{ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ } وسميت الجنة دار السلام ، لسلامتها من كل عيب وآفة وكدر ، وهم وغم ، وغير ذلك من المنغصات ، ويلزم من ذلك ، أن يكون نعيمها في غاية الكمال ، ونهاية التمام ، بحيث لا يقدر على وصفه الواصفون ، ولا يتمنى فوقه المتمنون ، من نعيم الروح والقلب والبدن ، ولهم فيها ، ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، وهم فيها خالدون .
{ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ } الذي يتولى تدبيرهم وتربيتهم ، ولطف بهم في جميع أمورهم ، وأعانهم على طاعته ، ويسر لهم كل سبب موصل إلى محبته ، وإنما تولاهم ، بسبب أعمالهم الصالحة ، ومقدماتهم التي قصدوا بها رضا مولاهم ، بخلاف من أعرض عن مولاه ، واتبع هواه ، فإنه سلط عليه الشيطان فتولاه ، فأفسد عليه دينه ودنياه .
ثم بين - سبحانه - ما أعده للمتذكرين فقال : { لَهُمْ دَارُ . . . } .
أى : أن هؤلاء المتذكرين المتقين لهم جنة عرضها السموات والأرض فى جوار ربهم وكفالته ، وهو - سبحانه - { وَلِيُّهُمْ } أى : متولى إيصال الخير إليهم ، أو محبهم أو ناصرهم بسبب أعمالهم الصالحة . وسميت الجنة بدار السلام ، لأن جميع حالاتها مقرونة بالسالمة من جميع المكاره .
قال الجمل : وقوله { عِندَ رَبِّهِمْ } فى المراد بهذه العندية وجوه :
أحدها : أنها معدة عنده كما تكون الحقوق معدة مهيأة حاضرة كقوله { جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } وثانيها : أن هذه العندية تشعر بأن هذا الأمر المدخر موصوف بالقرب من الله بالشرف والرتبة لا بالمكان والجهة لتنزهه - تعالى - عنهما .
وثالثهما : هى كقوله - تعالى - فى صفة الملائكة { وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } وقوله : أنا عند المنكسر قلوبهم وأنا عند ظن عبدى بى " .
ثم بين - سبحانه - جانبا من أحوال الظالمين يوم القيامة عند ما يقفون أمام ربهم للحساب فقال : { وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ الجن قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإنس } .
ففى هذه الآيات عرض مؤثر زاخر بالحوار والاعتراف والمناقشة والحكم تحكيه السورة الكريمة وهى تصور مشاهد المجرمين يوم القيامة .
{ لَهُمْ دَارُ السَّلامِ } وهي : الجنة ، { عِنْدَ رَبِّهِمْ } أي : يوم القيامة . وإنما وصف الله الجنة هاهنا بدار السلام لسلامتهم فيما سلكوه من الصراط المستقيم ، المقتفي أثر الأنبياء وطرائقهم ، فكما سلموا من آفات الاعوجاج أفْضَوا إلى دار السلام .
{ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ } أي : والسلام - وهو الله - وليهم ، أي : حافظهم وناصرهم ومؤيدهم ، { بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : جزاء [ على ]{[11213]} أعمالهم الصالحة تولاهم وأثابهم الجنة ، بمنّه وكرمه .
الضّمير في : { لهم دار السلام } عائد إلى { قوم يذّكَّرون } [ الأنعام : 126 ] .
والجملة إمّا مستأنفة استئنافاً بيانياً : لأنّ الثّناء عليهم بأنّهم فُصّلت لهم الآيات ويتذكّرون بها يثير سؤال مَن يسأل عن أثر تبيين الآيَات لهم وتذكُّرهم بها ، فقيل : { لهم دار السلام } .
وإمّا صفة : { لقوم يذّكّرون } [ الأنعام : 126 ] . وتقديم المجرور لإفادة الاختصاص للقوم الذين يذكّرون لا لغيرهم .
والدّارُ : مكان الحلول والإقامة ، ترادف أو تقارب المحلّ من الحُلول ، وهو مؤنّث تقديراً فيصغَّر على دويرة . والدّار مشتقّة من فعل دار يدور لكثرة دوران أهلها ، ويقال لها : دارة ، ولكن المشهور في الدارة أنّها الأرض الواسعة بين جبال .
