{ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } لأن الله منحهم من العلم ، ما به يعرفون الحق من الباطل ، والرشد من الغي ، فيميزون بين الأمرين ، الحق المستقر ، الذي يحكمه الله ، والباطل العارض الذي ينسخه الله ، بما على كل منهما من الشواهد ، وليعلموا أن الله حكيم ، يقيض بعض أنواع الابتلاء ، ليظهر بذلك كمائن النفوس الخيرة والشريرة ، { فَيُؤْمِنُوا بِهِ } بسبب ذلك ، ويزداد إيمانهم عند دفع المعارض والشبه .
{ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ } أي : تخشع وتخضع ، وتسلم لحكمته ، وهذا من هدايته إياهم ، { وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا } بسبب إيمانهم { إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } علم بالحق ، وعمل بمقتضاه ، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، وهذا النوع من تثبيت الله لعبده .
وهذه الآيات ، فيها بيان أن للرسول صلى الله عليه وسلم أسوة بإخوانه المرسلين ، لما وقع منه عند قراءته صلى الله عليه وسلم : { والنجم } فلما بلغ { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى } ألقى الشيطان في قراءته : " تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن{[542]} لترتجى " فحصل بذلك للرسول حزن وللناس فتنة ، كما ذكر الله ، فأنزل الله هذه الآيات .
ثم بين - سبحانه - حكمة أخرى لما فعله الشيطان من إلقاء الشبه والوساوس فى القلوب فقال :
{ وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ } .
والضمير فى { أَنَّهُ } يعود إلى ما جاء به الرسل والأنبياء من عند ربهم .
أى : وفعل ما فعل - سبحانه - أيضا ، ليعلم العلماء من عباده ، الذين حبب - سبحانه - إليهم الإيمان ، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان ، أن ما جاء به الرسل والأنبياء هو الحق الثابت من ربك ، فيزدادوا إيمانا به { فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ } أى : فتخضع وتسكن وتطمئن إليه نفوسهم .
و { وَإِنَّ الله } - تعالى - { لَهَادِ الذين آمنوا } به وصدقوا أنبياءه ورسله { إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } يوصلهم إلى السعادة فى الدنيا والآخرة .
هذا ، وقد أبطل العلماء - قديما وحديثا - قصة الغرانيق ، ومن العلماء القدماء الذين تصدوا لهذا الإبطال الإمام الفخر الرازى ، فقد قال ما ملخصه : قصة الغرانيق باطلة عند أهل التحقيق ، واستدلوا على بطلانها بالقرآن والسنة والمعقول .
أما القرآن فمن وجوه منها قوله - تعالى - : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين } وقوله - سبحانه - : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى } وقوله - عز وجل { قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ . . . } وأما السنة ، فقد قال الإمام البيهقى : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل وأيضا فقد روى البخارى فى صحيحه أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة " النجم " وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن ، وليس فيه حديث الغرانيق . وروى هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها البتة حديث الغرانيق .
وأما المعقول فمن وجوه منها : أن من جور على الرسول - صلى الله عليه وسلم - تعظيم الأوثان فقد كثر ، لان من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه - صلى الله عليه وسلم - كان نفى الأوثان .
ومنها : أننا لو جوزنا ذلك لارتفع الأمان عن شرعه . . . فإنه لا فرق فى العقل بين النقصان عن الوحى وبين الزيادة فيه .
فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة . أكثر ما فى الباب أن جمعا من الفسرين ذكرها ، لكنهم ما بلغوا حد التواتر . وخبر الواحد لا يعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة .
وقال بعض العلماء ما ملخصه : اعلم أن مسألة الغرانيق مع استحالتها شرعا ، ودلالة القرآن على بطلانها ، لم تثبت من طريق صالح للاحتجاج به ، وصرح بعد ثبوتها خلق كثير من علماء الحديث كما هو الصواب .
والحاصل : أن القرآن دل على بطلانها ، ولم تثبت من جهة النقل ، مع استحالة الإلقاء على لسانه - صلى الله عليه وسلم - شرعا ولو على سبيل السهو .
والذى يظهر لنا أنه الصواب : هو أن ما يلقيه الشيطان فى قراءة النبى : الشكوك والوساوس المانعة من تصديقها وقبولها ، كإلقائه عليهم أنها سحر أو شعر أو أساطير الأولين . . .
