{ أَمْ يَقُولُونَ ْ } أي : المكذبون به عنادًا وبغيًا : { افْتَرَاهُ ْ } محمد على الله ، واختلقه ، { قُلْ ْ } لهم -ملزما لهم بشيء- إن قدروا عليه ، أمكن ما ادعوه ، وإلا كان قولهم باطلاً .
{ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ْ } يعاونكم على الإتيان بسورة مثله ، وهذا محال ، ولو كان ممكنًا لادعوا قدرتهم على ذلك ، ولأتوا بمثله .
وقوله - سبحانه { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } انتقال من بيان كون القرآن من عند الله ، إلى بيان مزاعمهم فيه .
وأم هنا منقطعة بمعنى بل والهمزة للاستفهام ، أى : بل أيقولون إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أتى بهذا القرآن من عند نفسه لا من عند الله .
وقوله { قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله } أمر من الله - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يرد عليهم بما يكبتهم ويخرس ألسنتهم .
أى : قل لهم : يا محمد على سبيل التبكيت والتحدي : إن كان الأمر كما زعمتم من أنى أنا الذي اختلقت هذا القرآن ، فأتوا أنتم يا فصحاء العرب بسورة مثل سورة في البلاغة والهداية وقوة التأثير ، وقد أبحت لكم مع ذلك أن تدعو لمعاونتكم ومساعدتكم في بلوغ غايتكم كل من تستطيعون دعوته سوى الله - تعالى - وجاءت كلمة " سورة " منكرة ، للإِشارة إلى أنه لا يطالبهم بسورة معينة ، وإنما أباح لهم أن يأتوا بأية سورة من مثل سور القرآن ، حتى ولو كانت كأصغر سورة منه .
والضمير في { مثله } يعود إلى القرآن الكريم ، والمراد بمثله هنا : ما يشابهه في حسن النظم ، وجمال الأسلوب ، وسداد المعنى ، وقوة التأثير .
وقوله : { وادعوا } من الدعاء ، والمراد به هنا : طلب حضور المدعو أي نادوهم .
وكلمة { من } في قوله { مَنِ استطعتم } تشمل آلهتهم وبلغاءهم وشعراءهم وكل من يتوسمون فيه العون والمساعدة .
وكلمة { دون } هنا بمعنى غير أى : ادعوا لمساعدتكم كل من تستطيعون دعوته غير الله - تعالى - فإنه وحده القادر على أن يأتي بمثله .
وقوله : { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } جملة شرطية ، وجوابها محذوف لدلالة الكلام السابق عليه ، أى : كنم صادقين في دعواكم أني افتريت هذا القرآن ، فهاتوا سورة مثله مفتراة ، فإنكم مثلي في العربية والفصاحة .
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد تحدتهم وأثارت حماستهم ، وأرخت لهم الحبل ، وعرضت بعدم صدقهم ، حتى تتوافر دواعيهم على المعارضة التي زعموا أنهم أهل لها .
قال الآلوسى : " هذه الآية الدالة على إعجاز القرآن ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - تحدي مصاقع العرب بسورة ما منه ، فلم يأتوا بذلك ، وإلا فلو أتوا بذلك لنقل إلينا ، لتوفر الدواعي على نقله " .
هذا وقد عقد صاحب الظلال فصلا طويلا للحديث عن إعجاز القرآن فقال : " وقد ثبت هذا التحدى ، وثبت العجز عنه ، وما يزال ثابتاً ولن يزال ، والذين يدركون بلاغة هذه اللغة ، ويتذوقون الجمال الفنى والتناسق فيها ، يدركون أن هذا النسق من القول لا يستطيعه إنسان وكذلك الذين يدرسون النظم الاجتماعية ، والأصول التشريعية ، ويدرسون النظام الذي جاء به هذا القرآن ، يدركون أن النظرة فيه إلى تنظيم الحاجة الإِنسانية ومقتضيات حياتها من جميع جوانبها ، والفرص المدخرة فيه لمواجهة الأطوار والتقلبات في يسر ومرونة كل أولئك أكبر من أن يحيط به عقل بشرى واحد ، أو مجموعة من العقول في جبل واحد أو في جميع الأجيال ، ومثلهم الذين يدرسون النفس الإِنسانية ووسائل الوصول إلى التأثير فيها وتوجيهها ، ثم يدرسون وسائل القرآن وأساليبه .
فليس هو إعجاز اللفظ والتعبير وأسلوب الأداء وحده ، ولكنه الإِعجاز المطلق الذي يلمسه الخبراء في هذا وفى النظم والتشريعات والتقسيمات وما إليها . . . "
بعد هذا النفي والتقرير ، فهو إذن من صنع محمد . ومحمد بشر ينطق باللغة التي ينطقون بها ، و لا يملك من حروفها إلا ما يملكون . [ ألف . لام . ميم ] . . [ ألف . لام . را . ] . . [ ألف . لام . ميم . صاد ] . . . الخ . فدونهم إذن - ومعهم من يستطيعون جمعهم - فليفتروا ، كما افترى [ بزعمهم ] محمد . فليفتروا سورة واحدة لا قرآنا كاملا :
( قل : فأتوا بسورة مثله ، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ) .
وقد ثبت هذا التحدي ؛ وثبت العجز عنه . وما يزال ثابتا ولن يزال . والذين يدركون بلاغة هذه اللغة ، ويتذوقون الجمال الفني والتناسق فيها ، يدركون أن هذا النسق من القول لا يستطيعه إنسان . وكذلك الذين يدرسون النظم الاجتماعية ، والأصول التشريعية ، ويدرسون النظام الذي جاء به هذا القرآن ، يدركون أن النظرة فيه إلى تنظيم الجماعة الإنسانية ومقتضيات حياتها من جميع جوانبها ، والفرص المدخرة فيه لمواجهة الأطوار والتقلبات في يسر ومرونة . . كل أولئك أكبر من أن يحيط به عقل بشري واحد ، أو مجموعة العقول في جيل واحد او في جميع الأجيال . ومثلهم الذين يدرسون النفس الإنسانية ووسائل الأصول إلى التأثير فيها وتوجيهها ثم يدرسون وسائل القرآن وأساليبه . .
