وإلى هنا يكونون قد عرفوا وصف البقرة من حيث سنها ووصفها ومن حيث لونها ، فهل أغنتهم هذه الأوصاف ؟ كلا ! ما أغنتهم . فقد أخذوا يسألون للمرة الثالثة عما هم في غنى عنه فقالوا كما حكى القرآن عنهم : { قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرض وَلاَ تَسْقِي الحرث مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآن جِئْتَ بالحق فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } .
ومعنى الآيتين الكريمتين : قال بنو إسرائيل لموسى بعد أن عرفوا سن البقرة ولونها : سل من أجلنا ربك أن يزيدنا إيضاحاً لحال البقرة التي أمرنا بذبحها . حيث إن البقر الموصوف بالوصفين السابقين كثير ، فاشتبه علينا أيها نذبح ، وإنا إن شاء الله بعد هذا البيان منك لمهتدون إليها ، ومنفذون لما تكلفنا به ، فأجابهم موسى بقوله : { إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرض وَلاَ تَسْقِي الحرث مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا } أي قال إنه- سبحانه - يقول : أنها بقرة سائمة ليست مذللة بالعمل في الحراثة ولا في السقي ، وهي بعد ذلك سليمة من كل عيب ، ليس فيها لون يخالف لونها الذي هو الصفرة الفاقعة ، فلما وجدوا أن جميع مشخصاتها ومميزاتها قد اكتملت { الآن جِئْتَ بالحق فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } لكثرة أسئلتهم وترددهم .
فقوله - تعالى - : { قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ } حكاية لسؤالهم الثالث الذي وجهوه إلى نبيهم - عليه السلام - ليزدادوا معرفة بحال البقرة وصفتها من حيث نفاستها ، بعد أن عرفوا سنها ولونها .
فكأنهم يقولون له : إن في أجوبتك السابقة عنها تقصيراً يشق معه تمييزها ، فسل من أجلنا ربك ليزيدنا بياناً لحالها ، وكأنما أحسوا بأنهم قد أثقلوا عليه وتجاوزوا الحدود المعقولة في الطلب ، فعللوا ذلك بقولهم .
{ إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا } أي : لا تتضايق من كثرة أسئلتنا ، فإن لنا عذرنا في هذا التكرار .
لأن البقر الموصوف بالعوان وبالصفرة الفاقعة كثير ، فاشتبه علينا أمر تلك البقرة التي تريدنا أن نذبحها .
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور : " وإنما لم يعتذروا في المرتين الأوليين واعتذروا في الثالثة ، لأن للثلاثة في التكرير وقعاً من النفس في التأكيد والسآمة وغير ذلك ، ولذا كثر في أحوال البشر وشرائعهم التوقيت بالثلاثة " .
وقولهم : { إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ } حض لنبيهم موسى - عليه السلام - على الدعاء ، ووعد له بالطاعة والامتثال ، ودفع للسآمة عن نفسه من كثرة أسئلتهم ، وتبرير لمسلكهم في كثرة المراجعة حتى بتفادوا غضبه ، فكأنهم يقولون له :
اجتهد في الدعاء من أجل أن يزيدنا ربك إيضاحاً ، وكشفاً لحال تلك البقرة التي تريد منا أن نذبحها ، وإنا - إن شاء الله - بسبب هذا الإِيضاح سنهتدي إليها ، ثم إلى القاتل الحقيقي ، وبذلك ندرك الحكمة ، التي من أجلها أمرتنا بذبحها .
قال ابن جرير : وأما قوله تعالى : { إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ } فإنهم عنوا وإنا إن شاء الله لمبين لنا ما التبس علينا وتشابه من أمر البقرة التي أمرنا بذبحها . ومعنى اهتدائهم في هذا الموضع تبينهم ذلك الذي لزمهم ذبحه مما سواه من أجناس البقر " .
ولقد كان فيما تلكأوا كفاية ، ولكنهم يمضون في طريقهم ، يعقدون الأمور ، ويشددون على أنفسهم ، فيشدد الله عليهم . لقد عادوا مرة أخرى يسألون من الماهية :
( قالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ) .