والسّلام : الأمان ، والمراد به هنا الأمان الكامل الّذي لا يعتري صاحِبه شيء ممّا يُخاف من الموجودات جواهرها وأعراضها ، فيجوز أن يراد بدار السّلام الجنّة سمّيت دار السّلام لأنّ السّلامة الحقّ فيها ، لأنَّها قرار أمن من كلّ مكروه للنّفس ، فتمحّضت للنَّعيم الملائم ، وقيل : السّلام ، اسم من أسماء الله تعالى ، أي دار الله تعظيماً لها كما يقال للكعبة : بيت الله ، ويجوز أن يراد مكانة الأمان عند الله ، أي حالة الأمان من غضبه وعذابه ، كقول النّابغة :
كم قد أحلّ بدار الفقر بعد غنىً *** عمرو وكم راش عمرو بعد إقتار
و { عند } مستعارة للقرب الاعتباري ، أريد به تشريف الرتبة كما دلّ عليه قوله عَقِبه : { وهو وليّهم } ، ويجوز أن تكون مستعارة للحفظ لأنّ الشيء النّفيس يُجعل في مكان قريب من صاحبه ليحفظه ، فيكون المعنى تحقيق ذلك لهم ، وأنَّه وعد كالشّيء المحفوظ المدّخر ، كما يقال : إن فعلت كذا فلك عندي كذا تحقيقاً للوعد . والعدول عن إضافة { عند } لضمير المتكلّم إلى إضافته للاسم الظاهر : لقصد تشريفهم بأنّ هذه عطيّة مَن هو مولاهم . فهي مناسبة لفضله وبرّه بهم ورضاه عنهم كعكسه المتقدّم آنفاً في قوله تعالى : { سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله } [ الأنعام : 124 ] .
وعطف على جملة : { لهم دار السلام } جملة : { وهو وليهم } تعميماً لولاية الله إيَّاهم في جميع شؤونهم ، لأنَّها من تمام المنّة . والوليّ يطلق بمعنى النّاصر وبمعنى الموالي .
وقوله : { بما كانوا يعملون } يجوز أن يتعلّق بما في معنى الخبر في قوله : { لهم دار السلام } ، من مفهوم الفعل ، أي ثبت لهم ذلك بما كانوا يعملون ، فتكون الباء سببيّة ، أي بسبب أعمالهم الحاصلة بالإسلام ، أو الباء للعوض : أي لهم ذلك جَزاء بأعمالهم ، وتكون جملة : { وهو وليهم } معترضة بين الخبر ومتعلِّقه ، ويجوز أن يَكون : { بما كانوا يعملون } متعلِّقا ب { وليّهم } أي وهو ناصرهم ، والباء للسّببيّه : أي بسبب أعمالهم تولاّهم ، أو الباء للملابسة ، ويكون : { بما كانوا يعملون } مراداً به جزاء أعمالهم ، على حذف مضاف دلّ عليه السّياق .
وتعريف المسند بالإضافة في قوله : { وليهم } أفاد الإعلام بأنّ الله وليّ القوم المتذكّرين ، ليعلموا عظم هذه المنّة فيشكروها ، وليعلم المشركون ذلك فيغيظهم .
وذلك أنّ تعريف المسند بالإضافه يخالف طريقة تعريفه بغير الإضافة ، من طرق التّعريف ، لأنّ التّعريف بالإضافة أضعف مراتب التّعريف ، حتّى أنَّه قد يقرب من التّنكير على ما ذكره المُحقّقون : من أنّ أصل وضع الإضافة على اعتبار تعريف العهد ، فلا يُقال : غلام زيد ، إلاّ لغلام معهود بين المتكلّم والمخاطب بتلك النّسبة ، ولكن الإضافة قد تخرج عن ذلك في الاستعمال فتجيء بمنزلة النكرة المخصوصة بالوصف ، فتقول : أتاني غلامُ زيد بكتاب منه وأنت تريد غلاماً له غير معيَّن عند المخاطب ، فيصير المعرّف بالإضافة حينئذ كالمعرّف بلام الجنس ، أي يفيد تعريفاً يميّز الجنس من بين سائر الأجناس ، فالتّعريف بالإضافة يأتي لما يأتي له التّعريف باللام . ولهذا لم يكن في قوله : { وهو وليهم } قَصْر ولا إفاده حُكم معلوم على شيء معلوم . وممّا يزيدك يقينا بهذا قوله تعالى : { ذلك بأنّ الله مولى الذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم } [ محمد : 11 ] فإنّ عطف : { وأنّ الكافرين لا مولى لهم } على قوله : { بأنّ الله مولى الذين آمنوا } أفاد أنّ المراد بالأوّل إفادة ولاية الله للّذين آمنوا لا الإعلام بأنّ من عرف بأنَّه مولى الّذين آمنوا هو الله .