اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلِيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤۡمِنُواْ بِهِۦ فَتُخۡبِتَ لَهُۥ قُلُوبُهُمۡۗ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (54)

وأما في حق المؤمنين فهو قوله : { وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ } .

ولنرجع إلى الإعراب فنقول :

قوله : { إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان } في هذه الجملة بعد «إلاّ » ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها في محل نصب على الحال من «رَسُول » والمعنى : وما أرسلنا من رسول إلا حاله هذه ، والحال محصورة {[31626]} .

والثاني : أنها في محل الصفة{[31627]} لرسول ، فيجوز أن يحكم على موضعها بالجر باعتبار لفظ الموصوف ، وبالنصب باعتبار محله ، فإن «مِنْ » مزيدة فيه{[31628]} .

الثالث : أنها في موضع استثناء من غير الجنس . قاله أبو البقاء{[31629]} ، يعني : أنه استثناء منقطع و «إذا » هذه يجوز أن تكون شرطية ، وهو الظاهر ، وإليه ذهب الحوفي{[31630]} ، وأن تكون لمجرد الظرفية . قال أبو حيان : ونصوا على أنه يليها - يعني «إلا »{[31631]} - في النفي المضارع بلا شرط نحو ما زيد إلا يفعل ، وما رأيت زيداً إلا يفعل ، والماضي بشرط تقدم فعل نحو { مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ }{[31632]} [ الحجر : 11 ] ، أو مصاحبة ( قد ) نحو : ما زيد إلا قد فعل{[31633]} ، وما جاء بعد ( إلا ) في الآية جملة شرطية ولم يلها ماض مصحوب ب ( قد ) ، ولا عار منها ، فإن صح ما نصوا عليه يؤول على أن «إذا » جردت للظرفية ، ولا شرط فيها ، وفصل بها بين ( إلا ) والفعل الذي هو «أَلْقَى »{[31634]} ، وهو فصل جائز ، فتكون «إلا » قد وليها ماض في التقدير ، ووجد شرطه وهو تقدم فعل قبل ( إلا ) وهو «وَمَا أَرْسَلْنَا »{[31635]} . قال شهاب الدين : ولا حاجة إلى هذا التكليف المخرج للآية عن معناها بل هي جملة شرطية إما حال أو صفة أو استثناء كقوله : { إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ فَيْعَذِّبُهُ }{[31636]} [ الغاشية : 23 - 24 ] وكيف يدعي الفصل بها وبالفعل بعدها بين «إلا » وبين «ألقى » من غير ضرورة تدعو إليه ، ومع عدم صحة المعنى {[31637]} .

وقوله تعالى : { إِذَا تمنى } إنما أفرد الضمير ، وإن تقدمه سببان معطوف أحدهما على الآخر بالواو ، لأن في الكلام حذفاً تقديره : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا إذا تمنى ، ولا نبي إلا إذا تمنى كقوله : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ }{[31638]} [ التوبة : 62 ] ، والحذف إما من الأول أو الثاني{[31639]} . والضمير في «أُمْنِيَّتِه » فيه قولان : أظهرهما أنه ضمير الشيطان والثاني : أنه ضمير الرسول .

قوله : «لِيَجْعَلَ » في متعلق هذه اللام ثلاثة أوجه :

أظهرها{[31640]} : أنها متعلقة ب «يُحْكِمُ » ، أي : ثم يُحْكِمُ الله آياته ليجعل ، وقوله : { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } جملة اعتراض ، وإليه نحا الحوفي{[31641]} .

والثاني : أنها متعلقة ب «يَنْسَخُ » وإليه نحا ابن عطية{[31642]} ، وهو ظاهر أيضاً .

الثالث : أنها متعلقة ب «أَلْقَى »{[31643]} ، وليس بظاهر . وفي اللام{[31644]} قولان :

أحدهما : أنها للعلة{[31645]} . والثاني : أنها للعاقبة{[31646]} . و «ما » في قوله : «ما يُلْقِي » الظاهر أنها بمعنى الذي ، ويجوز أن تكون مصدرية {[31647]} .

قوله : «والقاسِيَة » أل في «القَاسِيَة » موصولة ، والصفة{[31648]} صلتها ، و «قُلُوبُهم » فاعل بها ، والضمير المضاف إليه هو عائد الموصول ، وأُنِّثت{[31649]} الصلة لأن مرفوعها مؤنث مجازي ، ولو وضع فعل{[31650]} موضعها لجاز تأنيثه{[31651]} . و «القَاسِيَة » عطف على «الذين »{[31652]} ، أي : فتنة للذين في قلوبهم مرض وفتنة للقاسية قلوبهم .

قوله : «وَليَعْلَمَ الَّذِينَ » عطف على «لِيَجْعَلَ » عطف علة على مثلها والضمير في «أنَّه » قال الزمخشري : إنه{[31653]} يعود على تمكين الشيطان ، أي : ليعلم المؤمنون أن تمكين الشيطان من ذلك الإلقاء هو الحق{[31654]} . أما على قول أهل السنة فلأنه تعالى يتصرف كيف شاء في مُلكه ومِلكه فكان حقاً وأما على قول المعتزلة فلأنه تعالى حكيم فتكون كل أفعاله صواباً فيؤمنوا به{[31655]} وقال ابن عطية : إنه يعود على القرآن{[31656]} ، وهو وإن لم يجر له ذكر فهو في قوة المنطوق ، وهو قول مقاتل{[31657]} .

