قوله : { ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنَ لَّنَا مَا هِيَ } تقرير للسؤال عن حالها وصفتها ، واستكشاف زائد ، ليزدادوا بياناً لوصفها ، وفي مصحف عبد الله : " سل لنا ربك يبين لنا ما هي ؟ وما صفتها " . قوله : { إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } البَقَر : اسم إن ، وهو اسم جنس كما تقدم .
وقرأ محمد ذو الشامة الأموي : " إنّ البَاقِرَ " وهو جمع البَقَر ك " الجَامِل " جماعة الجَمَل ؛ قال الشاعر : [ الكامل ]
584- مَا لِي رَأَيْتُكَ بَعْدَ عَهْدِكَ مُوحِشاً *** خَلِقاً كَحَوْضِ البَاقِرِ المُتَهَدِّمِ
قال قطرب : " يقال لجمع البقرة : بَقَر وبَاقِر وبَاقُور وبَيْقُور " .
وقال الأَصْمَعِيّ : " الباقر " جمع باقرة ، قال : ويجمع بقر على بَاقُورة ، حكاه النّحاس .
قال القرطبي : والباقر والبقر والبيقور والبقير لُغَات بمعنى واحد والعرب تذكره وتؤنثه ، وإلى ذلك ترجع معاني القراءات في " تشابه " .
و " تشابه " جملة فعلية في محلّ رفع خبر ل " إن " ، وقرئ : " تَشَّابَهُ " مشدَّداً ومخفَّفاً ، وهو مضارع الأصل : " تَتَشَابَهُ " بتاءين ، فَأُدْغِمَ تارةً ، وحذف منه أخرَى ، وكلا الوجهين مقيس .
وقرئ أيضاً : " يَشَّابَهُ " بالياء من تحت ، [ وأصله : يَتَشَابَهُ فأدغم أيضاً ، وتذكير الفعل وتأنيثه جائزان ؛ لأن فاعله اسم جنس ] وفيه لغتان : التذكيرُ والتأنيثُ ، قال تعالى : { أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] فَأَنَّث ، و
{ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] فذكر ، وقيل : ذكر الفعل لتذكير لفظ " البقرة " ؛ كقوله : { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } .
وقال المبرِّد : سئل سِيبَوَيْهِ عن هذه الآية ، فقال : " كل جمع حروفه أقل من حروف وَاحِدِه ، فإن العرب تذكره " ؛ واحتج بقول الأعشى : [ البسيط ]
585- وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ *** [ وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعاً أيُّهَا الرَّجُلُ ]
وفي " تشابه " قراءات : " تَشَابَهَ " بتخفيف الشين وفتح الباء والهاء ، وهي قراءة العامة . و " تَتَشَابَه " بتاءين على الأصل .
و " تَشَّبَّه " بتشديد الشين والباء من غير ألف ، والأصل : تَتَشَبَّهُ .
و " تَشَابَهَتْ " على وزن " تَفَاعلت " وهو في مصحف أُبَيّ كذلك أَنّثه لتأنيث البقرة .
و " مُتَشَابِهَة " و " مُتَشَبِّهة " على اسم الفاعل من تشابه وتشبّه . وقرئ : " تَشَبَّهَ " ماضياً .
وقرأ ابن أبي إسحاق : " تَشَّابَهَتْ " بتشديد الشين ، قال أبو حاتم : هذا غلط ، لأن التاء في هذا الباب لا تدغم إلاّ في المضارع . . وهو معذور في ذلك .
وقرئ : " تَشَّابَهَ " كذلك ، إلا أنه بطرح تاء التأنيث ، ووجهها على إشكالها أن يكون الأصل : إن البقرة تشابهت ، فالتاء الأولى من البقرة و [ التاء ] الثانية من الفعل ، فلما اجتمع مثلان أدغم نحو : الشجرة تمايلت ، إلاّ أنه يُشكِل أيضاً في تَشَّابَه من غير تاء ؛ لأنه كان يجب ثبوت علامة التأنيث .
وجوابه : أنه مثل : [ المتقارب ]
586- . . . *** وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا
مع أن ابن كيسان لا يلتزم ذلك في السّعَةِ .
وقرأ الحسن : " تَشَابَهُ " بتاء مفتوحة وهاء مضمومة وتخفيف الشين أراد : تتشابه .
وقرأ الأعرج : " تَشَّابَهُ " بفتح التاء وتشديد الشين وضمّ الهاء على معنى : تتشابه .
وقرأ مجاهد : " تَشَّبَّه " كقراءة الأعرج ، إلا أنه بغير ألف . ومعنى الآية : [ التلبيس ] والتشبه .
