{ 4 - 6 ْ } { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ* قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
واعلم أن الله ذكر أنه يقص على رسوله أحسن القصص في هذا الكتاب ، ثم ذكر هذه القصة وبسطها ، وذكر ما جرى فيها ، فعلم بذلك أنها قصة تامة كاملة حسنة ، فمن أراد أن يكملها أو يحسنها بما يذكر في الإسرائيليات التي لا يعرف لها سند ولا ناقل وأغلبها كذب ، فهو مستدرك على الله ، ومكمل لشيء يزعم أنه ناقص ، وحسبك بأمر ينتهي إلى هذا الحد قبحا ، فإن تضاعيف هذه السورة قد ملئت في كثير من التفاسير ، من الأكاذيب والأمور الشنيعة المناقضة لما قصه الله تعالى بشيء كثير .
فعلى العبد أن يفهم عن الله ما قصه ، ويدع ما سوى ذلك مما ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم ينقل .
فقوله تعالى : { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ ْ } يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم الصلاة والسلام : { يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ْ } فكانت هذه الرؤيا مقدمة لما وصل إليه يوسف عليه السلام من الارتفاع في الدنيا والآخرة .
وهكذا إذا أراد الله أمرا من الأمور العظام قدم بين يديه مقدمة ، توطئة له ، وتسهيلا لأمره ، واستعدادا لما يرد على العبد من المشاق ، لطفا بعبده ، وإحسانا إليه ، فأوَّلها يعقوب بأن الشمس : أمه ، والقمر : أبوه ، والكواكب : إخوته ، وأنه ستنتقل به الأحوال إلى أن يصير إلى حال يخضعون له ، ويسجدون له إكراما وإعظاما ، وأن ذلك لا يكون إلا بأسباب تتقدمه من اجتباء الله له ، واصطفائه له ، وإتمام نعمته عليه بالعلم والعمل ، والتمكين في الأرض .
وأن هذه النعمة ستشمل آل يعقوب ، الذين سجدوا له وصاروا تبعا له فيها ، ولهذا قال :
ثم حكى - سبحانه - قصة يوسف - عليه السلام - كمثال لأحسن القصص فقال - تعالى - { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ ياأبت إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } .
و { إذ } ظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر .
ويوسف : اسم أعجمى ، مشتق - كما يقول الآلوسى - من الأسف ، وسمى به لأسف أبيه عليه . وأبوه : هو يعقب بن إسحاق بن إبراهيم . وفى الحديث الصحيح عن ابن عمر - رضى الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم " .
وقوله : { ياأبت } أصله يا أبى ، فحذفت الياء وعوض عنها تاء التأنيث ، ونقلت إليها كسرة الباء ، ثم فتحت الباء لمناسبة تاء التأنيث .
والمعنى : اذكر - أيها الرسول الكريم أو أيها المخاطب - وقت أن قال يوسف لأبيه ، يا أبت إنى رأيت في منامى { أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } تسجد لى : ورأيت كذلك { والشمس والقمر } لى { سَاجِدِينَ } .
ولم يدرج الشمس والقمر في الكواكب مع أنهما منها ، لإِظهار مزيتهما ورفعا لشأنهما ، وجملة { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } مستأنفة لبيان الحالة التي رآهم عليها .
وأجريت هذه الكواكب مجرى العقلاء في الضمير المختص بها ، لوصفها بوصفهم حيث إن السجود من صفات العقلاء ، والعرب تجمع ما لا يعقلجمع من يعقل إذا أنزلوه منزلته .
قال ابن كثير : " وقد تكلم المفسرون على تبعير هذا المنام : أن الأحد عشر كوكبا عبارة عن إخوته ، وكانوا أحد عشر رجلا ، والشمس والقمر عبارة عن أبيه وأمه .
روى هذا عن ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة وسفيان الثورى ، وعبد الرحمن بن زيد ، وقد وقع تفسيرها بعد أربعين سنة ، وقيل بعد ثمانين سنة ، وذلك حين رفع أبويه على العرش ، وهو سريره . وإخوته بين يديه . . وخروا له سجدوا وقال : يا أبت هذا تأويل رؤياى من قبل ، قد جعلها ربى حقا . . . " .