ويعتذرون عن هذا السؤال وعن ذلك التلكؤ بأن الأمر مشكل :
وكأنما استشعروا لحاجتهم هذه المرة . فهم يقولون :
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ( 70 )
وسألوه بعد هذا كله عما هي سؤال متحيرين قد أحسوا بمقت المعصية ، و { البقر } جمع بقرة ، وتجمع أيضاً على باقر ، وبه قرأ ابن يعمر وعكرمة ، وتجمع على بقير وبيقور( {[778]} ) ، ولم يقرأ بهما فيما علمت ، وقرأ السبعة : «تشابه » فعل ماض ، وقرأ الحسن «تشّابهُ » بشد الشين وضم الهاء ، أصله تتشابه ، وهي قراءة يحيى بن يعمر ، فأدغم ، وقرأ أيضاً «تَشَابهُ » بتخفيف الشين على حذف التاء الثانية ، وقرأ ابن مسعود «يَشابهُ » بالياء وإدغام التاء ، وحكى المهدي عن المعيطي( {[779]} ) «تشَّبَّهُ » بتشديد الشين والباء دون ألف ، وحكى أبو عمرو الداني قراءة «متشبه » اسم فاعل من تَشَبَّه ، وحكي أيضاً «يتشابهُ »( {[780]} ) .
وفي استثنائهم في هذا السؤال الأخير إنابة ما وانقياد ودليل ندم وحرص على موافقة الأمر ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «لولا ما استثنوا ما اهتدوا إليها أبداً »( {[781]} ) ، والضمير في { إنا } ، هو اسم { إن } ، و { مهتدون } الخبر ، واللام للتأكيد ، والاستثناء اعتراض ، قدم على ذكر الاهتداء ، تهمماً به .
قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِىَ إِنَّ البقر تشابه عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ }
القول في { ما هي } كالقول في نظيره ، فإن كان الله تعالى حكى مرادف كلامهم بلغة العرب فالجواب لهم ب { أنها بقرة لا ذلول } لما عُلم من أنه لم يبق من الصفات التي تتعلق الأغراض بها إلا الكرامة والنفاسة ، وإن كان المحكي في القرآن اختصاراً لكلامهم فالأمر ظاهر . على أن الله قد علم مرادهم فأنبأهم به .
وجملة { إن البقرة تشابه علينا } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنهم علموا أن إعادتهم السؤال توقع في نفس موسى تساؤلاً عن سبب هذا التكرير في السؤال ، وقولهم { إن البقرة تشابه علينا } اعتذار عن إعادة السؤال ، وإنما لم يعتذروا في المرتين الأوليين واعتذروا الآن لأن للثالثة في التكرير وقعاً في النفس في التأكيد والسآمة وغير ذلك ولذلك كثر في أحوال البشر وشرائعهم التوقيت بالثلاثة .
وقد جيء بحرف التأكيد في خبر لا يشك موسى في صدقه فتعين أن يكون الإتيان بحرف التأكيد لمجرد الاهتمام ثم يتوسل بالاهتمام إلى إفادة معنى التفريع والتعليل فتفيد ( إن ) مفاد فاء التفريع والتسبب وهو ما اعتنى الشيخ عبد القاهر بالتنبيه عليه في « دلائل الإعجاز » ومثله بقول بشار :
بَكّرا صاحِبَيَّ قبْلَ الهَجير *** إن ذاك النجاحَ في التبكير
تقدم ذكرها عند قوله تعالى : { إنك أنت العليم الحكيم } [ البقرة : 32 ] في هذه السورة وذكر فيه قصة .
وقولهم : { وإنا إن شاء الله لمهتدون تنشيط لموسى ووعد له بالامتثال لينشط إلى دعاء ربه بالبيان ولتندفع عنه سآمة مراجعتهم التي ظهرت بوارقها في قوله : { فافعلوا ما تؤمرون } [ البقرة : 68 ] ولإظهار حسن المقصد من كثرة السؤال وأن ليس قصدهم الإعنات . تفادياً من غضب موسى عليهم .
والتعليق ب { إن شاء الله } للتأدب مع الله في رد الأمر إليه في طلب حصول الخير .
والقول في وجه التأكيد في { إنه يقول إنها بقرة } كالقول في نظيره الأول .