فليس هو إعجاز اللفظ والتعبير وأسلوب الأداء وحده ، ولكنه الاعجاز المطلق الذي يلمسه الخبراء في هذا وفي النظم والتشريعات والنفسيات وما إليها . .
والذين زاولوا فن التعبير ، والذين لهم بصر بالأداء الفني ، يدركون أكثر من غيرهم مدى ما في الأداءالقرآني من إعجاز في هذا الجانب . والذين زاولوا التفكير الاجتماعي والقانوني والنفسي ، والإنساني بصفة عامة ، يدركون أكثر من غيرهم مدى الإعجاز الموضوعي في هذا الكتاب أيضاً .
ومع تقدير العجز سلفا عن بيان حقيقة هذا الإعجاز ومداه ؛ والعجز عن تصويره بالأسلوب البشري . ومع تقدير أن الحديث المفصل عن هذا الإعجاز - في حدود الطاقة البشرية - هو موضوع كتاب مستقل . فسأحاول هنا أن ألم المامة خاطفة بشيء من هذا . .
إن الأداء القرآني يمتاز ويتميز من الأداء البشري . . إن له سلطاناً عجيباً على القلوب ليس للأداء البشري ؛ حتى ليبلغ أحيانا أن يؤثر بتلاوته المجردة على الذين لا يعرفون من العربية حرفاً . . وهناك حوادث عجيبة لا يمكن تفسيرها بغير هذا الذي نقول - وإن لم تكن هي القاعدة - ولكن وقوعها يحتاج إلى تفسير وتعليل . . ولن أذكر نماذج مما وقع لغيري ؛ ولكني أذكر حادثا وقع لي وكان عليه معي شهود ستة ، وذلك منذ حوالي خمسة عشر عاماً . . كنا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام على ظهر سفينة مصرية تمخر بنا عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك ؛ من بين عشرين ومائة راكب وراكبة أجانب ليس فيهم مسلم . . وخطر لنا أن نقيم صلاة الجمعة في المحيط على ظهر السفينة ! والله يعلم - أنه لم يكن بنا أن نقيم الصلاة ذاتها أكثر مما كان بنا حماسة دينية إزاء مبشر كان يزاول عمله على ظهر السفينة ؛ وحاول أن يزاول تبشيره معنا ! . . وقد يسر لنا قائد السفينة - وكان إنجليزياً - أن نقيم صلاتنا ؛ وسمح لبحارة السفينة وطهاتها وخدمها - وكلهم نوبيون مسلمون - أن يصلي منهم معنا من لا يكون في " الخدمة " وقت الصلاة ! وقد فرحوا بهذا فرحاً شديداً ، إذ كانت المرة الأولى التي تقام فيها صلاة الجمعة على ظهر السفينة . . وقمت بخطبة الجمعة وإمامة الصلاة ؛ والركاب الأجانب - معظمهم - متحلقون يرقبون صلاتنا ! . . وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح " القدّاس " ! ! ! فقد كان هذا أقصى ما يفهمونه من صلاتنا ! ولكن سيدة من هذا الحشد - عرفنا فيما بعد أنها يوغسلافية مسيحية هاربة من جحيم " تيتو " وشيوعيته ! - كانت شديدة التأثر والانفعال ، تفيض عيناها بالدمع ولا تتمالك مشاعرها . جاءت تشد على أيدينا بحرارة ؛ وتقول : - في إنجليزية ضعيفة - إنها لا تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه وما فيها من خشوع ونظام وروح ! . . وليس هذا موضع الشاهد في القصة . . ولكن ذلك كان في قولها : أي لغة هذه التي كان يتحدث بها " قسيسكم " ! فالمسكينة لا تتصور أن يقيم " الصلاة " إلا قسيس - أو رجل دين - كما هو الحال عندها في مسيحية الكنيسة ! وقد صححنا لها هذا الفهم ! . . وأجبناها : فقالت : إن اللغة التي يتحدث بها ذات إيقاع موسيقي عجيب ، وإن كنت لم أفهم منها حرفا . . ثم كانت المفاجأة الحقيقية لنا وهي تقول : ولكن هذا ليس الموضوع الذي أريد أن أسأل عنه . . إن الموضوع الذي لفت حسي ، هو أن " الإمام " كانت ترد في أثناء كلامه - بهذه اللغة الموسيقية - فقرات من نوع آخر غير بقية كلامه ! نوع أكثر موسيقية وأعمق إيقاعا . . هذه الفقرات الخاصة كانت تحدث في رعشة وقشعريرة ! إنها شيء آخر ! كما لو كان - الإمام - مملوءا من الروح القدس ! - حسب تعبيرها المستمد من مسيحيتها ! - وتفكرنا قليلا . ثم أدركنا أنها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء خطبة الجمعة وفي أثناء الصلاة ! وكانت - مع ذلك - مفاجأة لنا تدعو إلى الدهشة ، من سيدة لا تفهم مما تقول شيئا
وليست هذه قاعدة كما قلت . ولكن وقوع هذه الحادثة - ووقوع أمثالها مما ذكره لي غير واحد - ذو دلالة على أن في هذا القرآن سراً آخر تلتقطه بعض القلوب لمجرد تلاوته . وقد يكون إيمان هذه السيدة بدينها ، وفرارها من الجحيم الشيوعي في بلادها ، قد أرهف حسها بكلمات الله على هذا النحو العجيب . . ولكنما بالنا نعجب وعشرات الألوف ممن يستمعون إلى القرآن من عوامنا لا يطرق عقولهم منه شيء ، ولكن يطرق قلوبهم إيقاعه - وسره هذا - وهم لا يفترقون كثيرا من ناحية فهم لغة القرآن عن هذه السيدة اليوغسلافية ! ! !
