{ 33 - 36 } { وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } .
أي : { وَآيَةٌ لَهُمُ } على البعث والنشور ، والقيام بين يدي اللّه تعالى للجزاء على الأعمال ، هذه { الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ } أنزل اللّه عليها المطر ، فأحياها{[754]} بعد موتها ، { وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } : من جميع أصناف الزروع ، ومن جميع أصناف النبات ، التي تأكله أنعامهم .
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ألوانا من الأدلة الدالة على وحدانيته وقدرته ، وهذه الأدلة منها ما هو أرضى ، ومنها ما هو سماوى ، ومنه ما هو بحري ، وكلها تدل - أيضا - على فضله ورحمته ، قال - تعالى - :
{ وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة . . . } .
قال الإِمام الرازى ما ملخصه قوله : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا } وجه تعلقه بما قبله ، أنه - سبحانه - لما قال : { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } كان ذلك إشارة إلى الحشر ، فذكر ما يدل على إمكانه قطعا لإِنكارهم واستبعادهم ، وعنادهم فقال : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا . . . } أى : وكذلك نحيى الموتى . . .
والمراد بالآية هنا : العلامة والبرهان والدليل .
والمراد بالأرض الميتة : الأرض الجدباء التى لا نبات فيها .
والمراد بالحب : جنسه من حنطة وشعير وغيرهما .
أى : ومن العلامات الواضحة لهؤلاء المشركين على قدرتنا على إحياء الموتى ، أننا ننزل الماء على الأرض الجدباء ، فتهتز وتربو ، وتخرج ألوانا وأصنافا من الحبوب التى يعيشون عليها . ويأكلون منها .
وذكر - سبحانه - لفظ { آية } للإِشعار بأنها آية عظيمة ، كان ينبغى لهؤلاء المشركين أن يلتفتوا إليها ، لأنهم يشاهدون بأعينهم الأرض القاحلة السوداء ، كيف تتحول إلى أرض خضراء بعد نزول المطر عليها .
والله - تعالى - الذى قدر على ذلك ، قادر - أيضا - على إحياء الموتى وإعادتهم إلى الحياة .
وقوله : { أَحْيَيْنَاهَا } كلام مستأنف مبين لكيفية كون الأرض الميتة آية .
وقدم - سبحانه - الجار والمجرور فى قوله : { فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } للدلالة على أن الحَبَّ هو الشئ الذى تكون منه معظم المأكولات التى يعيشون عليها ، وأن قِلَّتَه تؤدى إلى القحط والجوع .
وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون ؛ وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب ، وفجرنا فيها من العيون ، ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم ، أفلا يشكرون ? سبحان الذي خلق الازواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون . .
إنهم يكذبون الرسل ، ولا يتدبرون مصارع المكذبين ، ولا يدركون دلالة كونهم يذهبون ولا يرجعون . والرسل إنما يدعونهم إلى الله . وكل ما في الوجود حولهم يحدثهم عن الله ، ويدل عليه ويشهد بوجوده . وهذه هي الأرض القريبة منهم ، يرونها ميتة لا حياة فيها ، ولا ماء ينشىء الحياة ، ثم يرونها حية تنبت الحب ، وتزدان بالجنات من نخيل وأعناب ، وتتفجر فيها العيون ، فتجري بالحياة حيث تجري .
والحياة معجزة لا تملك يد البشر أن تجريها ؛ إنما هي يد الله التي تجري المعجزات ، وتبث روح الحياة في الموات . وإن رؤية الزرع النامي ، والجنان الوارفة ، والثمر اليانع ، لتفتح العين والقلب على يد الله المبدعة ، وهي تشق التربة عن النبتة المتطلعة للحرية والنور ، وتنضر العود المستشرف للشمس والضياء ، وتزين الغصن اللدن بالورق والثمار ، وتفتح الزهرة وتنضج الثمرة ، وتهيئها للجني والقطاف . .
يقول تعالى : { وَآيَةٌ لَهُمُ } أي : دلالة لهم على وجود الصانع وقدرته التامة وإحيائه الموتى { الأرْضُ الْمَيْتَةُ } أي : إذا كانت ميتة هامدة لا شيء فيها من النبات ، فإذا أنزل الله عليها الماء اهتزت وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج ؛ ولهذا قال : { أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } أي : جعلناه رزقا لهم ولأنعامهم .
عطف على قصة { واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية } [ يس : 13 ] فإنه ضرب لهم مثلاً لحال إعراضهم وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وما تشتمل عليه تلك الحال من إشراك وإنكار للبعث وأذى للرسول صلى الله عليه وسلم وعاقبة ذلك كله . ثم أعقب ذلك بالتفصيل لإِبطال ما اشتملت عليه تلك الاعتقادات من إنكار البعث ومن الإِشراك بالله .
وابتدىء بدلالة تقريب البعث لمناسبة الانتقال من قوله : { وإن كُلٌّ لَما جَمِيعٌ لدينا مُحْضَرُون } [ يس : 32 ] على أن هذه لا تخلو من دلالتها على الانفراد بالتصرف ، وفي ذلك إثبات الوحدانية .
