قوله - سبحانه - : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً . . } معطوف على قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً } وللام فى قوله { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ . . } جواب لقسم محذوف ، و { ثَمُودَ } اسم للقبيلة التى منها صالح - عليه السلام - ، سميت باسم جدها ثمود . وقيل : سميت بذلك لقلة مائها ، لأن الثمد هو الماء القليل .
وكانت مساكنهم بالحجر - بكسر الحاء وسكون الجيم - ، وهو مكان بين الحجاز والشام ، ومازلت مساكنهم تعرف بمدائن صالح إلى اليوم . وقد مر النبى صلى الله عليه وسلم بديارهم ، وهو ذاهب إلى غزوة تبوك ، سنة تسع بعد الهجرة .
وصالح - عليه السلام - هو نبيهم ، وكان واحدا منهم ، وينتهى نسبه إلى نوح - عليه السلام - وقبيلة ثمود تسمى عادا الثانية ، أما قبيلة عاد فتسمى عادا الأولى ، ونبيهم هود - عليه السلام - قالوا : وكان بين القبيلتين زهاء مائة عام .
والمعنى : وبالله لقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود ، أخاهم صالحا - عليه السلام - ، فقال لهم ما قاله كل نبى لقومه : { أَنِ اعبدوا الله } - تعالى - وحده ، ولا تشركوا معه آلهة أخرى .
و " إذا " فى قوله - تعالى - : { فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ } هى الفجائية و { يَخْتَصِمُونَ } من المخاصمة بمعنى المجادلة والمنازعة .
أى : أرسلنا نبينا صالحا إلى قومه ، فكانت المفاجأة أن انقسم قومه إلى قسمين : قسم آمن به - وهم الأقلون - ، وقسم كفر به - وهم الأكثرون .
وهذه الخصومة بين الفريقين ، قد أشار إليها القرآن فى قوله - تعالى - : { قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الذين استكبروا إِنَّا بالذي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ }
يخبر تعالى عن ثمود وما كان من أمرها مع نبيها صالح ، عليه السلام ، حين بعثه الله إليهم ، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، { فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ } قال مجاهد : مؤمن وكافر - كقوله تعالى : { قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [ الأعراف : 75 ، 76 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىَ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ * قَالَ يَقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسّيّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَلَقَدْ أرْسَلْنا إلى ثَمُودَ أخاهُمْ صَالِحا أن اعْبُدُوا اللّهَ وَحده لا شرِيك له ، ولا تجعلوا معه إلها غيره فإذَا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ يقول : فلما أتاهم صالح داعيا لهم إلى الله صار قومه من ثمود فيما دعاهم إليه فريقين يختصمون ، ففريق مصدّق صالحا مؤمن به ، وفريق مكذّب به كافر بما جاء به . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ قال : مؤمن وكافر ، قولهم صالح مرسل ، وقولهم صالح ليس بمُرسل . ويعني بقوله يَخْتَصِمُونَ يختلفون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد فإذَا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ قال : مؤمن ، وكافر .
هذا مثل ثالث ضربه الله لحال المشركين مع المؤمنين وجعله تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن له أسوة بالرسل والأنبياء من قبله .
والانتقال من ذكر ملك سليمان وقصّة ملكة سبأ إلى ذكر ثمود ورسولهم دون ذكر عاد لمناسبة جِوار البلاد ، لأن ديار ثمود كانت على تخوم مملكة سليمان وكانت في طريق السائر من سَبأ إلى فلسطين .
ألا ترى أنه أعقب ذكر ثمود بذكر قوم لوط وهم أدنى إلى بلاد فلسطين ، فكان سياق هذه القصص مناسباً لسياق السائر من بلاد اليمن إلى فلسطين . ولما كان ما حلّ بالقوم أهمَّ ذِكراً في هذا المقام قدم المجرور على المفعول لأن المجرور هو محل العبرة ، وأما المفعول فهو محلّ التسلية ، والتسلية غرض تَبَعيّ .
ولام القسم لتأكيد الإرسال باعتبار ما اتصل به من بقية الخبر ؛ فإما أن يكون التأكيد لمجرد الاهتمام ، وإما أن يبنى على تنزيل المخاطبين منزلة من يتردد فيما تضمنه الخبر من تكذيب قومه إياه واستخفافهم بوعيد ربّهم على لسانه . وحلول العذاب بهم لأجل ذلك لأن حالهم في عدم العظة بما جرى للمماثلين في حالهم جعلهم كمن ينكر ذلك .