والدليل على هذا المعنى : أن الله - تعالى - بين أن الحكمة فى الإلقاء المذكور امتحان الخلق ، لأنه قال : { لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم . . . } ثم قال : { وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ . . . } فهذا يدل على أن الشيطان يلقى عليهم ، أن الذى يقرؤه النبى ليس بحق ، فيصدقه الأشقياء ، ويكذبه المؤمنون الذين أوتوا العلم ، ويعلمون أنه الحق لا الكذب ، كما يزعم لهم الشيطان فى إلقائه . . . " .
{ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ } أي : وليعلم الذين أوتوا العلم النافع الذي يفرقون به بين الحق والباطل ، المؤمنون بالله ورسوله ، أن ما أوحيناه إليك هو الحق من ربك ، الذي أنزله بعلمه وحفظه وحرسه أن يختلط به غيره ، بل هو كتاب حكيم ، { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42 ] .
وقوله : { فَيُؤْمِنُوا بِهِ } أي : يصدقوه وينقادوا له ، { فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ } أي : تخضع وتذل ، { وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي : في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فيرشدهم إلى الحق واتباعه ، ويوفقهم لمخالفة الباطل واجتنابه ، وفي الآخرة يهديهم [ إلى ]{[20377]} الصراط المستقيم ، الموصل إلى درجات الجنات ، ويزحزحهم عن العذاب الأليم والدركات .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِيَعْلَمَ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنّهُ الْحَقّ مِن رّبّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنّ اللّهَ لَهَادِ الّذِينَ آمَنُوَاْ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ } .
يقول تعالى ذكره : وكي يعلم أهل العلم بالله أن الذي أنزله الله من آياته التي أحكمها لرسوله ونسخ ما ألقي الشيطان فيه ، أنه الحقّ من عند ربك يا محمد فُيؤْمِنُوا بِهِ يقول : فيصدّقوا به . فتُخْبِتَ له قُلُوبُهُمْ يقول : فتخضع للقرآن قلوبهم ، وتذعن بالتصديق به والإقرار بما فيه . وَإنّ اللّهَ لَهَادِ الّذِينَ آمَنُوا إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وإن الله لمرشد الذين آمنوا بالله ورسوله إلى الحقّ القاصد والحقّ الواضح ، بنسخ ما ألقي الشيطان في أمنية رسوله ، فلا يضرّهم كيد الشيطان وإلقاؤه الباطل على لسان نبيهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : وَلِيَعْلَمَ الّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّكَ قال : يعني القرآن .
{ وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك } أن القرآن هو الحق النازل من عند الله ، أو تمكين الشيطان من الإلقاء هو الحق الصادر من الله لأنه مما جرت به عادته في الإنس من لدن آدم . { فيؤمنوا به } بالقرآن أو بالله . { فتخبت له قلوبهم } بالانقياد والخشية . { وإن الله لهادي الذين آمنوا } فيما أشكل . { إلى صراط مستقيم } هو نظر صحيح يوصلهم إلى ما هو الحق فيه .
لام { ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة } مستعار لمعنى الترتب مثل اللام في قوله تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً } [ القصص : 8 ] . وهي مستعارة لمعنى التعقيب الذي حقه أن يكون بحرف الفاء ، أي تحصل عقب النسخ الذي فعله الله فتنةُ من افتتن من المشركين بانصرافهم عن التأمل في أدلة نسخ ما يلقيه الشيطان ، وعن استماع ما أحكم الله به آياته ، فيستمر كفرهم ويقوى .
وأما لام { وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك } فهي على أصل معنى التّعليل ، أي ينسخ الله ما يلقي الشيطان لإرادة أن يعلم المؤمنون أنه الحق برسوخ ما تمناه الرسول والأنبياء لهم من الهدى كما يحصل لهم بما يحكم الله من آياته ازدياد الهدى في قلوبهم .
و { الذين في قلوبهم مرض } هم المتردّدون في قبول الإيمان . و { القاسية قلوبهم } هم الكافرون المصممون على الكفر . والفريقان هم المراد ب { الظالمين } في قوله : { وإن الظالمين لفي شقاق بعيد } . فذكر { الظالمين } إظهار في مقام الإضمار للإيماء إلى أن علّة كونهم في شقاق بعيد هي ظلمهم ، أي كفرهم .
