{ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ْ } بالقتل وأخذ الأموال وغير ذلك . { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا ْ } أي جعلا { عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ْ } ودل ذلك على عدم اقتدارهم بأنفسهم على بنيان السد ، وعرفوا اقتدار ذي القرنين عليه ، فبذلوا له أجرة ، ليفعل ذلك ، وذكروا له السبب الداعي ، وهو : إفسادهم في الأرض ، فلم يكن ذو القرنين ذا طمع ، ولا رغبة في الدنيا ، ولا تاركا لإصلاح أحوال الرعية ، بل كان قصده الإصلاح ، فلذلك أجاب طلبتهم لما فيها من المصلحة ، ولم يأخذ منهم أجرة ، وشكر ربه على تمكينه واقتداره ، فقال لهم : { مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ْ } .
{ قالوا } أى : هؤلاء القوم لذى القرنين : { ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض } .
ويأجوج ومأجوج اسمان أعجميان ، قيل : مأخوذان من الأوجة وهى الاختلاط أو شدة الحر : وقيل : من الأوج وهو سرعة الجرى .
واختلف فى نسبهم ، فقيل : هم من ولد يافث بن نوح والترك منهم . وقيل : يأجوج من الترك ، ومأجوج من الديلم .
أى : قال هؤلاء القوم - الذين لا يكادون يفقهون قولا - لذى القرنين ، بعد أن توسموا فيه القوة والصلاح . . يا ذا القرنين إن قبيلة يأجوج ومأجوج مفسدون فى الأرض بشتى أنواع الفساد والنهب والسلب .
وفى الصحيحين من حديث زينب بنت جحش - رضى الله عنها - قالت : " استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه وهو محمر وجهه وهو يقول : " لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شر قد اقترب ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه " ، وحلق - بين أصابعه - قلت : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : " نعم إذا كثر الخبث " .
وقوله - تعالى - { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً } حكاية لما عرضه هؤلاء القوم على ذى القرنين من عروض تدل على ثقتهم فيه وحسن أدبهم معه ، حيث خاطبوه بصيغة الاستفهام الدالة على أنهم يفوضون الأمر إليه .
والخَرْج : اسم لما يخرجه الإِنسان من ماله لغيره . وقرأ حمزة والكسائى خراجا : وهما بمعنى واحد ، وقيل الخرجة : الجزية . والخراج : اسم لما يخرجه عن الأرض .
أى : فهل نجعل لك مقدارا كبيرا من أموالنا على سبيل الأجر ، لكى تقيم بيننا وبين قبيلة يأجوج ومأجوج سدا يمنعهم من الوصول إلينا . ويحول بيننا وبينهم ؟
جملة { قَالُوا } استئناف للمحاورة . وقد بينا في غير موضع أن جمل حكاية القول في المحاورات لا تقترن بحرف العطف كما في قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] الآية . فعلى أول الاحتمالين في معنى { لا يَكَادونَ يَفْقَهونَ قَولاً } أنهم لا يدركون ما يطلب منهم من طاعة ونظام ومع ذلك يعربون عما في نفوسهم من الأغراض مثل إعراب الأطفال ، وعلى الاحتمال الثاني أنهم أمكنهم أن يفهم مرادهم بعد لأي .
وافتتاحهم الكلام بالنداء أنهم نادوه نداء المستغيثين المضطرين ، ونداؤهم إياه بلقب ذي القرنين يدل على أنه مشهور بمعنى ذلك اللقب بين الأمم المتاخمة لبلاده .
وياجوج وماجوج أمة كثيرة العدد فيحتمل أن الواو الواقعة بين الاسمين حرف عطف فتكون أمة ذات شعبين ، وهم المغول وبعض أصناف التتار . وهذا هو المناسب لأصل رسم الكلمة ولا سيما على القول بأنهما اسمان عربيان كما سيأتي فقد كان الصنفان متجاورين .
ووقع لعلماء التاريخ وعلماء الأنساب في اختلاف إطلاق اسمي المغول والتتار كل على ما يطلق عليه الآخر لعسر التفرقة بين المتقاربين منهما ، وقد قال بعض العلماء : إن المغول هم ماجوج بالميم اسم جد لهم يقال له أيضاً ( سكيثوس ) وربما يقال له ( جيته ) . وكان الاسم العام الذي يجمع القبيلتين ماجوج ثم انقسمت الأمة فسميت فروعها بأسماء خاصة ، فمنها ماجوج وياجوج وتتر ثم التركمان ثم الترك . ويحتمل أن الواو المذكورة ليست عاطفة ولكنها جاءت في صورة العاطفة فيكون اللفظ كلمة واحدة مركبة تركيباً مزجياً ، فيتكون اسماً لأمة وهم المغول .