و { أن أعبُدوا الله } تفسير لما دل عليه { أرسلنا } من معنى القول . وفرع على { أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً } إلخ { إذا هم فريقان يختصمون } . فالمعنى : أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً لإنقاذهم من الشرك ففاجأ من حالهم أن أعرض فريق عن الإيمان وآمن فريق .
والإتيان بحرف المفاجأة كناية عن كون انقسامهم غير مرضي فكأنّه غير مترقب ، ولذلك لم يقع التعرض لإنكار كون أكثرهم كافرين إشارة إلى أن مجرد بقاء الكفر فيهم كاف في قبْح فعلهم . وحالهم هذا مساوٍ لحال قريش تجاه الرسالة المحمدية . وأعيد ضمير { يختصمون } على المثنى وهو { فريقان } باعتبار اشتمال الفريقين على عدد كثير . كقوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] ولم يقل : اقتتلتا .
والفريقان هما : فريق الذين استكبروا ، وفريق الذين استضعفوا وفيهم صالح . والفاء للتعقيب وهو تعقيب بحسب ما يقتضيه العرف بعد سماع الدعوة . والاختصام واقع مع صالح ابتداء ، ومع أتباعه تبعاً .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَلَقَدْ أرْسَلْنا إلى ثَمُودَ أخاهُمْ صَالِحا أن اعْبُدُوا اللّهَ" وَحده لا شرِيك له، ولا تجعلوا معه إلها غيره "فإذَا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ "يقول: فلما أتاهم صالح داعيا لهم إلى الله صار قومه من ثمود فيما دعاهم إليه فريقين يختصمون، ففريق مصدّق صالحا مؤمن به، وفريق مكذّب به كافر بما جاء به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله} يحتمل هذا: {ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا} وأمرناه أن يقول لهم: اعبدوا الله. وجائز أن يكون قوله: {أن اعبدوا الله} بالرسالة التي أرسلناه ليدعوهم إلى عبادة الله. وقوله: {أن اعبدوا الله} يحتمل: وحدوا الله، ويحتمل العبادة نفسها: أن اعبدوا الله، ولا تشركوا غيره في العبادة والألوهية. وقوله تعالى: {فإذا هم فريقان يختصمون} قيل: فريقان: [مؤمن بصالح، ومكذب] به، ولم يبين فيم كانت خصومتهم؟ وبين من كانت في هذه الآية. لكنه بين في آية أخرى، وفسر، وهو ما {قال الملأ الذين استكبروا من قومه، للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه، قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون} {قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون} [الأعراف: 75 و76]. هذه الخصومة التي ذكر في قوله: {فإذا هم فريقان يختصمون} بين الرؤساء من الكفرة والمؤمنين بصالح، والله أعلم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه الآية على جهة التمثيل لقريش...
...أما قوله: {يختصمون} فالمعنى أن الذين آمنوا إنما آمنوا لأنهم نظروا في حجته فعرفوا صحتها، وإذا كان كذلك فلابد وأن يكون خصما لمن لم يقبلها، وإذا كان هذا الاختصام في باب الدين دل ذلك على أن الجدال في باب الدين حق وفيه إبطال التقليد.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولقد أرسلنا} أي بما لنا من العظمة {إلى ثمود} ثم أشار إلى العجب من توقفهم بقوله: {أخاهم صالحاً} فجمع إلى حسن الفعل حسن الاسم وقرب النسب. ثم ذكر المقصود من الرسالة بما لا أعدل منه ولا أحسن، وهو الاعتراف بالحق لأهله، فقال: {أن اعبدوا الله} أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له وحده، ولا تشركوا به شيئاً ولا سيما شيئاً لا يضر بوجه ولا ينفع، بياناً لأن الرسل عليهم الصلاة والسلام متفقون على ذلك عربهم وعجمهم. ثم زاد في التعجيب منهم بما أشارت إليه الفاء وأداة المفاجأة من المبادرة إلى الافتراق بما يدعو إلى الاجتماع فقال: {فإذا هم} أي ثمود {فريقان} ثم بين بقوله: {يختصمون} أنها فرقة افتراق بكفر وإيمان، لا فرقة اجتماع في هدى وعرفان، فبعضهم صدق صالحاً واتبعه كما مضى في الأعراف. وتأتي هنا الإشارة إليه بقوله "وبمن معك "وبعضهم استمر على شركه وكذبه، وكل فريق يقول: أنا على الحق وخصمي على الباطل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