والبعيد هنا مستعمل في معنى : البالغ حدّاً قوياً في حقيقته . تشبيهاً لانتشار الحقيقة فيه بانتشار المسافة في المكان البعيد كما في قوله تعالى { فذو دعاء عريض } [ فصلت : 51 ] أي دعاء كثير مُلح .
وجملة { وإن الظالمين لفي شقاق بعيد } معترضة بين المتعاطفات .
و { الذين أوتوا العلم } هم المؤمنون بقرينة مقابلته ب { الذين في قلوبهم مرض } وبقوله { وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم } . فالمراد بالعلم الوحي والكُتب التي أوتيها أصحاب الرسل السابقين فإنهم بها يصيرون من أهل العلم .
وإطلاق { الذين أوتوا العلم } على المؤمنين تكرر في القرآن .
وهذا ثناء على أصحاب الرسل بأنهم أوتوا العلم ، وهو علم الدّين الذي يبلغهم الرسل عليهم الصلاة والسلام ، فإن نور النُّبوءة يشرق في قلوب الذين يصحبون الرسول . ولذلك تجد من يصحب الرسول صلى الله عليه وسلم قد يكون قبل الإيمان جِلفاً فإذا آمن انقلب حكيماً ، مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم « أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم » . وضمير { أنه الحق } عائد إلى العلم الذي أوتوه ، أي ليزدادوا يقيناً بأن الوحي الذي أوتوه هو الحق لا غيره مما ألقاه الشيطان لهم من التشكيك والشبه والتضليل ، فالقصر المستفاد من تعريف الجزأين قصر إضافي . ويجوز أن يكون ضمير { أنه } عائداً إلى ما تقدم من قوله { فينسخ الله } إلى قوله { ثم يحكم الله آياته } ، أي أن المذكور هو الحق ، كقول رُؤبة :
فيها خطوط من سواد وبلق *** كأنه في الجِلد توليع البَهق
وقوله { فيؤمنوا به } معناه : فيزدادوا إيماناً أو فيؤمنوا بالناسخ والمحكَم كما آمنوا بالأصل .
والإخباتُ : الاطمئنان والخشوع . وتقدم آنفاً عند قوله تعالى : { وبشر المخبتين } [ الحج : 34 ] ، أي فيستقر ذلك في قلوبهم كقوله تعالى : { قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } [ البقرة : 260 ] .
وبما تلقيتَ في تفسير هذه الآية من الانتظام البيّن الواضح المستقل بدلالته والمستغني بنَهله عن عُلالته ، والسالم من التكلّفات والاحتياج إلى ضميمة القصص ترى أن الآية بمعزل عما ألصقه بها الملصقون والضعفاء في علوم السُّنّة ، وتلقاه منهم فريق من المفسرين حباً في غرائب النوادر دون تأمل ولا تمحيص ، من أن الآية نزلت في قصة تتعلق بسورة النجم فلم يكتفوا بما أفسدوا من معنى الآية حتى تجاوزوا بهذا الإلصاق إلى إفساد معاني سورة النجم ، فذكروا في ذلك روايات عن سعيد بن جبير ، وابن شهاب ، ومحمد بن كعب القرطبي ، وأبي العالية ، والضحاك وأقربُها رواية عن ابن شهاب وابن جبير والضحاك قالوا : إنّ النبي صلى الله عليه وسلم جلس في ناد من أندية قُريش كثير أهله من مسلمين وكافرين ، فقرأ عليهم سورة النجم فلما بلغ قوله : { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى } [ النجم : 19 - 20 ] ألقى الشيطان بين السامعين عقب ذلك قوله : { تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى } ففرح المشركون بأن ذكَر آلهتهم بخير ، وكان في آخر تلك السورة سجدة من سجود التلاوة ، فلما سجد في آخر السورة سجد كلّ من حضر من المسلمين والمشركين ، وتسامع الناس بأن قُريشاً أسلموا حتى شاع ذلك ببلاد الحبشة ، فرجع من مهاجرة الحبشة نفرٌ منهم عثمان بن عفان إلى المدينة ، وأن النبي لم يشعر بأن الشيطان ألقى في القوم ، فأعلمه جبريل عليه السلام فاغتمّ لذلك فنزل قوله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك } الآية تسلية له .