هذه المقدمة إشارة البدء إلى القصة . .
ثم يرفع الستار عن المشهد الأول في الحلقة الأولى ، لنرى يوسف الصبي يقص رؤياه على أبيه :
( إذ قال يوسف لأبيه : يا أبت ، إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر . رأيتهم لي ساجدين . قال : يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك ، فيكيدوا لك كيدا . إن الشيطان للإنسان عدو مبين . وكذلكيجتبيك ربك ، ويعلمك من تأويل الأحاديث ، ويتم نعمته عليك ، وعلى آل يعقوب ، كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق ، إن ربك عليم حكيم ) . .
كان يوسف صبيا أو غلاما ؛ وهذه الرؤيا كما وصفها لأبيه ليست من رؤى الصبية ولا الغلمان ؛ وأقرب ما يراه غلام - حين تكون رؤياه صبيانية أو صدى لما يحلم به - أن يرى هذه الكواكب والشمس والقمر في حجره أو بين يديه يطولها . ولكن يوسف رآها ساجدة له ، متمثلة في صورة العقلاء الذين يحنون رؤوسهم بالسجود تعظيما . والسياق يروى عنه في صيغة الإيضاح المؤكدة :
( إذ قال يوسف لأبيه : يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ) . .
{ إذ قال يوسف } بدل من { أحسن القصص } إن جعل مفعولا بدل الاشتمال ، أو منصوب بإضمار اذكر و{ يوسف } عبري ولو كان عربيا لصرف . وقرئ بفتح السين وكسرها على التلعب به لا على أنه مضارع بني للمفعول أو الفاعل من آسف لأن المشهورة شهدت بعجمته . { لأبيه } يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام وعنه عليه الصلاة السلام " الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم " . { يا أبت } أصله يا أبي فعوض عن الياء التأنيث لتناسبهما في الزيادة ولذلك قلبها هاء في الوقف ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وكسرها لأنها عوض حرف يناسبها ، وفتحها ابن عامر في كل القرآن لأنها حركة أصلها أو لأنه كان يا أبتا فحذف الألف وبقي الفتحة ، وإنما جاز " يا أبتا " ولم يجز يا أبتي لأنه جمع بين العوض والمعوض . وقرئ بالضم إجراء لها مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء من غير اعتبار التعويض ، وإنما لم تسكن كأصلها لأنها حرف صحيح منزل منزلة الاسم فيجب تحريكها ككاف الخطاب . { إني رأيت } من الرؤيا لا من الرؤية لقوله : { لا تقصص رؤياك } ولقوله : { هذا تأويل رؤياي من قبل } { أحد عشر كوكبا والشمس والقمر } . روي عن جابر رضي الله تعالى عنه ( أن يهوديا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أخبرني يا محمد عن النجوم التي رآهن يوسف ، فسكت فنزل جبريل عليه السلام فأخبره بذلك فقال إذا أخبرتك هل تسلم قال نعم ، قال جريان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفيلق والمصبح والضروح والفرغ ووثاب وذو الكتفين رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له فقال اليهودي إي والله إنها لأسماؤها ) { رأيتهم لي ساجدين } استئناف لبيان حالهم التي رآهم عليها فلا تكرير وإنما أجريت مجرى العقلاء لوصفها بصفاتهم .
{ إذ قال } بدل اشتمال أو بَعْض من { أحْسَن القصص } [ سورة يوسف : 3 ] على أن يكون أحسن القصص بمعنى المفعول ، فإنّ أحسن القصص يشتمل على قصَص كثير ، منه قَصص زمان قول يوسفَ عليه السّلام لأبيه { إني رأيت أحَدَ عَشَرَ كوكباً } وما عقب قوله ذلك من الحوادث . فإذا حمل { أحسن القصص } [ سورة يوسف : 3 ] على المصدر فالأحسن أن يكون { إذْ } منصوباً بفعل محذوف يدلّ عليه المقام ، والتّقدير : اذْكر .