والذي يجب اعتماده أن ياجوج وماجوج هم المغول والتتر . وقد ذكر أبو الفداء أن ماجوج هم المغول فيكون ياجوج هم التتر . وقد كثرت التتر على المغول فاندمج المغول في التتر وغلب اسم التتر على القبيلتين . وأوضح شاهد على ذلك ما ورد في حديث أمّ حبيبة عن زينب بنت جحش أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً يقول : « لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شرّ قد اقترب ، فُتح اليوم من رَدْم ياجوج وماجوج مثل هذه » . وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها . وقد تقدم آنفاً .
ولا يعرف بالضبط وقت انطلاقهم من بلادهم ولا سبب ذلك . ويقدّر أن انطلاقهم كان أواخر القرن السادس الهجري . وتشتت ملك العرب بأيدي المغول والتتر من خروج جنكيز خان المغولي واستيلائه على بخارى سنة ست عشرة وستمائة من الهجرة ووصلوا ديار بكر سنة 628ه ثم ما كان من تخريب هولاكو بغداد عاصمة ملك العرب سنة 660هـ .
ونظير إطلاق اسمين على حي مؤتلف من قبيلتين إطلاق طسم وجديس على أمّة من العرب البائدة ، وإطلاق السكاسك والسكرن في القبائل اليمنية ، وإطلاق هلال وزغبة على أعراب إفريقية الواردين من صعيد مصر ، وإطلاق أولاد وزاز وأولاد يحيى على حيّ بتونس بالجنوب الغربي ، ومَرَادة وفِرْجان على حي من وطن نابل بتونس .
وقرأ الجمهور { ياجوج وماجوج } كلتيهما بألف بعد التحتية بدون همز ، وقرأه عاصم بالهمز .
واختلف المفسرون في أنه اسم عربي أو معرّب ، وغالب ظني أنه اسم وضعه القرآن حاكى به معناه في لغة تلك الأمة المناسب لحال مجتمعهم فاشتق لهما من مادة الأج ، وهو الخلط ، إذ قد علمت أن تلك الأمة كانت أخلاطاً من أصناف .
والاستفهام في قوله { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ } ، مستعمل في العَرض .
والخرْج : المال الذي يدفع للملك . وهو بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء في قراءة الجمهور . ويقال فيه الخراج بألف بعد الراء ، وكذلك قرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف .
وقرأ الجمهور { سُدًّا } بضم السين وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف بفتح السين .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 92]
يقول تعالى ذكره: ثم سار طرقا ومنازل، وسلك سبلاً "حَتَى إذَا بَلَغَ بينَ السّدّيْنِ"...
والسَّد والسُّد جميعا: الحاجز بين الشيئين، وهما ههنا فيما ذُكر جبلان سدّ ما بينهما، فردم ذو القرنين حاجزا بين يأجوج ومأجوج ومن وراءهم، ليقطع مادّ غوائلهم وعيثهم عنهم...
وقوله:"وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْما لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً "يقول عزّ ذكره: وجد من دون السدّين قوما لا يكادون يفقهون قول القائل سوى كلامهم.
وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله "يَفْقَهُونَ"؛
فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة "يَفْقَهُونَ قَوْلاً" بفتح القاف والياء، من فقَه الرجل يفقه فقها. وقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل الكوفة «يُفْقِهُونَ قَوْلاً» بضمّ الياء وكسر القاف: من أفقهت فلانا كذا أفقهه إفقاها: إذا فهمته ذلك.
والصواب عندي من القول في ذلك، أنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار، غير دافعة إحداهما الأخرى وذلك أن القوم الذين أخبر الله عنهم هذا الخبر جائز أن يكونوا لا يكادون يفقهون قولاً لغيرهم عنهم، فيكون صوابا القراءة بذلك. وجائز أن يكونوا مع كونهم كذلك كانوا لا يكادون أن يفقهوا غيرهم لعلل: إما بألسنتهم، وإما بمنطقهم، فتكون القراءة بذلك أيضا صوابا.
وقوله: "إنّ يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ"...