في معظم المواضع في القرآن ترد قصة صالح وثمود في سياق قصص عام مع نوح وهود، ولوط وشعيب. وأحيانا تجيء قصة إبراهيم في هذا السياق أو لا تجيء. أما في هذه السورة والتركيز فيها على قصص بني إسرائيل، فقد جاءت قصة موسى وقصة داود وسليمان. واختصرت قصة هود وقصة شعيب من السلسلة ولم تجئ قصة إبراهيم. وفي هذه السورة لا تذكر حلقة الناقة في قصة صالح -عليه السلام- إنما يذكر تبييت الرهط التسعة المفسدين لصالح وأهله، ومكرهم به وهو لا يشعر، فمكر الله بالمفسدين وهم لا يشعرون، ودمرهم وقومهم أجمعين. وأنجى الذين آمنوا وكانوا يتقون، وترك بيوت المفسدين خاوية وجعلها لمن بعدهم آية. والمشركون في مكة يمرون بهذه البيوت المدمرة الخاوية ولكنهم لا يعتبرون.. (ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله، فإذا هم فريقان يختصمون)..
يلخص رسالة صالح -عليه السلام- في حقيقة واحدة: (أن اعبدوا الله) فهذه هي القاعدة التي ترتكز عليها رسالة السماء إلى الأرض في كل جيل، ومع كل رسول. ومع أن كل ما حول البشر في هذا الكون، وكل ما يكمن فيهم أنفسهم، يهتف بهم إلى الإيمان بهذه الحقيقة الواحدة، فقد أمضت البشرية أجيالا وأزمانا لا يعلمها إلا الله، وهي تقف أمام هذه الحقيقة البسيطة وقفة الإنكار والجحود، أو وقفة الهزء والتكذيب. وما تزال إلى اليوم تروغ عن هذه الحقيقة الخالدة، وتجنح إلى شتى السبل، التي تتفرق بها عن سبيل الله الواحد المستقيم.
فأما قوم صالح -ثمود- فيحكي القرآن خلاصة موقفهم بعد دعوته إياهم، وجهده معهم بأنهم أصبحوا فريقين يختصمون. فريقا يستجيب له، وفريقا يخالف عنه. وكان الفريق المعارض هو الكثرة، كما نعرف من المواضع الأخرى في القرآن عن هذه القصة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وليس في قصة صالح وثمود تكرار، بل ذكر فيه ما لم يذكر في غير هذا الموضع، ولم يذكر فيه ما ذكر في غيره، لم تذكر المعجزة وهي الناقة، وما كان منهم من اعتداء عليها، وذكر هنا الائتمار على قتل صالح وامرأته، ولم ينجه منهم إلا إنزال العذاب بهم، وما ترك العذاب فيهم من عبر..
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وهاهنا يؤكد كتاب الله للمرة الثالثة أن الله إنما أرسل إلى ثمود أخا لهم ورسولا من أنفسهم ينتسب إلى نسبهم، ليألف ويولف، ويسهل عليهم التفاهم معه، ويأخذ بيدهم إلى طريق الهدى والحق المبين...
مرت بنا قصة نبي الله صالح- عليه السلام- مع قومه ثمود في سورة الشعراء، وأعيد ذكرها هنا؛ لأن القرآن يقص على رسول الله من موكب الأنبياء ما يثبت به فؤاده، كلما تعرض لأحداث تزلزل الفؤاد، يعطيه الله النجم من القرآن بما يناسب الظروف التي يمر بها، وهذا ليس تكرارا للأحداث، إنما توزيع للقطات، بحيث إذا تجمعت تكاملت في بناء القصة. وقوله سبحانه {ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا} لا بد أنه أرسل بشيء ما هو؟ {أن اعبدوا الله} لذلك سميت (أن) التفسيرية... {فإذا هم فريقان يختصمون} والاختصام أن يقف فريق منهم ضد الآخر، والمراد أن فريقا منهم عبدوا الله وأطاعوا، والفريق الآخر عارض وكفر بالله...