الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَالُواْ ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ ٱلۡبَقَرَ تَشَٰبَهَ عَلَيۡنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهۡتَدُونَ} (70)

قوله تعالى : { مَا هِيَ } ؟ . . مرةً ثانيةً ، تكريرٌ للسؤال عن حالِها وصفتِها واستكشافٌ زائدٌ ليزدادوا بياناً لوَصْفِها .

قوله : { إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } " البقر " اسمُ إنَّ وهو اسمُ جنسٍ كما تقدَّم . وقرئ " الباقِرُ " وهو بمعناه كما تقدم . و " تَشَابه " جملةٌ فعلية في محلِّ رفعٍ خبراً لإِنَّ ، وقرئ : " تَشَّابَهُ " مشدَّداً ومخففاً وهو مضارعٌ ، فالأصلُ : تَتَشابهُ بتاءين ، فَأُدْغِمَ وحُذِفَ منه أخرى ، وكِلا الوجهين مقيس . وقُرئ أيضاً : يَشَّابَهُ بالياء من تحت وأصله يتشابه فَأُدغم أيضاً ، وتذكيرُ الفعل وتأنيثُه جائزان لأن فاعلَه اسمُ جنس وفيه لغتان : التذكيرُ والتأنيثُ ، قال تعالى :

{ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحافة : 7 ] فَأَنَّث ، و { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] فذكَّر ، ولهذا موضعٌ نستقصي منه ، يأتي إن شاء الله تعالى . وتَتَشَابَهُ بتاءين على الأصل ، وتَشَّبَّهُ بتشديد الشين والباء من غير ألف ، والأصلُ : تَتَشَبَّهُ . وتَشَّابَهَتْ ، ومُتَشَابِهَة ، ومُتَشَابِه ، ومُتَشَبِّه على اسم الفاعل من تشابه وتَشَبَّه ، وقُرئ : تَشَبَّهَ ماضياً . وفي مصحف أُبَيّ : " تَشَّابَهَتْ " بتشديد الشين . قال أبو حاتم : " هو غلط لأن التاءَ في هذا الباب لا تُدْغَمُ إلا في المضارعِ " ، وهو معذورٌ في ذلك . وقرئ : تَشَّابَهَ كذلك إلا أنه بطرح تاء التأنيث ، ووجهُها على إشكالها أن يكونَ الأصل : إن البقرة تشابَهَتْ فالتاء الأولى من البقرة والتاء الثانية من الفعل ، فلمَّا اجتمع متقاربان أَدْغَم نحو : الشجرةُ . . . إلا أنه يُشْكِل أيضاً في تَشَّابه من غير تاء ، لأنه كان يَجبُ ثبوتُ/ علامةِ التأنيثِ ، وجوابُه أنه مثلُ :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالَها

مع أن ابنَ كَيْسان لا يلتزم ذلك في السَّعَة .

قوله : { إِن شَآءَ اللَّهُ } هذا شرطٌ جوابُه محذوفٌ لدلالةِ إنْ وما في حَيِّزها عليه ، والتقدير : إن شاء اللهُ هدايتَنا للبقرة اهتدَيْنا ، ولكنهم أَخرجُوه في جملةٍ اسميةٍ مؤكَّدة بحرفَيْ تأكيدٍ مبالغةً في طَلَب الهداية ، واعترضوا بالشرطِ تيمُّناً بمشيئةِ الله تعالى . و " لمهتدونَ " اللامُ لامُ الابتداءِ داخلةٌ على خبرِ " إنَّ " ، وقال أبو البقاء : " جوابُ الشرط إنَّ وما عملت فيه عند سيبويه ، وجاز ذلك لمَّا كان الشرطُ متوسطاً ، وخبرُ إنَّ هو جوابُ الشرط في المعنى ، وقد وقع بعدَه ، فصار التقديرُ : إنْ شاء اللهُ اهتدينا . وهذا الذي قاله لا يَجُوز ، فإنه متى وقعَ جواب الشرطِ ما لا يَصْلُح أنْ يكونَ شرطاً وجَبَ اقترانُه بالفاء ، وهذه الجملةُ لا تَصْلح أن تقعَ شرطاً ، فلو كانَتْ جواباً لَزِمَتْها الفاءُ ، ولا تُحْذَفُ إلا ضرورةً ، ولا جائزٌ أنْ يريدَ أبو البقاء أنه دالٌّ على الجواب وسَمَّاه جواباً مجازاً ، لأنه جَعَلَ ذلك مذهباً للمبرد مقابلاً لمذهب سيبويه ، فقال : " وقالَ المبرد : الجوابُ محذوفٌ دَلَّتْ عليه الجملةُ ، لأنَّ الشرط معترضٌ فالنيةُ به التأخيرُ ، فيصيرُ كقولِك : " أنت ظالم إنْ فَعَلْتَ " وهذا الذي نقلَه عن المبرد هو المنقولُ عن سيبويه ، والذي نقله عن سيبويه قريبٌ مما نُقِل عن الكوفيين وأبي زيد من أنه يجوزُ تقديمُ جوابِ الشرطِ عليه ، وقد ردَّ عليهم البصريون بقول العرب : " أنتَ ظالمٌ إنْ فعلْتَ " إذ لو كانَ جواباً لوَجَبَ اقترانُه بالفاءِ لِما ذكرْتُ لك . وأصلُ " مُهْتَدُون " مُهْتَدِيُون ، فأُعِلَّ بالحَذْفِ ، وهو واضحٌ مما تقدَّم .