ويُوسف اسم عبراني تقدم ذكر اسمه عند قوله تعالى : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } الخ في سورة الأنعام ( 83 ) . وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق من زوجه ( راحِيل ) . وهو أحد الأسباط الذين تقدم ذكرهم في سورة البقرة . وكان يوسف أحب أبناء يعقوب عليهما السّلام إليه وكان فَرْط محبة أبيه إياه سَببَ غيرة إخوته منه فكادُوا له مكيدة فسألوا أباهم أن يتركه يخرج معهم . فأخرجوه معهم بعلّة اللعب والتفسح ، وألقَوْهُ في جبّ ، وأخبروا أباهم أنّهم فقدوه ، وأنهم وجدوا قميصه ملوّثاً بالدّم ، وأروه قميصه بعد أن لطّخوه بدم ، والتقطه من البئر سيارة من العرب الإسماعيليين كانوا سائرين في طريقهم إلى مصر ، وباعوه كرقيق في سوق عاصمة مصر السفلى التي كانت يومئذٍ في حكم أمّة من الكنعانيين يعرفون بالعمالقة أو ( الهكْصوص ) . وذلك في زمن الملك ( أبو فيس ) أو ( ابيبي ) . ويقرب أن يكون ذلك في حدود سنة تسع وعشرين وسبعمائة وألف قبل المسيح عليه السّلام ، فاشتراه ( فوطيفار ) رئيس شرطة فرعون الملقّبُ في القرآن بالعزيز ، أي رئيس المدينة . وحدثت مكيدة له من زوج سيّده ألقي بسببها في السجن . وبسبب رؤيا رآها الملِكُ وعَبّرها يوسف عليه السّلام وهو في السِجن ، قَرّبه الملك إليه زُلفى ، وأولاه على جميع أرض مصر ، وهو لقب العزيز وسَمّاه ( صفنات فعنيج ) ، وزوّجه ( أسنات ) بنت أحد الكهنة وعمره يومئذٍ ثلاثون سنة . وفي مدة حكمه جَلَب أباه وأقاربه من البريّة إلى أرض مصر ، فذلك سبب استيطان بني إسرائيل أرض مصر . وتوفي بمصر في حدود سنة خمس وثلاثين وستمائة وألف قبل ميلاد عيسى عليه السّلام . وحنّط على الطريقة المصرية . ووُضع في تابوت ، وأوصى قبل موته قومه بأنهم إذا خرجوا من مصر يرفعون جسده معهم . ولمّا خرج بنو إسرائيل من مصر رفعوا تابوت يوسف عليه السّلام معهم وانتقلوه معهم في رحلتهم إلى أن دفنوه في ( شكِيم ) في مدة يوشع بن نون .
والتاء في ( أبَت ) تاء خاصّة بكلمة الأب وكلمة الأم في النداء خاصة على نية الإضافة إلى المتكلم ، فمفادها مفاد : يا أبي ، ولا يكاد العرب يقولون : يا أبي . وورد في سَلام ابن عمر على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه حين وقف على قبورهم المنوّرة .
وقد تحيّر أيمّة اللغة في تعليل وصلها بآخر الكلمة في النداء واختاروا أن أصلها تاء تأنيث بقرينة أنهم قد يجعلونها هاء في الوقف ، وأنها جعلت عوضاً عن ياء المتكلم لِعلة غير وجيهة . والذي يظهر لي أنّ أصلها هاء السكت جلبوها للوقف على آخر الأب لأنّه نقص من لام الكلمة ، ثم لما شابهت هاء التأنيث بكثرة الاستعمال عوملت معاملة آخر الكلمة إذا أضافوا المنادى فقالوا : يا أبتي ، ثم استغنوا عن ياء الإضافة بالكسرة لكثرة الاستعمال . ويدل لذلك بقاء الياء في بعض الكلام كقول الشاعر الذي لا نعرفه :
أيَا أبتي لا زلتَ فينا فإنّمَا *** لنا أملٌ في العيْش ما دمت عائشاً
ويجوز كسر هذه التّاء وفتحها ، وبالكسر قرأها الجمهور ، وبفتح التّاء قرأ ابن عامر وأبو جعفر .