ولقد أردت أن أقدم للحديث عن القرآن بسلطانه هذا الخفي العجيب . قبل أن أتحدث عن الجوانب المدركة التي يعرفها أكثر من غيرهم من يزاولون فن التعبير . ومن يزاولون التفكير والشعور !
إن الأداء القرآني يمتاز بالتعبير عن قضايا ومدلولات ضخمة في حيز يستحيل على البشر أن يعبروا فيه عن مثل هذه الأغراض ، وذلك بأوسع مدلول ، وأدق تعبير ، وأجمله وأحياه أيضا ! مع التناسق العجيب بين المدلول والعبارة والإيقاع والظلال والجو . ومع جمال التعبير دقة الدلالة في آن واحد ، بحيث لا يغني لفظ عن لفظ في موضعه ، وبحيث لا يجور الجمال على الدقة ولا الدقة على الجمال . ويبلغ من ذلك كله مستوى لا يدرك إعجازه أحد ، كما يدرك ذلك من يزاولون فن التعبير فعلا ؛ لأن هؤلاء هم الذين يدركون حدود الطاقة البشرية في هذا المجال . ومن ثم يتبينون بوضوح أن هذا المستوى فوق الطاقة البشرية قطعا .
وينشأ عن هذه الظاهرة ظاهرة أخرى في الأداء القرآني . . هي أن النص الواحد يحوي مدلولات متنوعة متناسقة في النص ؛ وكل مدلول منها يستوفي حظه من البيان والوضوح دون اضطراب في الأداء أو اختلاط بين المدلولات ؛ وكل قضية وكل حقيقة تنال الحيز الذي يناسبها . بحيث يستشهد بالنص الواحد في مجالات شتى ؛ ويبدو في كل مرة أصيلا في الموضع الذي استشهد به فيه ؛ وكأنما هو مصوغ ابتداء لهذا المجال ولهذا الموضع ! وهي ظاهرة قرآنية بارزة لا تحتاج منا إلى أكثر من الإشارة إليها [ ولو راجع القارىء المقتطفات الواردة في التعريف بهذه السورة لوجد أن النص الواحد يرد للدلالة على أغراض شتى ، وهو في كل مرة أصيل في موضعه تماما . وليس هذا إلا مثالا ] .
وللأداء القرآني طابع بارز كذلك في القدرة على استحضار المشاهد ، والتعبير المواجه كما لو كان المشهد حاضراً ، بطريقة ليست معهودة على الإطلاق في كلام البشر ؛ ولا يملك الأداء البشري تقليدها . لأنه يبدو في هذه الحالة مضطرباً غير مستقيم مع أسلوب الكتابة ! وإلا فكيف يمكن للأداء البشري أن يعبر على طريقة الأداء القرآني مثلا في مثل هذه المواضع :
وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده - بغيا وعدوا - حتى إذا أدركه الغرق قال : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين . . [ وإلى هنا هي قصة تحكى ] . . ثم يعقبها مباشرة خطاب موجه في مشهد حاضر . . ( آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ? ! فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية ) . . ثم يعود الأداء للتعقيب على المشهد الحاضر : ( وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون ) . .
( قل : أي شيء أكبر شهادة . قل الله ، شهيد بيني وبينكم ، وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ) . . وإلى هنا أمر يوجه ورسول يتلقى . . ثم فجأة نجد الرسول يسأل القوم : ( أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ? )
وإذا به يعود للتلقي في شأن هذا الذي سأل عنه قومه - وأجابوه ! - : ( قل : لا أشهد . قل : إنما هو إله واحد ، وإنني بريء مما تشركون ) . .
وكذلك هذه الالتفاتات المتكررة في مثل هذه الآيات : ( ويوم يحشرهم جميعا . . يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس . . وقال أولياؤهم من الإنس : ربنا استمتع بعضنا ببعض ، وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا . قال : النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله ، إن ربك حكيم عليم . . وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون . . يا معشر الجن والإنس ، ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي ، وينذرونكم لقاء يومكم هذا ? . . قالوا : شهدنا على أنفسنا ، وغرتهم الحياة الدنيا ، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين . . ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون )
وأمثالها كثير في القرآن كله . وهو أسلوب متميز تماما من الأسلوب البشري . وإلا فمن شاء أن يماري ، فليحاول أن يعبر على هذا النحو ، ثم ليأت بكلام مفهوم مستقيم ؛ فضلا على أن يكون له هذا الجمال الرائع ، وهذا الإيقاع المؤثر ، وهذا التناسق الكامل !
هذه بعض جوانب الإعجاز في الأداء نلم بها سراعا . ويبقى الإعجاز الموضوعي ؛ والطابع الرباني المتميز من الطابع البشري فيه .
إن هذا القرآن يخاطب الكينونة البشرية بجملتها ؛ فلا يخاطب ذهنها المجرد مرة . وقلبها الشاعرة مرة . وحسها المتوفز مرة . ولكنه يخاطبها جملة ، ويخاطبها من أقصر طريق ؛ ويطرق كل أجهزة الاستقبال والتلقي فيها مرة واحدة كلما خاطبها . . وينشئ فيها بهذا الخطاب تصورات وتأثرات وانطباعات لحقائق الوجود كلها ، لا تملك وسيلة أخرى من الوسائل التي زاولها البشر في تاريخهم كله أن تنشئها بهذا العمق ، وبهذا الشمول ، وبهذه الدقة وهذا الوضوح ، وبهذه الطريقة وهذا الأسلوب أيضاً !
