{ 90 ، 91 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ }
يذم تعالى هذه الأشياء القبيحة ، ويخبر أنها من عمل الشيطان ، وأنها رجس . { فَاجْتَنِبُوهُ } أي : اتركوه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فإن الفلاح لا يتم إلا بترك ما حرم الله ، خصوصا هذه الفواحش المذكورة ، وهي الخمر وهي : كل ما خامر العقل أي : غطاه بسكره ، والميسر ، وهو : جميع المغالبات التي فيها عوض من الجانبين ، كالمراهنة ونحوها ، والأنصاب التي هي : الأصنام والأنداد ونحوها ، مما يُنصب ويُعبد من دون الله ، والأزلام التي يستقسمون بها ، فهذه الأربعة نهى الله عنها وزجر ، وأخبر عن مفاسدها الداعية إلى تركها واجتنابها . فمنها : أنها رجس ، أي : خبث ، نجس معنى ، وإن لم تكن نجسة حسا .
والأمور الخبيثة مما ينبغي اجتنابها وعدم التدنس بأوضارها . ومنها : أنها من عمل الشيطان ، الذي هو أعدى الأعداء للإنسان .
ومن المعلوم أن العدو يحذر منه ، وتحذر مصايده وأعماله ، خصوصا الأعمال التي يعملها ليوقع فيها عدوه ، فإنها فيها هلاكه ، فالحزم كل الحزم البعد عن عمل العدو المبين ، والحذر منها ، والخوف من الوقوع فيها .
ومنها : أنه لا يمكن الفلاح للعبد إلا باجتنابها ، فإن الفلاح هو : الفوز بالمطلوب المحبوب ، والنجاة من المرهوب ، وهذه الأمور مانعة من الفلاح ومعوقة له .
ومنها : أن هذه موجبة للعداوة والبغضاء بين الناس ، والشيطان حريص على بثها ، خصوصا الخمر والميسر ، ليوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء .
فإن في الخمر من انغلاب العقل وذهاب حجاه ، ما يدعو إلى البغضاء بينه وبين إخوانه المؤمنين ، خصوصا إذا اقترن بذلك من السباب ما هو من لوازم شارب الخمر ، فإنه ربما أوصل إلى القتل . وما في الميسر من غلبة أحدهما للآخر ، وأخذ ماله الكثير في غير مقابلة ، ما هو من أكبر الأسباب للعداوة والبغضاء .
ومنها : أن هذه الأشياء تصد القلب ، ويتبعه البدن عن ذكر الله وعن الصلاة ، اللذين خلق لهما العبد ، وبهما سعادته ، فالخمر والميسر ، يصدانه عن ذلك أعظم صد ، ويشتغل قلبه ، ويذهل لبه في الاشتغال بهما ، حتى يمضي عليه مدة طويلة وهو لا يدري أين هو .
فأي معصية أعظم وأقبح من معصية تدنس صاحبها ، وتجعله من أهل الخبث ، وتوقعه في أعمال الشيطان وشباكه ، فينقاد له كما تنقاد البهيمة الذليلة لراعيها ، وتحول بين العبد وبين فلاحه ، وتوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين ، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة ؟ " فهل فوق هذه المفاسد شيء أكبر منها ؟ "
ولهذا عرض تعالى على العقول السليمة النهي عنها ، عرضا بقوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } لأن العاقل -إذا نظر إلى بعض تلك المفاسد- انزجر عنها وكفت نفسه ، ولم يحتج إلى وعظ كثير ولا زجر بليغ .
ثم أكد سبحانه تحريم الخمر والميسر ببيان مفاسدهما الدنيوية والدينية فقال تعالى { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } .
أي : إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان } بتزيينه المنكرات لكم { أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء } بأن يقطع ما بينكم من صلات ، ويثير في نفوسكم الأحقاد والضغائن ، بسبب تعاطيكم للخمر والميسر ، وذلك لأن شارب الخمر إذا ما استولت الخمر على عقله أزالت رشده ، وأفقدته وعيه ، وتجعله قد يسيء إلى من أحسن إليه ، ويعتدي على صديقه وجليسه . وذلك يورث أشد ألوان العداوة والبغضاء بين الناس .
ولأن متعاطي الميسر كثيراً ما يخسر ماله على مائدة الميسر . والمال كما نعلم شقيق الروح ، فإذا ما خسره هذا المقامر صار عدوا لمن سلب ماله منه عند المقامرة ، وأصبح يضمر له السوء . وقد يؤدي به الحال إلى قتله حتى يشفي غيظه منه ، لأنه قد جعله فقيراً بائساً مجرداً من أمواله بعد أن كان مالكها وفي ذلك ما فيه من تولد العداوة والبغضاء وإيقاد نار الفتن والشرور بين الناس .