وهي قصة يجدها السامع ضِغثاً على إبَالة ، ولا يلقي إليها النِّحرير بالَه . وما رُويت إلا بأسانيد واهية ومنتهاها إلى ذكر قصة ، وليس في أحد أسانيدها سماع صحابي لشيء في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وسندها إلى ابن عباس سندٌ مطعون . على أنّ ابن عباس يوم نزلت سورة النجم كان لا يحضر مجالس النبي صلى الله عليه وسلم وهي أخبار آحاد تعارض أصول الدين لأنها تخالف أصل عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم لا التباس عليه في تلقي الوحي . ويكفي تكذيباً لها قوله تعالى : { وما ينطق عن الهوى } [ النجم : 3 ] وفي معرفة الملكَ . فلو رووها الثقات لوجب رفضها وتأويلها فكيف وهي ضعيفة واهية . وكيف يروج على ذي مُسكة من عقل أن يجْتمع في كلاممٍ واحد تسفيهِ المشركين في عبادتهم الأصنام بقوله تعالى : { أفرأيتم اللات والعزى } [ النجم : 19 ] إلى قوله : { ما أنزل الله بها من سلطان } [ النجم : 23 ] فيقع في خلال ذلك مدحها بأنها « الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجى » . وهل هذا إلا كلام يلعنُ بعضُه بعضاً . وقد اتفق الحاكون أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم كلها حتى خاتمتِها { فاسجدوا لله واعبدوا } [ النجم : 62 ] لأنهم إنما سجدوا حين سجد المسلمون ، فدلّ على أنهم سمعوا السورة كلها وما بين آية { أفرأيتم اللات والعزى } [ النجم : 19 ] وبين آخر السورة آيات كثيرة في إبطال الأصنام وغيرها من معبودات المشركين ، وتزييف كثير لعقائد المشركين فكيف يصحّ أن المشركين سجدوا من أجل الثناء على آلهتهم . فإن لم تكن تلك الأخبار مكذوبة من أصلها فإن تأويلها : أن بعض المشركين وجدوا ذكر اللات والعُزّى فُرصة للدخَل لاختلاق كلمات في مدحهنّ ، وهي هذه الكلمات وروّجُوها بين الناس تأنيساً لأوليائهم من المشركين وإلقاء للريب في قلوب ضعفاء الإيمان .
وفي « شرح الطيبي على الكشاف » نقلاً عن بعض المؤرّخين : أن كلمات « الغرانيق . . . » ( أي هذه الجمل ) من مفتريات ابن الزِّبعرى . ويؤيد هذا ما رواه الطبري عن الضحاك : « أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل عليه قصةُ آلهة العرب ( أي قوله تعالى : { أفرأيتم اللات والعزى } [ النجم : 19 ] الخ ) فجعَل يتلو : اللاّتَ والعُزّى ( أي الآية المشتملة على هذا ) فسمع أهل مكة نبي الله يذكر آلهتهم ففرحوا ودنوا يستمعون فألقَى الشيطان تلك الغرانيق العُلَى مِنها الشفاعة ترتجَى » فإن قوله : « دنوا يستمعون فألقى الشيطان » الخ يؤذن بأنهم لم يسمعوا أول السورة ولا آخرها وأن شيطانهم ألقى تلك الكلمات . ولعل ابن الزبعرى كانت له مقدرة على محاكاة الأصوات وهذه مقدرة توجد في بعض الناس . وكنت أعرف فتى من أترابنا ما يحاكي صوت أحد إلا ظنه السامع أنه صوتُ المُحاكَى .
وأما تركيب تلك القصة على الخبر الذي ثبت فيه أنّ المشركين سَجدوا في آخر سورة النجم لما سجد المسلمون ، وذلك مروي في الصحيح ، فذلك من تخليط المؤلفين .
وكذلك تركيب تلك القصة على آية سورة الحجّ . وكم بين نزول سورة النجم التي هي من أوائل السور النازلة بمكة وبين نزول سورة الحج التي بعضها من أول ما نزل بالمدينة وبعضها من آخر ما نزل بمكة .
وكذلك ربط تلك القصة بقصة رجوع من رَجع من مهاجرة الحبشة . وكم بين مدّة نزول سورة النجم وبين سنة رجوع من رجع من مهاجرة الحبشة .
