدح المعلى دونه ، مع فرط أنفتهم ، واستنكافهم أن يغلبوا في باب البيان خاصة . .
{ وإذا تُتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا } هو قول النضر بن الحارث ، وإسناده إلى الجميع إسناد ما فعله رئيس القوم إليهم فإنه كان قاصهم ، أو قول الذين ائتمروا في أمره عليه الصلاة والسلام وهذا غاية مكابرتهم وفرط عنادهم ، إذ لو استطاعوا ذلك فما منعهم أن يشاءوا وقد تحداهم وقرعهم بالعجز عشر سنين ، ثم قارعهم بالسيف فلم يعارضوا سورة مع أنفتهم وفرط استنكافهم أن يغلبوا خصوصا في باب البيان . { إن هذا إلا أساطير الأولين } ما سطره الأولون من القصص .
الضمير في { عليهم } عائد على الكفار ، و «الآيات » هنا آيات القرآن خاصة بقرينة قوله { تتلى } ، و { قد سمعنا } يريد وقد سمعنا هذا المتلو { لو نشاء لقلنا } مثله وقد سمعنا نظيره على ما روي أن النضر سمع أحاديث أهل الحيرة من العباد فلو نشاء لقلنا مثله من القصص والأنباء فإن هذه إنما هي أساطير من قد تقدم ، أي قصصهم المكتوبة المسطورة ، و { أساطير } جمع اسطورة ، ويحتمل أن يكون جمع أسطار ولا يكون جمع أسطر كما قال الطبري ، لأنه كان يجيء أساطر بدون ياء{[5305]} ، هذا هو قانون الباب ، وقد شذ منه شيء كصيرف قالوا في جمعه صيارف ، والذي تواترت به الروايات عن ابن جريج والسدي وابن جبير الذي قال هذه المقالة هو النضر بن الحارث ، وذلك أنه كان كثير السفر إلى فارس والحيرة ، فكان قد سمع من قصص الرهبان والأناجيل ، وسمع من أخبار رستم وإسبنديار ، فلما سمع القرآن ورأى فيه من أخبار الأنبياء والأمم ، قال : لو شئت لقلت مثل هذا ، وكان النضر من مردة قريش النائلين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزلت فيه آيات من كتاب الله ، وقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم صبراً{[5306]} بالصفراء منصرفه من بدر في موضع يقال له الأثيل{[5307]} وكان أسره المقداد{[5308]} ، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه قال المقداد : أسيري يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه كان يقول في كتاب الله ما قد علمتم ، ثم أعاد المقداد مقالته حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللهم أغن المقداد من فضلك » فقال المقداد : هذا الذي أردت ، فضرب عنق النضر ، وحكى الطبري عن سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل يوم بدر صبراً ثلاثة نفر ، المطعم بن عدي ، والنضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط .
قال القاضي أبو محمد : وهذا وهم عظيم في خبر المطعم ، فقد كان مات قبل يوم بدر{[5309]} ، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لو كان المطعم حياً وكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له »{[5310]} يعني أسرى بدر .