وأنا أستعير هنا فقرات مقتبسة من القسم الثاني من كتاب : " خصائص التصور ومقوماته " تعين على توضيح هذه الحقيقة ؛ وهي تتحدث عن " المنهج القرآني في عرض مقومات التصور الإسلامي " في صورتها الجميلة الكاملة الشاملة المتناسقة المتوازنة ، وأبرز خصائص هذا المنهج في العرض :
أولا : بكونه يعرض الحقيقة - كما هي في عالم الواقع - في الأسلوب الذي يكشف كل زواياها ، وكل جوانبها ، وكل ارتباطاتها ، وكل مقتضياتها . . وهو - مع هذا الشمول - لا يعقد هذه الحقيقة ، ولا يلفها بالضباب ! بل يخاطب بها الكينونة البشرية في كل مستوياتها . . ولم يشأ الله - سبحانه - رحمة منه بالعباد أن يجعل مخاطبتهم بمقومات هذا التصور أو إدراكهم لها ، متوقفا على سابق علم لهم . . إطلاقا . . لأن العقيدة هي حاجة حياتهم الأولى ؛ والتصور الذي تنشئه في عقولهم وقلوبهم هو الذي يحدد لهم طريقة تعاملهم مع الوجود كله ؛ ويحدد لهم كذلك طريقة اتجاههم لتعلم أي علم ، ولطلب أية معرفة . . لهذا السبب لم يجعل الله إدراك هذه العقيدة متوقفا على علم سابق . ولسبب آخر هو أن الله يريد أن يكون هذا التصور الذي تنشئه حقائق العقيدة هو قاعدة علم البشر ومعرفتهم - بما أنه هو قاعدة تصورهم وتفسيرهم للكون من حولهم ، ولما يجري فيه ولما يجري فيهم - كي يقوم علمهم وتقوم معرفتهم على أساس من الحق المستيقن الذي ليس هنالك غيره حق مستيقن . ذلك أن كل ما يتلقاه الإنسان وكل ما يصل إليه - عن غير هذا المصدر - هو معرفة - " ظنية " ونتائج " محتملة " لا " قطعية " حتى ذلك " العلم التجريبي " . فطريق العلم التجريبي هو القياس - لا الاستقراء والاستقصاء - فما يتسنى للبشر الاستقصاء والاستقراء في أية تجربة . هذا على فرض صحة جميع الملاحظات والاستنتاجات والأحكام البشرية على الظواهر ! إنما قصارى " العلم " أن يقوم بعدد من التجارب ، ثم يقيس على نتائجها . والعلم نفسه يسلم بأن النتائج الناشئة عن هذا القياس ظنية محتملة لا يقينية قطعية [ وذلك بالإضافة إلى أن كل تجربة على حدة ، تقوم على ترجيح أحد " الاحتمالات " لا على القطع الحتمي ] . . فلم يبق من علم مستيقن يمكن أن يحصل عليه البشر إلا العلم الذي يأتيهم من عند العليم الخبير ، والذي يقصه عليهم من يقص الحق وهو خير الفاصلين .
ثانيا : بكونه مبرأ من الانقطاع والتمزق الملحوظين في الدراسات " العلمية " والتأملات " الفلسفية " والومضات " الفنية " جميعا . فهو لا يفرد كل جانب من جوانب [ الكل ] الجميل المتناسق بحديث مستقل . كما تصنع أساليب الأداء البشرية . وإنما هو يعرض هذه الجوانب في سياق موصول ؛ يرتبط فيه عالم الشهادة بعالم الغيب . وتتصل فيه حقائق الكون والحياة والإنسان بحقيقة الألوهية . وتتصل فيه الدنيا بالآخرة . وحياة الناس في الأرض بحياة الملأ الأعلى . . في أسلوب تتعذر مجاراته أو تقليده ؛ لأن الأسلوب البشري عندما يحاول تقليده في هذه الخاصية تبدو فيه الحقائق مختلطة مضطربة غامضة ، غير واضحة ولا محددة ولا منسقة ، كما تبدو في المنهج القرآني !
" وهذا الاتصال والارتباط في عرض جملة الحقائق في السياق القرآني الواحد ؛ قد يختلف فيه التركيز على أي منها بين موضع وموضع . ولكن هذا الترابط يبدو دائما . فعندما يكون التركيز في موضع من السياق القرآني مثلا على تعريف الناس بربهم الحق ، تتجلى هذه الحقيقة الكبيرة في آثار القدرة الإلهية الفاعلة في الكون والحياة والإنسان . في عالم الغيب وعالم الشهادة سواء . . وعندما يكون التركيز في موضع آخر على التعريف بحقيقة الكون ، تتجلى العلاقة بين " حقيقة الألوهية " و " حقيقة الكون " ، ويتطرق السياق كثيرا إلى حقيقة الحياة والأحياء ، وإلى سنن الله في الكون والحياة . . وعندما يكون التركيز على " حقيقة الإنسان " يتجلى ارتباطها بحقيقة الألوهية وبالكون والأحياء ، وبعالم الغيب وعالم الشهادة على السواء . . وعندما يكون التركيز على الدار الآخرة تذكر الحياة الدنيا وترتبطان بالله وبسائر الحقائق الأخرى . . وكذلك عندما يكون التركيز على قضايا الحياة الدنيا . . إلى آخر هذا النسق من العرض ، الواضح الملامح في القرآن .