فالوجه : أن هذه الشائعة التي أشيعت بين المشركين في أول الإسلام ، إنما هي من اختلاقات المستهزئين من سفهاء الأحلام بمكة مثل ابن الزبعرى ، وأنهم عمدوا إلى آية ذُكرت فيها اللات والعُزّى ومناةَ فركّبوا عليها كلمات أخرى لإلقاء الفتنة في الناس وإنما خَصُّوا سورة النجم بهذه المرجَفة لأنهم حَضروا قراءتها في المسجد الحرام وتعلقت بأذهانهم وتطلباً لإيجاد المعذرة لهم بين قومهم على سجودهم فيها الذي جعله الله معجزة النبي صلى الله عليه وسلم وقد سرى هذا التعسف إلى إثبات معنى في اللغة ، فزعموا أن { تمنّى } بمعنى : قرأ ، والأمنية : القراءة ، وهو ادّعاء لا يوثق به ولا يُوجد له شاهد صريح في كلام العرب . وأنشدوا بيتاً لحسان بن ثابت في رثاء عثمان رضي الله عنه :
تمنّى كتاب الله أول لَيْله *** وآخره لاقى حِمام المَقادر
وهو محتمل أن معناه تمنّى أن يقرأ القرآن في أول الليل على عادته فلم يتمكّن من ذلك بتشغيب أهل الحصار عليه وقتلوه آخر الليل . ولهذا جعله تمنياً لأنه أحبَ ذلك فلم يستطع . وربما أنشدوه برواية أخرى فظُنّ أنه شاهد آخر ، وربما توهَموا الرواية الثانية بيتاً آخر . ولم يذكر الزمخشري هذا المعنى في الأساس } . وقد قدمنا ذلك عند قوله تعالى : { ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني } في سورة [ البقرة : 78 ] .
وجملة { إن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم } معترضة . والواو للاعتراض ، والذين أوتوا العلم هم المؤمنون . وقد جمع لهم الوصفان كما في قوله تعالى : { وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث } في سورة [ الروم : 56 ] . وكما في سورة [ سبأ : 6 ] { ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق } فإظهار لفظ { الذين آمنوا } في مقام ضمير { الذين أوتوا العلم } لقصد مدحهم بوصف الإيمان ، والإيماء إلى أن إيمانهم هو سبب هديهم . وعكسه قوله تعالى : { إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار } [ الزمر : 3 ] . فالمراد بالهُدى في كلتا الآيتين عناية الله بتيسيره وإلا فإن الله هدى الفريقين بالدعوة والإرشاد فمنهم من اهتدى ومنهم من كفر .
وكتب في المصحف { لهاد } بدون ياء بعد الدال واعتباراً بحالة الوصل على خلاف الغالب . وفي الوقف يثبت يعقوب الياء بخلاف البقية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر المؤمنين سبحانه: {وليعلم الذين أوتوا العلم} بالله عز وجل {إنه} يعني: القرآن {الحق من ربك فيؤمنوا به} يعني: فيصدقوا به {فتخبت} يعني: فتخلص {له قلوبهم وإن الله لهاد الذين ءامنوا إلى صراط مستقيم} آية، يعني: دينا مستقيما.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وكي يعلم أهل العلم بالله أن الذي أنزله الله من آياته التي أحكمها لرسوله ونسخ ما ألقى الشيطان فيه، أنه الحقّ من عند ربك يا محمد "فُيؤْمِنُوا بِهِ "يقول: فيصدّقوا به. "فتُخْبِتَ له قُلُوبُهُمْ" يقول: فتخضع للقرآن قلوبهم، وتذعن بالتصديق به والإقرار بما فيه.