اختلف أهل التأويل في معنى الإفساد الذي وصف الله به هاتين الأمتين؛ فقال بعضهم: كانوا يأكلون الناس...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن يأجوج ومأجوج سيفسدون في الأرض، لا أنهم كانوا يومئذ يفسدون... الذين قالوا لذي القرنين "إنّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوج مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ" إنما أعلموه خوفَهم ما يُحدث منهم من الإفساد في الأرض، لا أنهم شَكَوا منهم فسادا كان منهم فيهم أو في غيرهم، والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم سيكون منهم الإفساد في الأرض، ولا دلالة فيها أنهم قد كان منهم قبل إحداث ذي القرنين السدّ الذي أحدثه بينهم وبين من دونهم من الناس في الناس غيرهم إفساد.
فإذا كان ذلك كذلك بالذي بيّنا، فالصحيح من تأويل قوله "إنّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوج مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ": إن يأجوج ومأجوج سيفسدون في الأرض.
وقوله: "فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجا" اختلفت القرّاء في قراءة ذلك؛ فقرأته عامّة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة: "فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجا" كأنهم نحوا به نحو المصدر من خَرْج الرأس، وذلك جعله. وقرأته عامّة قرّاء الكوفيين: «فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجا» بالألف، وكأنهم نحوا به نحو الاسم، وعنوا به أجرة على بنائك لنا سدّا بيننا وبين هؤلاء القوم.
وأولى القراءتين في ذلك عدنا بالصواب قراءة من قرأه: «فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجا» بالألف، لأن القوم فيما ذُكر عنهم، إنما عرضوا على ذي القرنين أن يعطوه من أموالهم ما يستعين به على بناء السدّ، وقد بين ذلك بقوله: "فَأعِينُونِي بقُوّةٍ أجْعَلْ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ رَدْما" ولم يعرضوا عليه جزية رؤوسهم. والخراج عند العرب: هو الغلة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقالت فرقة: «إفسادُهم» هو الظُّلْمُ والغَشْمُ... وسائرُ وجوهِ الإفسادِ المعلومِ من البشر...
{فَهَلْ نَجْعَلُ لكَ خَرْجاً} استفهامٌ على جِهة حُسْنِ الأدبِ... فعَرَضوا عليه أن يَجمَعوا له أموالاً يُقيم بها أمْرَ السّدِّ...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْخَرْجُ: الْجَزَاءُ وَالْأُجْرَةُ، وَكَانَ مَلِكًا يَنْظُرُ فِي أُمُورِهِمْ، وَيَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ، فَعَرَضُوا عَلَيْهِ جَزَاءً فِي أَنْ يَكُفَّ عَنْهُمْ مَا يَجِدُونَهُ من عَادِيَةِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَعَلَى الْمَلِكِ فَرْضُ أَنْ يَقُومَ بِحِمَايَةِ الْخَلْقِ فِي حِفْظِ بَيْضَتِهِمْ، وَسَدِّ فُرْجَتِهِمْ، وَإِصْلَاحِ ثَغْرِهِمْ من أَمْوَالِهِمْ الَّتِي تَفِيءُ عَلَيْهِمْ، وَحُقُوقِهِمْ الَّتِي يَجْمَعُهَا خَزَنَتُهُمْ تَحْتَ يَدِهِ وَنَظَرِهِ، حَتَّى لَوْ أَكْلَتهَا الْحُقُوقُ، وَأَنْفَدَتْهَا الْمُؤَنُ، وَاسْتَوْفَتْهَا الْعَوَارِضُ، لَكَانَ عَلَيْهِمْ جَبْرُ ذَلِكَ من أَمْوَالِهِمْ، وَعَلَيْهِ حُسْنُ النَّظَرِ لَهُمْ، وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ:
الْأَوَّلُ: أَلَّا يَسْتَأْثِرَ بِشَيْءٍ عَلَيْهِمْ.