ثالثا : بكونه - مع تماسك جوانب " الحقيقة " وتناسقها - يحافظ تماما على إعطاء كل جانب من جوانبها - في الكل المتناسق - مساحته التي تساوي وزنه الحقيقي في ميزان الله - وهو الميزان - ومن ثم تبدو " حقيقة الألوهية " وخصائصها ، وقضية " الألوهية والعبودية " بارزة مسيطرة محيطة شاملة ؛ حتى ليبدو أن التعريف بتلك الحقيقة وتجلية هذه القضية هو موضوع القرآن الأساسي . . وتشغل حقيقة عالم الغيب - بما فيه القدر والدار الآخرة - مساحة بارزة . ثم تنال حقيقة الإنسان ، وحقيقة الكون ، وحقيقة الحياة ، أنصبة متناسقة تناسق هذه الحقائق في عالم الواقع . . وهكذا لا تدغم حقيقة من الحقائق ، ولا تهمل ، ولا تضيع معالمها في المشهد الكلي الذي تعرض فيه هذه الحقائق . . وكما أن هذه الحقائق لا يطغى بعضها على بعض في التصور الإسلامي ذاته - كما بينا في فصل " التوازن " في القسم الأول - حيث لا ينتهي الإعجاب بالكون المادي ودقة نواميسهوتناسق أجزائه وقوانينه إلى تألهه - كمؤلهة العوالم المادية والأكوان الطبيعية قديماً وحديثاً ! - ولا ينتهي الإعجاب بعظمة الحياة واهتدائها الى وظائفها وتناسقها مع نفسها ومع المحيط الكوني إلى تأليهها - كأصحاب المذهب الحيوي ! - ولا ينتهي الإعجاب بالإنسان ، وتفرده في خصائصه والاستعدادات الكامنه في كيانه المنطلقة في تعامله مع الكون ، إلى تأليه الإنسان - أو العقل - في صورة من الصور - كالمثاليين في عمومهم ! - ولا ينتهي الإجلال للحقيقة الإلهية في ذاتها إلى إنكار وجود العوالم المادية أو احتقارها أو احتقار الكائن الإنساني - كالمذاهب الهندوكية والبوذية والنصرانية المحرفة - . . كما أن هذا التوازن هو طابع التصور الإسلامي ذاته ، فكذلك هو طابع منهج العرض القرآني لمقومات هذا التصور والحقائق التي يقوم عليها بحيث تبدو كلها واضحة في المشهد الفريد الذي يرسمه للكل في السياق القرآني الواحد ! وهي خاصية قرآنية لا يملكها الأداء الإنساني !
رابعاً : بتلك الحيوية الدافقة المؤثرة الموحية - مع الدقة والتقرير والتحديد الحاسم ، وهي تمنح هذه الحقائق حيوية وإيقاعاً وروعة وجمالاً ، لا يتسامى إليها المنهج البشري في العرض ولا الأسلوب البشري في التعبير . ثم هي في الوقت ذاته تعرض في دقة عجيبة ، وتحديد حاسم ؛ ومع ذلك لا تجور الدقة على الحيوية والجمال ، ولا يجور التحديد على الإيقاع والروعة !
" ولا يمكن أن نصف نحن في أسلوبنا البشري ، ملامح المنهج القرآني ، فنبلغ من ذلك ما يبلغه تذوق هذا المنهج . كما أنه لا يمكن أن نبلغ بهذا البحث كله عن " خصائص التصور الإسلامي ومقوماته " شيئاً مما يبلغه القرآن في هذا الشأن . . وما نحاول تقديم هذا البحث للناس إلا لأن الناس قد بعدوا عن القرآن ببعدهم عن الحياة في مثل الجو الذي تنزل فيه القرآن ؛ ولم يعودوا يزاولون تلك الملابسات ، ولا يعانون تلك الاهتمامات التي كان يزاولها ويعانيها من كان يتنزل عليهم القرآن ، بينما هم ينشئون المجتمع المسلم في وجه كل الملابسات القائمة حينذاك . ومن ثم لم يعد الناس قادرين على تذوق المنهج القرآني ذاته ، والاستمتاع بخصائصه ومذاقاته " . . . انتهت المقتطفات . .
والقرآن يقدم حقائق العقيدة - أحياناً - في مجالات لا يخطر للفكر البشري عادة أن يلم بها ، لأنها ليست من طبيعة ما يفكر فيه عادة أو يلتفت إليه على هذا النحو .
من هذا القبيل ما جاء في سورة الأنعام في تصوير حقيقة العلم الإلهي ومجالاته . .
( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ، ويعلم ما في البر والبحر ، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ، ولا حبة في ظلمات الأرض ، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) . .
فهذه المطارح المترامية ، الخفية والظاهرة ، ليست مما يتوجه الفكر البشري إلى ارتيادها على هذا النحو ؛ وهو في معرض تصوير شمول العلم ؛ مهما أراد تصوير هذا الشمول . ولو أن فكراً بشرياً هو الذي يريد تصوير شمول العلم لاتجه اتجاهات أخرى تناسب اهتمامات الإنسان وطبيعة تصوراته . . وذلك كما قلنا في تفسير هذه الآية من قبل في الجزء السابع :
" ننظر إلى هذه الآية القصيرة من أي جانب فنرى هذا الإعجاز الناطق بمصدر هذا القرآن .
ننظر إليها من ناحية موضوعها ، فنجزم للوهلة الأولى بأن هذا كلام لا يقوله بشر فليس عليه طابع البشر . . إن الفكر البشري - حين يتحدث عن مثل هذا الموضوع - موضوع شمول العلم وإحاطته - لا يرتاد هذه الآفاق . . إن مطارح الفكر البشري وانطلاقاته في هذا المجال لها طابع آخر ولها حدود . إنه ينتزع تصوراته التي يعبر عنها من اهتماماته . . فما اهتمام الفكر البشري بتقصي وإحصاء الورق الساقط من الشجر ، في كل أنحاء الأرض ? إن المسألة لا تخطر على بال الفكر البشري ابتداء . لا يخطر على باله أن يتتبع ويحصى ذلك الورق الساقط في أنحاء الأرض . ومن ثم لا يخطر له أن يتجه هذا الاتجاه ، ولا أن يعبر هذا التعبير عن العلم الشامل ! إنما الورق الساقط شأن يحصيه الخالق ويعبر عنه الخالق !
" وما اهتمام الفكر البشري بهذا الإطلاق : ( ولا رطب ولا يابس ) . إن أقصى ما يتجه إليه تفكير البشر هو الإنتفاع بالرطب واليابس مما بين أيديهم . . فأما التحدث عنه كدليل للعلم الشامل فهذا ليس معهوداً في اتجاه البشر وتعبيراتهم كذلك ! إنما كل رطب وكل يابس شأن يحصيه الخالق ، ويعبر عنه الخالق !