"وَإنّ اللّهَ لَهَادِ الّذِينَ آمَنُوا إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ": وإن الله لمرشد الذين آمنوا بالله ورسوله إلى الحقّ القاصد والحقّ الواضح، بنسخ ما ألقى الشيطان في أمنية رسوله، فلا يضرّهم كيد الشيطان وإلقاؤه الباطل على لسان نبيهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {وإِنَّ الله لَهَادِ الذين ءامنوا إلى} أن يتأولوا ما يتشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة، ويطلبوا لما أشكل منه المحمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة والقوانين الممهدة، حتى لا تلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة ولا تزل أقدامهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {الذين أوتوا العلم} هم أصحاب محمد رسول الله عليه السلام،والضمير في {أنه} عائد على القرآن و «تخبت» معناه تتطامن وتخضع وهو مأخوذ من الخبت وهو المطمئن من الأرض...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي: وليعلم الذين أوتوا العلم النافع الذي يفرقون به بين الحق والباطل، المؤمنون بالله ورسوله، أن ما أوحيناه إليك هو الحق من ربك، الذي أنزله بعلمه وحفظه وحرسه أن يختلط به غيره، بل هو كتاب حكيم...
{وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيرشدهم إلى الحق واتباعه، ويوفقهم لمخالفة الباطل واجتنابه، وفي الآخرة يهديهم [إلى] الصراط المستقيم، الموصل إلى درجات الجنات، ويزحزحهم عن العذاب الأليم والدركات...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
ولما بين سبحانه أن ذلك الإلقاء كان فتنة في حقّ أهل النفاق والشكّ والشرك، بيّن أنه في حقّ المؤمنين العالمين بالله العارفين به سبب لحصول العلم لهم بأن القرآن حقّ وصدق فقال: {وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن ربّكَ} أي: الحقّ النازل من عنده...
{فَيُؤْمِنُوا بِهِ} فإن المراد الإيمان بالقرآن، أي يثبتوا على الإيمان به {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} أي تخشع وتسكن وتنقاد، فإن الإيمان به وإخبات القلوب له لا يمكن أن يكونا تمكين من الشيطان بل للقرآن...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، أي إلى الطريق الحق والاستقامة، فلا تزل أقدامهم بقبول ما يلقي الشيطان، ولا تقبل قلوبهم إلا ما يلقي الرحمن، لصفائها. هذا هو الصواب في تفسير الآية...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} لأن الله منحهم من العلم، ما به يعرفون الحق من الباطل، والرشد من الغي، فيميزون بين الأمرين، الحق المستقر، الذي يحكمه الله، والباطل العارض الذي ينسخه الله، بما على كل منهما من الشواهد، وليعلموا أن الله حكيم، يقيض بعض أنواع الابتلاء، ليظهر بذلك كمائن النفوس الخيرة والشريرة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... و {الذين أوتوا العلم} هم المؤمنون بقرينة مقابلته ب {الذين في قلوبهم مرض} وبقوله {وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم}. فالمراد بالعلم الوحي والكُتب التي أوتيها أصحاب الرسل السابقين فإنهم بها يصيرون من أهل العلم.
وإطلاق {الذين أوتوا العلم} على المؤمنين تكرر في القرآن.
وهذا ثناء على أصحاب الرسل بأنهم أوتوا العلم، وهو علم الدّين الذي يبلغهم الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإن نور النُّبوءة يشرق في قلوب الذين يصحبون الرسول. ولذلك تجد من يصحب الرسول صلى الله عليه وسلم قد يكون قبل الإيمان جِلفاً فإذا آمن انقلب حكيماً، مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه...
وضمير {أنه الحق} عائد إلى العلم الذي أوتوه، أي ليزدادوا يقيناً بأن الوحي الذي أوتوه هو الحق لا غيره مما ألقاه الشيطان لهم من التشكيك والشبه والتضليل، فالقصر المستفاد من تعريف الجزأين قصر إضافي. ويجوز أن يكون ضمير {أنه} عائداً إلى ما تقدم من قوله {فينسخ الله} إلى قوله {ثم يحكم الله آياته}، أي أن المذكور هو الحق...
وقوله {فيؤمنوا به} معناه: فيزدادوا إيماناً أو فيؤمنوا بالناسخ والمحكَم كما آمنوا بالأصل.
والإخباتُ: الاطمئنان والخشوع. وتقدم آنفاً عند قوله تعالى: {وبشر المخبتين} [الحج: 34]، أي فيستقر ذلك في قلوبهم كقوله تعالى: {قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260].
