اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالُواْ ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ ٱلۡبَقَرَ تَشَٰبَهَ عَلَيۡنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهۡتَدُونَ} (70)

قوله : { ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنَ لَّنَا مَا هِيَ } تقرير للسؤال عن حالها وصفتها ، واستكشاف زائد ، ليزدادوا بياناً لوصفها ، وفي مصحف عبد الله : " سل لنا ربك يبين لنا ما هي ؟ وما صفتها " . قوله : { إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } البَقَر : اسم إن ، وهو اسم جنس كما تقدم .

وقرأ محمد ذو الشامة الأموي : " إنّ البَاقِرَ " وهو جمع البَقَر ك " الجَامِل " جماعة الجَمَل ؛ قال الشاعر : [ الكامل ]

584- مَا لِي رَأَيْتُكَ بَعْدَ عَهْدِكَ مُوحِشاً *** خَلِقاً كَحَوْضِ البَاقِرِ المُتَهَدِّمِ

قال قطرب : " يقال لجمع البقرة : بَقَر وبَاقِر وبَاقُور وبَيْقُور " .

وقال الأَصْمَعِيّ : " الباقر " جمع باقرة ، قال : ويجمع بقر على بَاقُورة ، حكاه النّحاس .

قال القرطبي : والباقر والبقر والبيقور والبقير لُغَات بمعنى واحد والعرب تذكره وتؤنثه ، وإلى ذلك ترجع معاني القراءات في " تشابه " .

و " تشابه " جملة فعلية في محلّ رفع خبر ل " إن " ، وقرئ : " تَشَّابَهُ " مشدَّداً ومخفَّفاً ، وهو مضارع الأصل : " تَتَشَابَهُ " بتاءين ، فَأُدْغِمَ تارةً ، وحذف منه أخرَى ، وكلا الوجهين مقيس .

وقرئ أيضاً : " يَشَّابَهُ " بالياء من تحت ، [ وأصله : يَتَشَابَهُ فأدغم أيضاً ، وتذكير الفعل وتأنيثه جائزان ؛ لأن فاعله اسم جنس ] وفيه لغتان : التذكيرُ والتأنيثُ ، قال تعالى : { أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] فَأَنَّث ، و

{ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] فذكر ، وقيل : ذكر الفعل لتذكير لفظ " البقرة " ؛ كقوله : { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } .

وقال المبرِّد : سئل سِيبَوَيْهِ عن هذه الآية ، فقال : " كل جمع حروفه أقل من حروف وَاحِدِه ، فإن العرب تذكره " ؛ واحتج بقول الأعشى : [ البسيط ]

585- وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ *** [ وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعاً أيُّهَا الرَّجُلُ ]

ولم يقل : " مرتحلون " .

وفي " تشابه " قراءات : " تَشَابَهَ " بتخفيف الشين وفتح الباء والهاء ، وهي قراءة العامة . و " تَتَشَابَه " بتاءين على الأصل .

و " تَشَّبَّه " بتشديد الشين والباء من غير ألف ، والأصل : تَتَشَبَّهُ .

و " تَشَابَهَتْ " على وزن " تَفَاعلت " وهو في مصحف أُبَيّ كذلك أَنّثه لتأنيث البقرة .

و " مُتَشَابِهَة " و " مُتَشَبِّهة " على اسم الفاعل من تشابه وتشبّه . وقرئ : " تَشَبَّهَ " ماضياً .

وقرأ ابن أبي إسحاق : " تَشَّابَهَتْ " بتشديد الشين ، قال أبو حاتم : هذا غلط ، لأن التاء في هذا الباب لا تدغم إلاّ في المضارع . . وهو معذور في ذلك .

وقرئ : " تَشَّابَهَ " كذلك ، إلا أنه بطرح تاء التأنيث ، ووجهها على إشكالها أن يكون الأصل : إن البقرة تشابهت ، فالتاء الأولى من البقرة و [ التاء ] الثانية من الفعل ، فلما اجتمع مثلان أدغم نحو : الشجرة تمايلت ، إلاّ أنه يُشكِل أيضاً في تَشَّابَه من غير تاء ؛ لأنه كان يجب ثبوت علامة التأنيث .

وجوابه : أنه مثل : [ المتقارب ]

586- . . . *** وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا

مع أن ابن كيسان لا يلتزم ذلك في السّعَةِ .

وقرأ الحسن : " تَشَابَهُ " بتاء مفتوحة وهاء مضمومة وتخفيف الشين أراد : تتشابه .

وقرأ الأعرج : " تَشَّابَهُ " بفتح التاء وتشديد الشين وضمّ الهاء على معنى : تتشابه .

وقرأ مجاهد : " تَشَّبَّه " كقراءة الأعرج ، إلا أنه بغير ألف . ومعنى الآية : [ التلبيس ] والتشبه .

قيل : إنما قالوا : " إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا " أي : اشتبه أمره علينا ، فلا نهتدي إليه ؛ لأن وجوه البقر [ تتشابه ] يريد : أنها يشبه بعضها بعضاً ، ووجوه البقر تتشابه .