فقوله تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر } إشارة إلى مفاسدهما الدنيوية .
أما مفاسدهما الدينية فقد أشار إليها سبحانه بقوله : { وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة } .
أي : ويريد الشيطان أيضاً بسبب تعاطيكم للخمر والميسر - أن يصدكم أي يشغلكم ويمنعكم { عَن ذِكْرِ الله } أي : عن طاعته ومراقبته والتقرب إليه { وَعَنِ الصلاة } التي هي الركن الثاني من أركان الإِسلام .
وذلك لأن شارب الخمر يمنعه ما حل به من نشوة كاذبة ، ومن فقدان لرشده عن طاعة الله وعن أداء ما أوجبه عليه من صلاة وغيرها .
ولأن متعاطي الميسر ببسب استحلاله لكسب المال عن هذا الطريق الخبيث ، ويسبب فقدانه للعاطفة الدينية السليمة صار لا يفكر في القيام بما أوجبه الله عليه من عبادات .
ورحم الله الآلوسي ، فقد قال عنده تفسيره لهذه الآية : ووجه صد الشيطان لهم عن ذكر الله وعن الصلاة بسبب تعاطيهم للخمر لغلبة السرور بها والطرب على النفوس . والاستغراق في الملاذ الجسمانية ، تلهى عن ذكر الله - تعالى - وعن الصلاة .
وأن الميسر إن كان اللاعب به غالباً ، انشرحت نفسه ، وصده بحب الغلب والقهر والكسب عما ذكر ، وإن كان مغلوبا حصل له من الانقباض والقهر ما يحثه على الاحتيال لأن يصير غالبا فلا يخطر بقلبه غير ذلك .
وقد شاهدنا كثيراً ممن يلعب بالشطرنج يجري بينهم من اللجاج والحلف الكاذب والغفلة عن ذكر الله تعالى ما ينفر منه الفيل وتكبو له الفرس ويحار لشناعته الفهم وتسود رقعة الأعمال .
وجمع - سبحانه - الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام في الآية في الآية الأولى ثم أفردهما بالذكر في هذه الآية ، لأن الخطاب للمؤمنين ، والمقصود نيهم عن الخمر والميسر ، وإظهار أن هذه الأربعة متقاربة في القبح والمفسدة ، أي أن مجيء الأنصاب والأزلام مع الخمر والميسر إنما هو لتقبيح تعاطيهما ، وتأكيد حرمتهما ، حتى لكأن متعاطي الخمر والميسر يفعل أفعال أهل الجاهلية ، وأهل الشرك بالله - تعالى - وكأنه - كما يقول الزمخشري - : لا مباينة بين من عبد صنما وأشرك بالله في علم الغيب ، وبين من شرب خمراً أو قامر .
وخص الصلاة بالذكر مع أنها لون من ألوان ذكر الله ، تعظيما لشأنها ، كما هو الحال في ذكر الخاص بعد العام ، وإشعارا بأن الصاد عنها كالصاد عن الإِيمان ، لما أنها عماد الدين والفارق بين المسلم وبين الكافر .
والاستفهام في قوله { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } لإِنكار استمرارهم على الخمر والميسر بعد أن بين لهم ما بين من مضارهما الدنيوية والدينية ولحضهم على ترك تعاطيهما فورا ، أي : انتهوا سريعاً عنهما فقد بينت لكم ما يدعو إلى ذلك . ولقد لبى الصحابة - رضي الله عنهم - هذا الأمر فقالوا : " انتهينا يا رب ؛ انتهينا يا رب " .
ثم قرر ذلك بأن بيّن ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية المقتضية للتحريم فقال تعالى :
{ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة } وإنما خصهما بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال تنبيها على أنهما المقصود بالبيان ، وذكر الأنصاب والأزلام للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة والشرارة لقوله عليه الصالة والسلام " شارب الخمر كعابد الوثن " . وخص الصلاة من الذكر بالإفراد للتعظيم ، والإشعار بأن الصاد عنها كالصاد عن الإيمان من حيث إنها عماده والفارق بينه وبين الكفر ، ثم أعاد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتبا على ما تقدم من أنواع الصوارف فقال : { فهل أنتم منتهون } إيذانا بأن الأمر في المنع والتحذير بلغ الغاية وأن الأعذار قد انقطعت .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.