وبما تلقيت في تفسير هذه الآية من الانتظام البيّن الواضح المستقل بدلالته والمستغني بنَهله عن عُلالته، والسالم من التكلّفات والاحتياج إلى ضميمة القصص ترى أن الآية بمعزل عما ألصقه بها الملصقون والضعفاء في علوم السُّنّة، وتلقاه منهم فريق من المفسرين حباً في غرائب النوادر دون تأمل ولا تمحيص، من أن الآية نزلت في قصة تتعلق بسورة النجم فلم يكتفوا بما أفسدوا من معنى الآية حتى تجاوزوا بهذا الإلصاق إلى إفساد معاني سورة النجم، فذكروا في ذلك روايات عن سعيد بن جبير، وابن شهاب، ومحمد بن كعب القرطبي، وأبي العالية، والضحاك وأقربُها رواية عن ابن شهاب وابن جبير والضحاك قالوا: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم جلس في ناد من أندية قُريش كثير أهله من مسلمين وكافرين، فقرأ عليهم سورة النجم فلما بلغ قوله: {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} [النجم: 19 -20] ألقى الشيطان بين السامعين عقب ذلك قوله: {تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى} ففرح المشركون بأن ذكَر آلهتهم بخير، وكان في آخر تلك السورة سجدة من سجود التلاوة، فلما سجد في آخر السورة سجد كلّ من حضر من المسلمين والمشركين، وتسامع الناس بأن قُريشاً أسلموا حتى شاع ذلك ببلاد الحبشة، فرجع من مهاجرة الحبشة نفرٌ منهم عثمان بن عفان إلى المدينة، وأن النبي لم يشعر بأن الشيطان ألقى في القوم، فأعلمه جبريل عليه السلام فاغتمّ لذلك فنزل قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك} الآية تسلية له.
وهي قصة يجدها السامع ضِغثاً على إبَالة، ولا يلقي إليها النِّحرير بالَه. وما رُويت إلا بأسانيد واهية ومنتهاها إلى ذكر قصة، وليس في أحد أسانيدها سماع صحابي لشيء في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وسندها إلى ابن عباس سندٌ مطعون. على أنّ ابن عباس يوم نزلت سورة النجم كان لا يحضر مجالس النبي صلى الله عليه وسلم وهي أخبار آحاد تعارض أصول الدين لأنها تخالف أصل عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم لا التباس عليه في تلقي الوحي. ويكفي تكذيباً لها قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى} [النجم: 3] وفي معرفة الملكَ. فلو رووها الثقات لوجب رفضها وتأويلها فكيف وهي ضعيفة واهية. وكيف يروج على ذي مُسكة من عقل أن يجْتمع في كلامٍ واحد تسفيهِ المشركين في عبادتهم الأصنام بقوله تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى} [النجم: 19] إلى قوله: {ما أنزل الله بها من سلطان} [النجم: 23] فيقع في خلال ذلك مدحها بأنها « الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجى». وهل هذا إلا كلام يلعنُ بعضُه بعضاً. وقد اتفق الحاكون أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم كلها حتى خاتمتِها {فاسجدوا لله واعبدوا} [النجم: 62] لأنهم إنما سجدوا حين سجد المسلمون، فدلّ على أنهم سمعوا السورة كلها وما بين آية {أفرأيتم اللات والعزى} [النجم: 19] وبين آخر السورة آيات كثيرة في إبطال الأصنام وغيرها من معبودات المشركين، وتزييف كثير لعقائد المشركين فكيف يصحّ أن المشركين سجدوا من أجل الثناء على آلهتهم. فإن لم تكن تلك الأخبار مكذوبة من أصلها فإن تأويلها: أن بعض المشركين وجدوا ذكر اللات والعُزّى فُرصة للدخَل لاختلاق كلمات في مدحهنّ، وهي هذه الكلمات وروّجُوها بين الناس تأنيساً لأوليائهم من المشركين وإلقاء للريب في قلوب ضعفاء الإيمان...
وأما تركيب تلك القصة على الخبر الذي ثبت فيه أنّ المشركين سَجدوا في آخر سورة النجم لما سجد المسلمون، وذلك مروي في الصحيح، فذلك من تخليط المؤلفين.
وكذلك تركيب تلك القصة على آية سورة الحجّ. وكم بين نزول سورة النجم التي هي من أوائل السور النازلة بمكة وبين نزول سورة الحج التي بعضها من أول ما نزل بالمدينة وبعضها من آخر ما نزل بمكة.