قوله : { إِن شَاءَ اللَّهُ } هذا شرط جوابه محذوف لدلالة " إنْ " ، ما في حيّزها عليه ، والتقدير : إن شاء الله هِدَايتنا للبقرة ، اهتدينا ، ولكنهم أخرجوه في جملة اسمية مؤكدة بحرفي تأكيد مبالغة في طلب الهِدَاية ، واعترضوا بالشرط تيمُّناً بمشيئة الله تعالى . و " المهتدون " اللام : لام الابتداء داخلة على خبر " إن " .

وقال أبو البقاء : جواب الشرط " إن " وما عملت فيه عند سيبويه .

وجاز ذلك لما كان الشرط متوسطاً ، وخبر " إنَّ " هو جواب الشرط في المعنى ، وقد وقع بعده ، فصار التقدير : إن شاء الله هدايتنا اهتدينا .

وهذا الذي قاله لا يجوز ، فإنه متى وقع جواب الشرط ما لا يصلح أن يكون شرطاً وجب اقترانه بالفَاءِ ، وهذه الجملة لا تصلح أن تقع شرطاً ، فلو كانت جواباً لزمتها الفاء ، ولا تحذف إلا ضرورة ، ولا جائز أن يريد أبو البقاء أنه دالّ على الجواب ، وسماه جواباً مجازاً ؛ لأنه جعل ذلك مذهباً للمبرد مقابلاً لمذهب سيبويه فقال : وقال المبرد : والجواب محذوف دلت عليه الجملة ؛ لأن الشرط معترض ، فالنية به التأخير ، فيصير كقولك : أنت ظالم إن فعلت .

وهذا الذي نقله عن المبرد هو المنقول عن سيبويه ، والذي نقله عن سيبويه قريبٌ مما نقل عن الكوفيين وأبي زيد من أنه يجوز تقديم جواب الشَّرْط عليه ، وقد ردّ عليهم البصريون بقول العرب : " أنت ظالم إن فعلت " .

إذ لو كان جواباً لوجب اقترانه بالفاء لما ذكرت ذلك .

وأصل " مُهْتَدُون " : " مُهْتَدِيُون " ، فأعلّ بالحذف ، وهو واضح .

فصل في الاستثناء بالمشيئة

قال الحسن رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ لَمْ يَقُولُوا : إنْ شَاءَ اللَّهُ لَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا أَبَداً {[14]} " .

واعلم أن التلفّظ بهذه الكلمة مندوب إليه في كلّ عمل يراد تحصيله ، قاله تعالى : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ } [ الكهف : 23 ، 24 ] .

وفيه استعانة بالله وتفويض الأمور إليه ، والاعتراف بقدرته .

فصل في الإرادة الكونية

احتج أهل السُّنة بهذه الآية على أن الحوادث بأسرها مرادة لله تعالى .

وعند المعتزلة أن الله تعالى لما أمرهم بذلك ، فقد أراد اهتداءهم لا مَحَالَة ، وحينئذ لا يبقى لقولهم : " إنْ شاء الله " فائدة .

قال ابن الخطيب : أما على قول أصحابنا ، فإن الله تعالى قد يأمر بما لا يريد ، فحينئذ يبقى لقولهم : " إن شاء الله " فائدة .

فصل في مذهب المعتزلة في المشيئة

احتج المعتزلة بهذه الآية على أن مشيئة الله تعالى محدثة من وجهين :

الأول : أن دخول حرف " إن " يقتضي الحدوث .

الثاني : أنه تعالى علّق حصول الاهتداء على حصول مشيئة الاهتداء ، فلم لم يكن حصول الاهتداء أزليًّا وجب ألاّ تكون مشيئة الاهتداء أزلية .

فصل في تقدير المشيئة

ذكر القفال في تقدير هذه المشيئة وجوهاً :

أحدها : وإنا بمشيئة الله نهتدي للبقرة المأمور بذبحها عند تحصيل أوصافها المميزة لها عن غيرها .

وثانيها : وإنا إن شاء الله تعريفها إيَّانا بالزيادة لنا في البيان نهتدي إليها .

وثالثها : وإنا إن شاء الله على هدى ، أي : في استقصائنا في السّؤال عن أوصاف البقر ، أي إنّا لسنا على ضلالة فيما نفعل من هذا البحث .

ورابعها : إنا بمشيئة الله نَهْتَدِي للقاتل إذا وصفت لنا هذه البقرة بما تمتاز به عن غيرها .

قال القرطبي : وفي هذا الاستثناء إنابةٌ وانقياد ، ودليل نَدَم على عدم موافقة الأمر . وتقدير الكلام : وإنما لمهتدون إن شاء الله .

فقدم على ذكر الاهتداء اهتماماً به .


[14]:قال سيبويه في الكتاب 3/265 وزعم من يوثق به: أنه سمع من العرب من يقول: "ثلاثة أربعه" طرح همزة أربعه على الهاء ففتحها، ولم يحولها تاء لأنه جعلها ساكتة والساكن لا يتغير في الإدراج، تقول: اضرب، ثم تقول: اضرب زيدا.