" ولا يفكر البشر أن تكون كل ورقة ساقطة ؛ وكل حبة مخبوءة ، وكل رطب وكل يابس في كتاب مبين ، وفي سجل محفوظ فما شأنهم بهذا ? وما فائدته لهم ? وما احتفالهم بتسجيله ? إنما الذي يحصيه ويسجله هو صاحب الملك ، الذي لا يند عنه شيء في ملكه . . الصغير كالكبير ، والحقير كالجليل ، والمخبوء كالظاهر ، والمجهول كالمعلوم ، والبعيد كالقريب . .
" إن هذا المشهد الشامل الواسع العميق الرائع . . مشهد الورق الساقط من شجر الأرض جميعاً ، والحب المخبوء في أطواء الأرض جميعاً ، والرطب واليابس في أرجاء الأرض جميعاً . . إن هذا المشهد كما أنه لا يتجه إليه الفكر البشري والاهتمام البشري ، وكذلك لا تلحظه العين البشرية ؛ ولا تلم به النظرة البشرية . . إن هذا المشهد إنما يتكشف هكذا بجملته لعلم الله وحده ، المشرف على كل شيء ، المحيط بكل شيء ، الحافظ لكل شيء ، الذي تتعلق مشيئته وقدره بكل شيء . . الصغير كالكبير ، والحقير كالجليل ، والمخبوء كالظاهر ، والمجهول كالمعلوم ، والبعيد كالقريب . .
" والذين يزاولون الشعور ويزاولون التعبير من بني البشر يدركون جيداً حدود التصور البشري وحدود التعبير البشري أيضاً . ويعلمون - من تجربتهم البشرية - أن مثل هذا المشهد ، لا يخطر على القلب البشري ؛ كما أن مثل هذا التعبير لا يتأتى له أيضاً . . والذين يمارون في هذا عليهم أن يراجعوا قول البشر كله ، ليروا إن كانوا قد اتجهوا مثل هذا الإتجاه أصلاً !
" وهذه الآية وأمثالها في القرآن الكريم تكفي وحدها لمعرفة مصدر هذا الكتاب الكريم " . .
" كذلك ننظر إليها من ناحية الإبداع الفني في التعبير ذاته ، فنرى آفاقاً من الجمال والتناسق لا تعرفها أعمال البشر ، على هذا المستوى السامق : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) . . آماد وآفاق وأغوار في " المجهول " المطلق . في الزمان والمكان ، وفي الماضي والحاضر والمستقبل وفي أحداث الحياة وتصورات الوجدان .
( ويعلم ما في البر والبحر ) . . آماد وآفاق وأغوار في " المنظور " على استواء وسعة وشمول . . تناسب في عالم الشهود والمشهود تلك الآماد والآفاق والأغوار في عالم الغيب المحجوب .
( وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ) . . حركة الموت والفناء ؛ وحركة السقوط والانحدار من علو إلى سفل ، ومن حياة إلى اندثار .
( ولا حبة في ظلمات الأرض ) . . حركة البزوغ والنماء ، المنبثقة من الغور إلى السطح ، ومن كمون وسكون إلى إندفاع وانطلاق .
( ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) . التعميم الشامل ، الذي يشمل الحياة والموت . والازدهار والذبول ، في كل حي على الإطلاق . .
فمن ذا الذي يبدع ذلك الاتجاه والانطلاق ? من ذا الذي يبدع هذا التناسق والجمال ? . . من ذا الذي يبدع هذا كله وذلك كله ، في مثل هذا النص القصير . . من ? إلا الله ? !
كذلك هذا النص الآخر عن شمول علم اللّه :
( يعلم ما يلج في الأرض ، وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء ، وما يعرج فيها ، وهو الرحيم الغفور ) . .
ويقف الإنسان أمام هذه الصفحة المعروضة في كلمات قليلة ؛ فإذا هو أمام حشد هائل عجيب من الأشياء ، والحركات ، والأحجام ، والأشكال ، والصور ، والمعاني ، والهيئات ، لا يصمد لها الخيال !
ولو أن أهل الأرض جميعاً وقفوا حياتهم كلها يتتبعون ويحصون ما يقع في لحظة واحدة ، مما تشير إليه الآية لأعجزهم تتبعه وإحصاؤه عن يقين !
فكم من شيء في هذه اللحظة الواحدة يلج في الأرض ? وكم من شيء في هذه اللحظة يخرج منها ? وكم من شيء في هذه اللحظة ينزل من السماء ? وكم من شيء في هذه اللحظة يعرج فيها ?
كم من شيء يلج في الأرض ? كم من حبة تختبيء أو تخبأ في جنبات هذه الأرض ? كم من دودة ومن حشرة ومن هامة ومن زاحفة تلج في الأرض في أقطارها المترامية ? كم من قطرة ماء ومن ذرة غاز ، ومن إشعاع كهرباء تندس في الأرض في أرجائها الفسيحة ? وكم وكم مما يلج في الأرض ، وعين الله عليه ساهرة لا تنام ? !
وكم يخرج منها ? كم من نبتة تنبثق ? وكم من نبع يفور ? وكم من بركان يتفجر ? وكم من غاز يتصاعد ? وكم من مستور يتكشف ? وكم من حشرة تخرج من بيتها المستور ? وكم وكم مما يرى ومما لا يرى ، ومما يعلم البشر ومما يجهلونه وهو كثير ? ?
وكم مما ينزل من السماء ? كم من نقطة مطر ? وكم من شهاب ثاقب ? وكم من شعاع محرق ? وكم من شعاع منير ? وكم من قضاء نافذ ومن قدر مقدور ? وكم من رحمة تشمل الوجود وتخص بعض العبيد ? وكم من رزق يبسطه الله لمن يشاء من عباده ويقدر ? . . وكم وكم مما لا يحصيه إلا اللّه ?