الثَّانِي: أَنْ يَبْدَأَ بِأَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْهُمْ فَيُعِينُهُمْ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُسَوِّيَ فِي الْعَطَاءِ بَيْنَهُمْ عَلَى مِقْدَارِ مَنَازِلِهِمْ، فَإِذَا فَنِيَتْ بَعْدَ هَذَا ذَخَائِرُ الْخِزَانَةِ وَبَقِيَتْ صِفْرًا فَأَطْلَعَتْ الْحَوَادِثُ أَمْرًا بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ قَبْلَ أَمْوَالِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُغْنِ ذَلِكَ فَأَمْوَالُهُمْ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى تَقْدِيرٍ، وَتُصْرَفُ بِأَحْسَنِ تَدْبِيرٍ. فَهَذَا ذُو الْقَرْنَيْنِ لَمَّا عَرَضُوا عَلَيْهِ الْمَالَ قَالَ: لَسْت أَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَحْتَاجُ إلَيْكُمْ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ، أَيْ اخْدِمُوا بِأَنْفُسِكُمْ مَعِي، فَإِنَّ الْأَمْوَالَ عِنْدِي وَالرِّجَالَ عِنْدَكُمْ؛ وَرَأَى أَنَّ الْأَمْوَالَ لَا تُغْنِي دُونَهُمْ، وَأَنَّهُمْ إنْ أَخَذُوهَا أُجْرَةً نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، فَعَادَ عَلَيْهِمْ بِالْأَخْذِ، فَكَانَ التَّطَوُّعُ بِخِدْمَةِ الْأَبْدَانِ أَوْلَى. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي كِتَابِ الْفَيْءِ وَالْخَرَاجِ وَالْأَمْوَالِ من شَرْحِ الْحَدِيثِ بَيَانًا شَافِيًا، وَهَذَا الْقَدْرُ يَتَعَلَّقُ بِالْقُرْآنِ من الْأَحْكَامِ، وَتَمَامُهُ هُنَالِكَ. وَضَبْطُ الْأَمْرِ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَخْذُ مَالِ أَحَدٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ تَعْرِضُ فَيُؤْخَذُ ذَلِكَ الْمَالُ جَهْرًا لَا سِرًّا، وَيُنْفَقُ بِالْعَدْلِ لَا بِالِاسْتِئْثَارِ، وَبِرَأْيِ الْجَمَاعَةِ لَا بِالِاسْتِبْدَادِ بِالرَّأْيِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ...
{قالُوا يا ذا القَرْنَيْنِ إنّ يأجوجَ ومأجوجَ مُفْسِدونَ في الأرضِ} فإنْ قيل: كيف فَهِمَ ذو القرنين منهم هذا الكلامَ بعد أن وَصَفَهم اللهُ بقوله: {لا يَكادونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} والجواب: أن نقول كاد فيه قولان:
الأول: أن إثباته نفيٌ، ونفيه إثباتٌ، فقوله: {لا يَكادونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} لا يدلّ على أنهم لا يَفهمون شيئا، بل يدل على أنهم قد يَفهمون على مشقّةٍ وصعوبةٍ. والقول الثاني: أن كاد معناه المُقارَبة، وعلى هذا القولِ فقولُه: {لا يَكادونَ يَفْقَهون قَوْلاً} أي لا يَعْلَمون وليس لهم قُرْبٌ مِن أنْ يَفْقَهوا. وعلى هذا القول فلا بُدَّ من إضمارٍ، وهو أن يقال: لا يكادون يَفهمونه إلا بَعْدَ تقريبٍ ومشقةٍ مِن إشارةٍ ونحوِها، وهذه الآية تَصْلُحُ أن يُحْتَجَّ بها على صحة القولِ الأوّلِ في تفسير كاد...
{فهل نَجْعَلُ لكَ خَرْجاً على أنْ تَجْعَلَ بينَنا وبينَهم سُدّاً}... قيل: الخرج بغير ألف هو الجُعْلُ لأن الناس يُخْرِج كلُّ واحدٍ منهم شيئاً منه فيُخْرِج هذا أشياءَ وهذا أشياءَ...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ودَلَّ ذلك على عدم اقتدارهم بأنفُسهم على بُنْيان السّدِّ، وعَرفوا اقتدارَ ذي القرنين عليه، فبَذَلوا له أُجْرةً، لِيَفعل ذلك، وذَكروا له السببَ الداعيَ، وهو: إفسادُهم في الأرض، فلم يكن ذو القرنين ذا طَمَعٍ، ولا رغبةٍ في الدنيا، ولا تاركاً لإصلاح أحوال الرّعِيّة، بل كان قَصْدُه الإصلاحَ، فلذلك أجاب طَلِبَتَهم لِما فيها مِن المصلحة، ولم يأخذ منهم أجرةً، وشَكَرَ ربَّه على تمكينه واقتدارِه، فقال لهم: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وعندما وَجَدوه فاتِحاً قويّاً، وتَوَسَّموا فيه القدرةَ والصّلاحَ.. عَرَضوا عليه أن يُقيم لهم سدّاً في وجه يأجوج ومأجوج الذين يُهاجِمونهم من وراء الحاجزَيْن، ويُغِيرون عليهم من ذلك المَمَرّ، فيَعِيثون في أرضهم فساداً...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {قَالُوا} استئناف للمحاورة. وقد بينا في غير موضع أن جمل حكاية القول في المحاورات لا تقترن بحرف العطف كما في قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} [البقرة: 30] الآية. فعلى أول الاحتمالين في معنى {لا يَكَادونَ يَفْقَهونَ قَولاً} أنهم لا يدركون ما يطلب منهم من طاعة ونظام ومع ذلك يعربون عما في نفوسهم من الأغراض مثل إعراب الأطفال، وعلى الاحتمال الثاني أنهم أمكنهم أن يفهم مرادهم بعد لأي.