والنداء في الآية مع كون المنادى حاضراً مقصود به الاهتمام بالخبر الذي سيلقى إلى المخاطب فينزل المخاطب منزلة الغائب المطلوب حضوره ، وهو كناية عن الاهتمام أو استعارة له .
والكوكب : النجم ، تقدّم عند قوله تعالى : { فلمّا جن عليه الليل رأى كوكباً } في سورة الأنعام ( 76 ) .
وجملة { رأيتهم } مؤكدة لجملة { رأيتُ أحدَ عَشَرَ كوكباً } ، جيء بها على الاستعمال في حكاية المرائي الحلمية أن يعاد فعل الرؤية تأكيداً لفظياً أو استئنافاً بيانياً ، كأن سامع الرؤيا يستزيد الرائي أخباراً عمّا رأى .
ومثال ذلك ما وقع في « الموطّأ » أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أراني الليلة عند الكعبة فرأيت رجلاً آدم " الحديث .
وفي البخاري أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رأيت في المنام أني أهاجر من مكّة إلى أرض بها نخل ، ورأيت فيها بقرا تذبح ، ورأيت . . واللّهُ خير " . وقد يكون لفظ آخر في الرؤيا غير فعلها كما في الحديث الطّويل " إنّه أتاني الليلة آتيان ، وإنهما ابتعثاني ، وإنّهما قالا لي : انطلق ، وإنّي انطلقت معهما ، وإنّا أتينا على رجل مضطجع " الحديث بتكرار كلمة ( إنّ ) وكلمة ( إنّا ) مراراً في هذا الحديث .
وقرأ الجمهور { أحَدَ عَشَرَ } بفتح العين من { عَشَرَ } . وقرأه أبو جعفر بسكون العين .
واستعمل ضمير جمع المذكر للكواكب والشمس والقمر في قوله : { رأيتهم لي ساجدين } ، لأن كون ذلك للعقلاء غالب لا مطرد ، كما قال تعالى في الأصنام { وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون } [ سورة الأعراف : 198 ] ، وقال : { يا أيها النمل ادخلوا } [ سورة النمل : 18 ] .
وقال جماعة من المفسّرين : إنه لمّا كانت الحالة المرئية من الكواكب والشمس والقمر حالة العقلاء ، وهي حالة السجود نزّلها منزلة العقلاء ، فأطلق عليها ضمير ( هم ) وصيغة جمعهم .
وتقديم المجرور على عامله في قوله : لي ساجدين } للاهتمام ، عبّر به عن معنى تضمّنه كلام يوسف عليه السّلام بلغته يدل على حالة في الكواكب من التعظيم له تقتضي الاهتمام بذكره فأفاده تقديم المجرور في اللغة العربيّة .
وابتداء قصة يوسف عليه السّلام بذكر رؤياه إشارة إلى أنّ الله هيّأ نفسه للنبوءة فابتدأه بالرؤيا الصّادقة كما جاء في حديث عائشة « أنّ أوّلَ ما ابتدىء رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فَلق الصبح » . وفي ذلك تمهيد للمقصود من القصة وهو تقرير فضل يوسف عليه السّلام من طهارة وزكاء نفس وصبر . فذكر هذه الرؤيا في صدر القصّة كالمقدّمة والتّمهيد للقصّة المقصودة .
وجعل الله تلك الرؤيا تنبيهاً ليوسف عليه السّلام بعلو شأنه ليتذكرها كلما حلت به ضائقة فتطمئن بها نفسه أن عاقبتهُ طيبة .