قيل : إنما قالوا : " إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا " أي : اشتبه أمره علينا ، فلا نهتدي إليه ؛ لأن وجوه البقر [ تتشابه ] يريد : أنها يشبه بعضها بعضاً ، ووجوه البقر تتشابه .
قوله : { إِن شَاءَ اللَّهُ } هذا شرط جوابه محذوف لدلالة " إنْ " ، ما في حيّزها عليه ، والتقدير : إن شاء الله هِدَايتنا للبقرة ، اهتدينا ، ولكنهم أخرجوه في جملة اسمية مؤكدة بحرفي تأكيد مبالغة في طلب الهِدَاية ، واعترضوا بالشرط تيمُّناً بمشيئة الله تعالى . و " المهتدون " اللام : لام الابتداء داخلة على خبر " إن " .
وقال أبو البقاء : جواب الشرط " إن " وما عملت فيه عند سيبويه .
وجاز ذلك لما كان الشرط متوسطاً ، وخبر " إنَّ " هو جواب الشرط في المعنى ، وقد وقع بعده ، فصار التقدير : إن شاء الله هدايتنا اهتدينا .
وهذا الذي قاله لا يجوز ، فإنه متى وقع جواب الشرط ما لا يصلح أن يكون شرطاً وجب اقترانه بالفَاءِ ، وهذه الجملة لا تصلح أن تقع شرطاً ، فلو كانت جواباً لزمتها الفاء ، ولا تحذف إلا ضرورة ، ولا جائز أن يريد أبو البقاء أنه دالّ على الجواب ، وسماه جواباً مجازاً ؛ لأنه جعل ذلك مذهباً للمبرد مقابلاً لمذهب سيبويه فقال : وقال المبرد : والجواب محذوف دلت عليه الجملة ؛ لأن الشرط معترض ، فالنية به التأخير ، فيصير كقولك : أنت ظالم إن فعلت .
وهذا الذي نقله عن المبرد هو المنقول عن سيبويه ، والذي نقله عن سيبويه قريبٌ مما نقل عن الكوفيين وأبي زيد من أنه يجوز تقديم جواب الشَّرْط عليه ، وقد ردّ عليهم البصريون بقول العرب : " أنت ظالم إن فعلت " .
إذ لو كان جواباً لوجب اقترانه بالفاء لما ذكرت ذلك .
وأصل " مُهْتَدُون " : " مُهْتَدِيُون " ، فأعلّ بالحذف ، وهو واضح .
قال الحسن رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ لَمْ يَقُولُوا : إنْ شَاءَ اللَّهُ لَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا أَبَداً {[14]} " .
واعلم أن التلفّظ بهذه الكلمة مندوب إليه في كلّ عمل يراد تحصيله ، قاله تعالى : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ } [ الكهف : 23 ، 24 ] .
وفيه استعانة بالله وتفويض الأمور إليه ، والاعتراف بقدرته .
احتج أهل السُّنة بهذه الآية على أن الحوادث بأسرها مرادة لله تعالى .
وعند المعتزلة أن الله تعالى لما أمرهم بذلك ، فقد أراد اهتداءهم لا مَحَالَة ، وحينئذ لا يبقى لقولهم : " إنْ شاء الله " فائدة .
قال ابن الخطيب : أما على قول أصحابنا ، فإن الله تعالى قد يأمر بما لا يريد ، فحينئذ يبقى لقولهم : " إن شاء الله " فائدة .
فصل في مذهب المعتزلة في المشيئة
احتج المعتزلة بهذه الآية على أن مشيئة الله تعالى محدثة من وجهين :
الأول : أن دخول حرف " إن " يقتضي الحدوث .
الثاني : أنه تعالى علّق حصول الاهتداء على حصول مشيئة الاهتداء ، فلم لم يكن حصول الاهتداء أزليًّا وجب ألاّ تكون مشيئة الاهتداء أزلية .
ذكر القفال في تقدير هذه المشيئة وجوهاً :
أحدها : وإنا بمشيئة الله نهتدي للبقرة المأمور بذبحها عند تحصيل أوصافها المميزة لها عن غيرها .
وثانيها : وإنا إن شاء الله تعريفها إيَّانا بالزيادة لنا في البيان نهتدي إليها .
وثالثها : وإنا إن شاء الله على هدى ، أي : في استقصائنا في السّؤال عن أوصاف البقر ، أي إنّا لسنا على ضلالة فيما نفعل من هذا البحث .
ورابعها : إنا بمشيئة الله نَهْتَدِي للقاتل إذا وصفت لنا هذه البقرة بما تمتاز به عن غيرها .
قال القرطبي : وفي هذا الاستثناء إنابةٌ وانقياد ، ودليل نَدَم على عدم موافقة الأمر . وتقدير الكلام : وإنما لمهتدون إن شاء الله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.