وكذلك ربط تلك القصة بقصة رجوع من رَجع من مهاجرة الحبشة. وكم بين مدّة نزول سورة النجم وبين سنة رجوع من رجع من مهاجرة الحبشة.
فالوجه: أن هذه الشائعة التي أشيعت بين المشركين في أول الإسلام، إنما هي من اختلاقات المستهزئين من سفهاء الأحلام بمكة مثل ابن الزبعرى، وأنهم عمدوا إلى آية ذُكرت فيها اللات والعُزّى ومناةَ فركّبوا عليها كلمات أخرى لإلقاء الفتنة في الناس وإنما خَصُّوا سورة النجم بهذه المرجَفة لأنهم حَضروا قراءتها في المسجد الحرام وتعلقت بأذهانهم وتطلباً لإيجاد المعذرة لهم بين قومهم على سجودهم فيها الذي جعله الله معجزة النبي صلى الله عليه وسلم وقد سرى هذا التعسف إلى إثبات معنى في اللغة، فزعموا أن {تمنّى} بمعنى: قرأ، والأمنية: القراءة، وهو ادّعاء لا يوثق به ولا يُوجد له شاهد صريح في كلام العرب. وأنشدوا بيتاً لحسان بن ثابت في رثاء عثمان رضي الله عنه:
تمنّى كتاب الله أول لَيْله *** وآخره لاقى حِمام المَقادر
وهو محتمل أن معناه تمنّى أن يقرأ القرآن في أول الليل على عادته فلم يتمكّن من ذلك بتشغيب أهل الحصار عليه وقتلوه آخر الليل. ولهذا جعله تمنياً لأنه أحبَ ذلك فلم يستطع. وربما أنشدوه برواية أخرى فظُنّ أنه شاهد آخر، وربما توهَموا الرواية الثانية بيتاً آخر. ولم يذكر الزمخشري هذا المعنى في الأساس}. وقد قدمنا ذلك عند قوله تعالى: {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني} في سورة [البقرة: 78].
وجملة {إن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم} معترضة. والواو للاعتراض، والذين أوتوا العلم هم المؤمنون. وقد جمع لهم الوصفان كما في قوله تعالى: {وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث} في سورة [الروم: 56]. وكما في سورة [سبأ: 6] {ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق} فإظهار لفظ {الذين آمنوا} في مقام ضمير {الذين أوتوا العلم} لقصد مدحهم بوصف الإيمان، والإيماء إلى أن إيمانهم هو سبب هديهم. وعكسه قوله تعالى: {إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار} [الزمر: 3]. فالمراد بالهُدى في كلتا الآيتين عناية الله بتيسيره وإلا فإن الله هدى الفريقين بالدعوة والإرشاد فمنهم من اهتدى ومنهم من كفر.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{وليعلم الذين أوتوا العلم} من أتباع النبيين الحق، أي أنهم أوتوا علم النبوة من الأنبياء فنفوا عن أنفسهم بما ألقى الله تعالى في قلوبهم من علم بالصدق والصبر الضابط للنفس {أنه الحق}، الضمير يعود على القرآن الذي ذكر الله تعالى أنه أحكمت آياته، بعد دفع إغواء الشيطان ووسوسته عن الرسل والأنبياء من وقت مبعثهم إلى أن قبضهم الله سبحانه وتعالى إليه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لأن انطلاقهم من مواقع العلم في نظرتهم للأشياء، يجعلهم في موقف الوعي والتفهم لشخصية الرسول وحركته الداخلية والخارجية، لمعرفتهم بالظروف المحيطة به، التي تفرض تنوّع أساليب العمل،... {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} وتخضع له، لأن ذلك هو معنى الإيمان المنفتح الذي يتحرك في الذات من موقع العقل والفطرة، حيث يهيمن على الكيان كله، بكل قوّةٍ وخضوع وإذعان...
{وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُواْ} إلى دينه عندما يتحركون نحوه بجدية في الفكر ومسؤولية في الحركة، فيشملهم الله بعنايته، ويمنحهم لطفاً من لطفه، فتشرق الهداية في قلوبهم، فلا يجد الضلال إليها سبيلاً، من خلال وضوح الرؤية الذي يعيش الإنسان فيه الصفاء والإشراق في أرحب الآفاق، ليقودهم {إِلَى صراط مُّسْتَقِيمٍ} لا عوج فيه ولا التواء...