وإنما أخبر يوسف عليه السّلام أباه بهاته الرؤيا لأنّه علم بإلهام أو بتعليم سابق من أبيه أن للرؤيا تعبيراً ، وعلم أنّ الكواكب والشّمس والقمر كناية عن موجودات شريفة ، وأنّ سجود المخلوقات الشّريفة له كناية عن عظمة شأنه . ولعلّهُ علم أنّ الكواكب كناية عن موجودات متماثلة ، وأنّ الشمس والقمر كناية عن أصلين لتلك الموجودات فاستشعر على الإجمال دلالة رؤياه على رفعة شأنه فأخبر بها أباه .
وكانوا يعدّون الرؤيا من طرق الإنباء بالغيب ، إذا سلمت من الاختلاط وكان مزاج الزائي غير منحرف ولا مضطرب ، وكان الرائي قد اعتاد وقوع تأويل رؤياه ، وهو شيء ورثوه من صفاء نفوس أسلافهم إبراهيم وإسحاق عليهم السّلام . فقد كانوا آل بيت نبوءة وصفاء سريرة .
ولمّا كانت رؤيا الأنبياء وَحْياً ، وقد رأى إبراهيم عليه السّلام في المنام أنّه يذبح وَلَد فلمّا أخبره { قال يا أبت افْعل ما تؤمَر } [ سورة الصافات : 102 ] . وإلَى ذلك يشير قول أبي يوسف عليه السّلام : { ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق } [ سورة يوسف : 6 ] . فلا جرم أن تكون مرائي أبنائهم مكاشفة وحديثاً ملكياً .
وفي الحديث : « لم يَبق من المبشرات إلاّ الرؤيا الصّالحة يراها المسلم أو ترى له » والاعتداد بالرؤيا من قديم أمور النبوءة . وقد جاء في التّوراة أن الله خاطب إبراهيم عليه السّلام في رؤيا رآها وهو في طريقه ببلاد شاليم بلد ملْكي صَادق وبشّره بأنه يهبه نسلاً كثيراً ، ويعطيه الأرض التي هو سائر فيها ( في الإصحاح 15 من سفر التكوين ) .
أما العرب فإنهم وإن لم يرد في كلامهم شيء يفيد اعتدادهم بالأحلام ، ولعل قول كعب بن زهير :
يفيد عدم اعتدادهم بالأحلام ، فإن الأحلام في البيت هي مرائي النوم .
ولكن ذكر ابن إسحاق رؤيا عبد المطلب وهو قائم في الحِجْر أنه أتاه آت فأمره بحفر بئر زمزم فوصَف له مكانها ، وكانت جرهم سَدَموها عند خروجهم من مكة .
وذكر ابن إسحاق رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب أن : راكباً أقبل على بعير فوقف بالأبطح ثم صرخ : يا آل غُدَر أُخرُجوا إلى مصارعكم في ثلاث فكانت وقعة بدر عقبها بثلاث ليال .
وقد عدت المرائي النوميّة في أصول الحكمة الإشراقية وهي من تراثها عن حكمة الأديان السّالفة مثل الحنيفية . وبالغ في تقريبها بالأصول النفسية شهاب الدّين الحكيم السهروردي في هياكل النور وحكمة الإشراق ، وأبو علي بن سينا في الإشارات بما حاصله : وأصله : أنّ النفس الناطقة ( وهي المعبّر عنها بالروح ) هي من الجواهر المجرّدة التي مَقرها العالم العلوي ، فهي قابلة لاكتشاف الكائنات على تفاوت في هذا القبول ، وأنّها تودع في جسم الجنين عند اكتمال طور المضغة ، وأنّ للنفس الناطقة آثاراً من الانكشافات إذا ظهرت فقد ينتقش بعضها بمدارك صاحب النفس في لوح حسّه المشترك ، وقد يصرفه عن الانتقاش شاغلان : أحدهما حِسّيّ خارجيّ ، والآخر باطنيّ عقليّ أو وهميّ ، وقوَى النفس متجاذبة متنازعة فإذا اشتدّ بعضُها ضعف البعضُ الآخر كما إذا هاج الغضب ضعفت الشهوة ، فكذلك إنْ تَجَرّدَ الحس الباطن للعمل شغل عن الحسّ الظاهر ، والنوم شاغل للحسّ ، فإذا قلّت شواغل الحواس الظاهرة فقد تتخلّص النفس عن شغل مخيلاتها ، فتطلّع على أمور مغيبة ، فتكونُ المنامات الصادقة .