وافتتاحهم الكلام بالنداء أنهم نادوه نداء المستغيثين المضطرين، ونداؤهم إياه بلقب ذي القرنين يدل على أنه مشهور بمعنى ذلك اللقب بين الأمم المتاخمة لبلاده.
وياجوج وماجوج أمة كثيرة العدد فيحتمل أن الواو الواقعة بين الاسمين حرف عطف فتكون أمة ذات شعبين...
والاستفهام في قوله {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ}، مستعمل في العَرض.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ولكنهم مع أنهم لا يَعرفون الشرائعَ، ولا نُظُمَ الأحكام يَرَوْنَ المَضَارَّ تتوالى عليهم مِن جِيرانٍ أشَدَّ جَهالةً، ولا يَخضَعون لِنظامٍ، ولا يُقِرّون حُقوقاً، ولا يَخضعون لِواجبٍ، وهم يأجوج ومأجوج، وهم يَسْكُنون في مناطق منغوليا ومنشوريا، أو هم منهم، ولذا لَمّا وَجدوا ذا القرنين وما يَحْمِل معه مِن نُظُمٍ إصلاحيّةٍ مانعةٍ من الظلم دافعةٍ للفساد. {قالوا يا ذا القرنَيْن إنّ يَأجوجَ ومَأجوجَ مُفْسِدونَ في الأرض فهَلْ نَجْعَلُ لكَ خَرْجاً على أنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وبَيْنَهم سَدّاً 94}...
نادَوْا ذا القرنين بهذا اللقب مما يَدلّ على أنه كان... مُتطامِناً قريباً، وذلك أَوَّلُ أَماراتِ الحاكم الصالح بأنْ يكون قريباً منهم يَأْلَفُهم، ويَألَفونه لا يكون مُتَحَجِّباً دونَهم، حتى لا يَصعُب على صاحب الحقِّ الوصولُ إليه...
{فهَلْ نَجْعَلُ لكَ خَرْجاً على أنْ تَجْعَلَ بينَنا وبينَهم سدّاً}، الخَرْجُ قالوا إنه ضرائبُ يَفرِضونها على أنفُسهم، وعَبّروا عن الضرائب بالخَرْج لأنها تَخرُج من أيديهم إليه، ولأنه يكون كخَراج الأرض أو الأنفُس على حسب ما يراه هو، إمّا أن يأخذ الضرائبَ على النفوس أو المالِ أو العَقارِ... {فَهل نَجْعَلُ لكَ خَرْجاً}، أي هل يَسُوغُ أنْ تَجعَل لكَ خَرْجاً، والفاء للإفصاح عن شرطٍ مُقَدَّرٍ، أي إذا كانوا مُفْسدين فاجْعَلْ لكَ خَرْجاً على أنْ تَبْنِيَ لنا سدّاً...
{قالُوا يا ذا القرنين}... يبدو أنه خاطَبَهم بلُغة الإشارة، واحتالَ على أن يَجعل من حركاتهم كلاماً يَفهمُه ويُنَفِّذ لهم ما يريدون، ولاشك أن هذه العملية احتاجتْ منه جهداً وصبراً حتى يُفْهِمَهم ويَفْهَمَ منهم، وإلا فقد كان في وسْعه أن ينصرِف عنهم بحُجّةِ أنهم لا يتكلَّمون ولا يتفاهَمون. فهو مثالٌ للرَّجل المؤمن الحريصِ على عمل الخير، والذي لا يَأْلُو جهداً في نفْع القوم وهدايتهِم...
ولها قواعد ودارسون يتفاهمون بها، كما نتفاهم نحن الآن مع الأخرس.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يمكن أن نستفيد مِن الآية الشريفة أنَّ تلك المجموعة مِن الناس كانت ذات وضع جيِّد مِن حيث الإِمكانات الاقتصادية، إِلاَّ أنّهم كانوا ضعفاء في المجال الصناعي والفكري والتخطيطي، لذا فقد تقبلوا بتكاليف بناء هذا السد المهم، بشرط أن يتكفل ذو القرنين ببنائه وهندسته...