وكم مما يعرج فيها ? كم من نفس صاعد من نبات أو حيوان أو إنسان أو خلق آخر مما لا يعرفه الإنسان ? وكم من دعوة إلى الله معلنة أو مستسرة لم يسمعها إلا الله في علاه ?
وكم من روح من أرواح الخلائق التي نعلمها أو نجهلها متوفاة ? وكم من ملك يعرج بأمر من روح الله ? وكم من روح يرف في هذا الملكوت لا يعلمه إلا الله ?
ثم كم من قطرة بخار صاعدة من بحر ، ومن ذرة غاز صاعدة من جسم ? وكم وكم مما لا يعلمه سواه ? !
كم في لحظة واحدة ? وأين يذهب علم البشر وإحصاؤهم لما في اللحظة الواحدة ولو قضوا الأعمار الطوال في العد والإحصاء ? وعلم الله الكامل الهائل اللطيف العميق يحيط بهذا كله في كل مكان وفي كل زمان . . وكل قلب وما فيه من نوايا وخواطر وماله من حركات وسكنات تحت عين الله ، وهو مع هذا يستر ويغفر . .
وإن آية واحدة من القرآن كهذه الآية لما يوحي بأن هذا القرآن ليس من قول البشر . فمثل هذا الخاطر الكوني لا يخطر بطبيعته على قلب بشر . ومثل هذا التصور الكوني لا دافع إليه من طبيعة تصور البشر ، ومثل هذه الإحاطة باللمسة الواحدة تتجلى فيها صنعة الله بارئ هذا الوجود التي لا تشبهها صنعة العبيد !
كذلك يبدو الطابع الإلهي في هذا القرآن في طريقة استدلاله بأشياء وأحداث مثيرة صغيرة في ظاهرها ؛ وهي ذات حقيقة ضخمة تناسب الموضوع الضخم الذي يستدل بها عليه . . كما يبدو في قوله تعالى :
( نحن خلقناكم فلولا تصدقون ! أفرأيتم ما تمنون ? أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ? نحن قدرنا بينكمالموت وما نحن بمسبوقين . على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون . ولقد علمتم النشأة الأولى ، فلولا تذكرون ! )
( أفرأيتم الماء الذي تشربون ? أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون ? لو نشاء جعلناه أجاجاً ، فلولا تشكرون ! )
( أفرأيتم النار التي تورون ? أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون ? نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين . )
إن هذا القرآن يجعل من مألوفات البشر وحوادثهم المكرورة ، قضايا كونية كبرى يكشف فيها عن النواميس الإلهية في الوجود ، وينشئ بها عقيدة ضخمة شاملة وتصوراً كاملاً لهذا الوجود ، كما يجعل منها منهجاً للنظر والتفكير ، وحياة للأرواح والقلوب ، ويقظة في المشاعر والحواس . يقظة لظواهر هذا الوجود التي تطالع الناس صباح مساء وهم غافلون عنها ، ويقظة لأنفسهم وما يجري من العجائب والخوارق فيها !
إنه لا يكل الناس إلى الحوادث الفذة الخارقة والمعجزات الخاصة المعدودة . كذلك لا يكلفهم أن يبحثوا عن الخوارق والمعجزات والآيات والدلائل بعيداً عن أنفسهم ، ولا عن مألوف حياتهم ، ولا عن الظواهر الكونية القريبة منهم المعروفة لهم . . إنه لا يبعد بهم في فلسفات معقدة ، أو مشكلات عقلية عويصة ، أو تجارب علمية لا يملكها كل أحد . . لكي ينشئ في نفوسهم عقيدة ، وتصورا للكون والحياة قائماً على هذه العقيدة .
إن أنفسهم من صنع الله ؛ وظواهر الكون حولهم من إبداع قدرته . والمعجزة كامنة في كل ما تبدعه يده . وهذا القرآن قرآنه . ومن ثم يأخذهم إلى هذه المعجزات الكامنة فيهم ، والمبثوثة في الكون من حولهم . يأخذهم إلى هذه الخوارق المألوفة لهم ، التي يرونها ولا يحسون حقيقة الإعجاز فيها . لأنهم لطول ألفتهم بها غفلوا عن مواضع الإعجاز فيها . يأخذهم إليها ليفتح عيونهم عليها ، فتطلع على السر الهائل المكنون فيها . سر القدرة المبدعة ، وسر الوحدانية المفردة ، وسر الناموس الأزلي الذي يعمل في كيانهم هم أنفسهم كما يعمل في الكون من حولهم ؛ والذي يحمل دلائل الإيمان ؛ وبراهين العقيدة فيبثها في كيانهم ، أو يوقظها في فطرتهم بتعبير أدق .
وعلى هذا المنهج يسير ، وهو يعرض عليهم آيات القدرة المبدعة في خلقهم هم أنفسهم . وفي زرعهم الذي تزاوله أيديهم . وفي الماء الذي يشربون . وفي النار التي يوقدون - وهي أبسط ما يقع تحت أبصارهم من مألوفات حياتهم - كذلك يصور لهم لحظة النهاية . نهاية الحياة على هذه الأرض وبدء الحياة في العالم الآخر . اللحظة التي يواجهها كل أحد ، والتي تنتهي عندها كل حيلة ، والتي تقف الأحياء وجهاً لوجه أمام القدرة المطلقة المتصرفة وقفة فاصلة ، لا محاولة فيها ولا مجال ! حيث تسقط جميع الأقنعة ، وتبطل جميع التعلات .