والرؤيا الصادقةُ حالةٌ يكرم الله بها بعض أصْفيائه الذين زكت نفوسهم فتتّصل نفوسهم بتعلّقات من علم الله وتعلّقات من إرادته وقدرته وأمره التكوينيّ فتنكشف بها الأشياء المغيبة بالزّمان قبل وقوعها ، أو المغيبة بالمكان قبل اطلاع الناس عليها اطلاعاً عاديّاً ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم « الرؤيا الصالحة من الرّجل الصالح جزء من ستّة وأربعين جزءاً من النبوءة » . وقد بُيّن تحديد هذه النسبة الواقعة في الحديث في شروح الحديث . وقال : « لم يبق من النبوءة إلاّ المبشّرات وهي الرؤيا الصّالحة للرجل الصالح يراها أو ترى له » .
وإنّما شرطت المرائي الصادقة بالنّاس الصّالحين لأنّ الارتياض على الأعمال الصّالحة شاغل للنفس عن السيّئات ، ولأنّ الأعمال الصّالحات ارتقاءات وكمالات فهي معينة لجوهر النفس على الاتّصال بعالَمها الذي خلقت فيه وأنزلت منه ، وبعكس ذلك الأعمال السيّئة تبعدها عن مألوفاتها وتبلدها وتذبذبها .
منها أن : ترى صور أفعال تتحقّق أمثالها في الوجود مثل رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أنه يهاجر من مكّة إلى أرض ذات نخل ، وظنّه أنّ تلك الأرض اليمامة فظهر أنّها المدينة ، ولا شك أنّه لمّا رأى المدينة وجَدَها مطابقة للصّورة التي رآها ، ومثل رؤياه امرأة في سَرَقَة من حرير فقيل له اكشِفْها فهي زوجك فكشف فإذا هي عائشة ، فعلم أن سيتزوجها . وهذا النوع نادر وحالة الكشف فيه قوية .
ومنها أن ترى صُورٌ تكون رموزاً للحقائق التي ستحصل أو التي حصلت في الواقع ، وتلك من قبيل مكاشفة النفس للمعاني والمواهي وتشكيل المخيّلة تلك الحقائق في أشكال محسوسة هي من مظاهر تلك المعاني ، وهو ضرب من ضروب التشبيه والتمثيل الذي تخترعه ألباب الخطباء والشعراء ، إلاّ أنّ هذا تخترعه الألباب في حالة هدوّ الدمَاغ من الشواغل الشاغلة ، فيكون أتقن وأصدق .
وهذا أكثر أنواع المرائي . ومنه رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أنّه يشرب من قدح لَبن حتى رأى الريّ في أظفاره ثم أعطَى فضلَه عمرَ بن الخطّاب رضي الله عنه . وتعبيره ذلك بأنّه العلم .
وكذلك رؤياه امرأة سوداء ناشرة شَعَرَهَا خارجة من المدينة إلى الجحفة ، فعبّرها بالحمى تنتقل من المدينة إلى الجحفة ، ورئِيَ عبد الله بن سلام أنه في روضة ، وأنّ فيها عموداً ، وأنّ فيه عروة ، وأنّه أخذ بتلك العروة فارتقى إلى أعلى العمود ، فعبّره النبي صلى الله عليه وسلم بأنّه لا يزال آخذاً بالإيمان الذي هو العروة الوثقى ، وأنّ الروضة هي الجنّة ، فقد تَطابَق التمثيل النوميّ مع التمثيل المتعارف في قوله تعالى : { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } [ سورة البقرة : 256 ] ، وفي قول النبي : « ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة » وسيأتي تأويل هذه الرؤيا عند قوله تعالى : { وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل } [ سورة يوسف : 100 ] .