وقال الكلبي : إنه يعود إلى نسخ الله ما ألقاه الشيطان .

قوله : «فَيُؤْمِنُوا » عطف على «وَليَعْلَمَ » ، و «فَتُخْبِتَ » عطف عليه وما أحسن ما وقعت هذه الفاءان{[31658]} . ومعنى «فَتُخْبِتَ » أي تخضع وتسكن له قلوبهم لعلمهم بأن المقضي كائن وكلٌّ مُيَسَّر لِمَا خُلِقَ لَه {[31659]} .

فصل

ومعنى «أُوتُوا العِلْمَ » أي : التوحيد والقرآن . وقال السُّدِّي : التصديق . «فَيُؤْمِنُوا به » أي : يعتقدوا أنه من الله {[31660]} .

قوله : { وَإِنَّ الله لَهَادِ }{[31661]} قرأ العامة «لهَادِ الَّذِينَ » بالإضافة تخفيفاً{[31662]} . وابن أبي عبلة وأبو حيوة بتنوين الصفة وإعمالها في الموصول{[31663]} . والمعنى : أن الله يهدي الذين آمنوا إلى طريق قويم وهو الإسلام .


[31626]:وهو صحيح لقبولها واو الحال، أي: وما أرسلناه إلا وحاله هذه، البحر المحيط 6/382.
[31627]:هذا قول الزمخشري في نحو ما مررت بأحد إلا زيد خير منه، ورد عليه بأنه مذهب لا يعرف لبصري ولا كوفي، لأنه يفصل بين الموصوف وصفته ب (إلا) فلا يقال: جاءني رجل إلا راكب لأنهما كشيء واحد فلا يفصل بينهما بها، كما لا يفصل بها بين الصلة والموصول ولا بين المضاف والمضاف إليه، ولأن "إلا" وما بعدها في حكم جملة مستأنفة والصفة لا تستأنف ولا تكون في حكم المستأنف، كذا ذكره ابن مالك تبعا للأخفش والفارسي وذكره أيضا صاحب البسيط فالصواب أن الجملة في الآية والمثال حالية، وإنما لم تقس الصفة على الحال لوضوح الفرق بينهما بجواز تقديم الحال على صحابه ويخالفه في الإعراب والتنكير، البحر المحيط 6/382، الهمع 1/230.
[31628]:لأنها مسبوقة بنفي ومجرورها نكرة.
[31629]:التبيان 2/945.
[31630]:البحر المحيط 6/382.
[31631]:في ب: الراء. وهو تحريف.
[31632]:من قوله تعالى: {وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون} [الحجر: 11].
[31633]:واقتران الماضي ب (قد) يغني عن تقديم فعل قاله ابن مالك كقول الشاعر: ما المجد إلا قد تبين أنه *** بندى وحلم لا يزال مؤثلا لأن (قد) تقرب الفعل الماضي إلى الحال فأشبه المضارع، والمضارع لا يشترط فيه تقدم لشبهه بالاسم، والاسم بإلا أولى، لأن المستثنى لا يكون إلا اسما ومؤولا به وإنما ساغ وقوع الماضي بتقديم الفعل، لأنه مع النفي يجعل الكلام بمعنى: كلما كان كذا كان كذا فكان فيه فعلان كما كان مع (كلما) وقال ابن طاهر: أجاز المبرد وقوع الماضي مع (قد) بدون تقدم فعل، ولم يذكره من تقدم من النحاة. وفي البديع لو قلت: ما زيد إلا قام. لم يجز؛ فإن دخلت قد أجازها قوم. الهمع 1/230.
[31634]:في ب: النفي. وهو تحريف.
[31635]:البحر المحيط 6/382.
[31636]:[الغاشية: 23، 24].
[31637]:الدر المصون 5/78.
[31638]:من قوله تعالى: {يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين} [التوبة: 62].
[31639]:انظر البحر المحيط 6/382.
[31640]:في ب: أظهرهما. وهو تحريف.
[31641]:البحر المحيط 6/382.
[31642]:تفسير ابن عطية 10/308.
[31643]:انظر البحر المحيط 6/382.
[31644]:في ب: الكلام. وهو تحريف.
[31645]:واستظهره أبو حيان.
[31646]:انظر البحر المحيط 6/382.
[31647]:المرجع السابق.
[31648]:في الأصل: وصفة. وهو تحريف.
[31649]:في ب: وأثبتت. وهو تحريف.
[31650]:في ب: فعلى. وهو تحريف.
[31651]:انظر التبيان 2/945، البحر المحيط 6/382.
[31652]:انظر التبيان 2/945.
[31653]:في ب: وإنه.
[31654]:انظر الكشاف 3/37.
[31655]:انظر الفخر الرازي 23/56.
[31656]:تفسير ابن عطية 10/308.
[31657]:انظر الفخر الرازي 23/56.
[31658]:لدلالة الفاء على الترتيب والتعقيب، أي أن المعطوف متصل بالمعطوف عليه بلا مهلة، فالخشوع متصل بالإيمان، والإيمان متصل بالعلم بلا مهلة.
[31659]:انظر الفخر الرازي 23/56.
[31660]:انظر البغوي 5/604.
[31661]:في النسختين: لهادي.
[31662]:التبيان 2/946، البحر المحيط 6/383.
[31663]:المختصر (96)، التبيان 2/946، البحر المحيط 6/383.