إن طريقة القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية تدل بذاتها على مصدره . . إنه المصدر الذي صدر منه الكون . فطريقة بنائه هي طريقة بناء الكون . فمن أبسط المواد الكونية تنشأ أعقد الأشكال ، وأضخم الخلائق . . الذرة يظن أنها مادة بناء الكون ؛ والخلية يظن أنها مادة بناء الحياة . . والذرة على صغرها معجزة في ذاتها ؛ والخلية على ضآلتها آية في ذاتها . . وهنا في القرآن يتخذ من أبسط المشاهدات المألوفة للبشر مادة لبناء أضخم عقيدة دينية وأوسع تصور كوني . . المشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان : النسل . الزرع . والماء . والنار . والموت . . أي إنسان على ظهر هذه الأرض لم تدخل هذه المشاهدات في تجاربه ? أي ساكن كهف لم يشهدنشأة حياة جنينية ، ونشأة حياة نباتية . ومسقط ماء . وموقد نار . ولحظة وفاة ? . . من هذه المشاهدات التي رآها كل إنسان ينشئ القرآن العقيدة ، لأنه يخاطب كل إنسان في كل بيئة . . وهذه المشاهدات البسيطة الساذجة بذاتها هي أضخم الحقائق الكونية ، وأعظم الأسرار الربانية ؛ فهي في بساطتها تخاطب فطرة كل إنسان ؛ وهي في حقيقتها موضوع دراسة أعلم العلماء إلى آخر الزمان .
ولسنا نملك المضي أبعد من هذا في بيان طبيعة " هذا القرآن " الدالة على مصدره . ففي هذا القدر كفاية لنعود إلى سياق السورة . .
( وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون اللّه . . . ) .
( أم يقولون افتراه ? قل : فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ) .
وقوله : { أم يقولونه افتراه } الآية ، { أم } هذه ليست بالمعادلة لألف الاستفهام التي في قولك أزيد قام أم عمرو ، وإنما هي تتوسط الكلام ، ومذهب سيبويه أنها بمنزلة الألف وبل لأنها تتضمن استفهاماً وإضراباً عما تقدم ، وهي كقوله : إنها لا بل أم شاء ، وقالت فرقة في { أم } هذه : هي بمنزلة ألف الاستفهام ، ثم عجزهم في قوله { قل فأتوا بسورة مثله } والسورة مأخوذة من سورة البناء{[6110]} وهي من القرآن هذه القطعة التي لها مبدأ وختم ، والتحدي في هذه الآية وقع بجهتي الإعجاز اللتين في القرآن : إحداهما النظم والرصف والإيجاز والجزالة ، كل ذلك في التعريف بالحقائق ، والأخرى المعاني من الغيب لما مضى ولما يستقبل ، وحين تحداهم بعشر مفتريات إنما تحداهم بالنظم وحده .
قال القاضي أبو محمد : هكذا قول جماعة من المتكلمين ، وفيه عندي نظر ، وكيف يجيء التحدي بمماثلة في الغيوب رداً على قولهم { افتراه } ، وما وقع التحدي في الآيتين هذه وآية العشر السور إلا بالنظم والرصف والإيجاز في التعريف بالحقائق ، وما ألزموا قط إتياناً بغيب ، لأن التحدي بالإعلام بالغيوب كقوله
{ وهم من بعد غلبهم سيغلبون }{[6111]} وكقوله { لتدخلن المسجد الحرام }{[6112]} ونحو ذلك من غيوب القرآن فبين أن البشر مقصر عن ذلك ، وأما التحدي بالنظم فبين أيضاً أن البشر مقصر عن نظم القرآن إذ الله عز وجل قد أحاط بكل شيء علماً ، فإذا قدر الله اللفظة في القرآن علم بالإحاطة اللفظة التي هي أليق بها في جميع كلام العرب في المعنى المقصود ، حتى كمل القرآن على هذا النظام الأول فالأول ، والبشر مع أن يفرض أفصح العالم ، محقوق بنيان وجهل بالألفاظ والحق وبغلط وآفات بشرية ، فمحال أن يمشي في اختياره على الأول فالأول ، ونحن نجد العربي ينقح قصيدته - وهي الحوليات - يبدل فيها ويقدم ويؤخر ، ثم يدفع تلك القصيدة إلى أفصح منه فيزيد في التنقيح ، ومذهب أهل الصرفة مكسور بهذا الدليل ، فما كان قط في العالم إلا من فيه تقصير سوى من يوحي إليه الله تعالى ، وميّزت فصحاء العرب هذا القدر من القرآن وأذعنت له لصحة فطرتها وخلوص سليقتها وأنهم يعرف بعضهم كلام بعض ويميزه من غيره ، كفعل الفرزدق في أبيات جرير ، والجارية في شعر الأعشى ، وقول الأعرابي «عرفجكم »{[6113]} فقطع ، ونحو ذلك مما إذا تتبع بان . والقدر المعجز من القرآن ما جمع الجهتين «اطراد النظم والسرد ، وتحصيل المعاني وتركيب الكثير منها في اللفظ القليل ، فأما مثل قوله تعالى : { مدهامتان }{[6114]} وقوله { ثم نظر }{[6115]} فلا يصح التحدي بالإتيان بمثله لكن بانتظامه واتصاله يقع العجز عنه ، وقوله { مثله } صفة للسورة والضمير عائد على القرآن المتقدم الذكر ، كأنه قال : فأتوا بسورة مثل القرآن أي في معانيه وألفاظه{[6116]} ، وخلطت فرق في قوله » مثله «من جهة اللسان كقول الطبري : ذلك على المعنى ، ولو كان على اللفظ لقال : » مثلها « ، وهذا وهم بيّن لا يحتاج إليه ، وقرأ عمرو بن فائد » بسورةِ مثلهِ « ، على الإضافة ، قال أبو الفتح : التقدير بسورة كلام مثله{[6117]} ، قال أبو حاتم : أمر عبد الله الأسود أن يسأل عمر عن إضافة » سورة «أو تنوينها فقال له عمر كيف شئت ، وقوله { وادعوا من استطعتم } إحالة على شركائهم وجنهم وغير ذلك ، وهو كقوله في الآية الأخرى ، { لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً }{[6118]} أي معيناً ، وهذا أشد إقامة لنفوسهم وأوضح تعجيزاً لهم .