و { وءَايَةٌ } مبتدأ و { لَّهُمُ } صفة { آية } ، و { الأرْضُ } خبر { آية } ، و { المَيْتَةُ } صفة { الأرْضُ } . وجملة { أحْيَيْناهَا } في موضع الحال من { الأرْضُ } وهي حال مقيدة لأن إحياء الأرض هو مناط الدلالة على إمكان البعث بعد الموت ، أو يكون جملة { أحْيَيْناها } بياناً لجملة { آية لهم الأرض } لبيان موقع الآية فيها ، أو بدل اشتمال من جملة { آية لهم الأرض } ، أو استئنافاً بيانياً كأنّ سائلاً سأل : كيف كانت الأرض الميتة ؟
وموت الأرض : جفافها وجَرازتها لخلوّها من حياة النبات فيها ، وإحياؤها : خروج النبات منها من العشب والكلأ والزرع .
وقرأ نافع وأبو جعفر { المَيِّتَةُ } بتشديد الياء . وقرأ الباقون بتخفيف الياء ، والمعنى واحد وهما سواء في الاستعمال .
والحبّ : اسم جمع حبّة ، وهو بَزرة النبت مثل البُرّة والشعيرة . وقد تقدم عند قوله تعالى : { كمثل حبة أنبتت سبع سنابل } في سورة البقرة ( 261 ) .
وإخراج الحب من الأرض : هو إخراجه من نباتها فهو جاء منها بواسطة . وهذا إدماج للامتنان في ضمن الاستدلال ولذلك فرّع عليه { فَمِنْهُ يأكلون . } وتقديم { منه } على { يأكُلُونَ } للاهتمام تنبيهاً على النعمة ولرعاية الفاصلة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
وعظ كفار مكة فقال عز وجل: {وآية لهم}:علامة لهم.
{الأرض الميتة أحييناها} بالمطر فتنبت.
{وأخرجنا منها حبا}: البر والشعير الحبوب كلها {فمنه يأكلون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ودلالة لهؤلاء المشركين على قُدرة الله على ما يشاء، وعلى إحيائه من مات من خلقه وإعادته بعد فنائه، كهيئته قبل مماته إحياؤه الأرض الميتة، التي لا نبت فيها ولا زرع بالغيث الذي ينزله من السماء حتى يخرج زرعها، ثم إخراجه منها الحبّ الذي هو قوت لهم وغذاء، فمنه يأكلون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فيه آية يُحتاج إلى أن يستخرج منها الحكمة، وهو ما ذكر {وأخرجنا منها حبًّا فمنه يأكلون} أنه لما أخرج من الأرض حبا، وجعل غذاءهم فيه من غير أن يستوجبوا ذلك منه، دل أنه إنما جعل ليمتحنهم بأنواع المحن على علم منه أن منهم من يشكر، ومنهم من يكفر، وقد سوّى بينهم في هذه بين الكافر منهم وبين الشاكر، فلا بد من دار أخرى، فيها يقع التمييز بينهم: الثواب للشاكر، والعقاب للكافر.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لمَّا كان أمرُ البعث أعظمَ شُبَهِهِمْ، وكَثُرَ فيه إنكارُهم كان تكرارُ الله سبحانه لحديث البعث، وقد ضَرَبَ -سبحانه- المَثَلَ له بإحياء الأرض بالنبات في الكثير من الآيات...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} بتقديم الظرف للدلالة على أن الحب هو الشيء الذي يتعلق به معظم العيش، ويقوم بالارتزاق منه صلاح الإنس، وإذا قل جاء القحط ووقع الضرّ، وإذا فقد جاء الهلاك ونزل البلاء.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وآية}:علامة على الحشر وبعث الأجساد، والضمير في {لهم} يراد به كفار قريش...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{وآية لهم الأرض الميتة أحييناها} وبدأ بالأرض لأنها مستقرهم حركة وسكوناً، حياة وموتاً. وموت الأرض جدبها، وإحياؤها بالغيث.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وآية} أي: علامة عظيمة {لهم} على قدرتنا على البعث وإيجادنا له.
{الأرض} أي:هذا الجنس الذي هم منه، ثم وصفها بما حقق وجه الشبه فقال: {الميتة} التي لا روح لها؛ لأنه لا نبات بها أعم من أن يكون بها نبات وفني، فتفتت وصار تراباً أو لم يكن بها شيء أصلاً.
ثم استأنف بيان كونها آية بقوله: {أحييناها} أي:باختراع النبات فيها أو بإعادته بسبب المطر كما كان بعد اضمحلاله.
ولما كان إخراج الأقوات نعمة أخرى قال: {وأخرجنا منها حباً} ونبه تعالى على عظيم القدرة فيها وعلى عموم نفعها بمظهر العظمة، وزاد في التنبيه بالتذكير بأن الحب معظم ما يقيم الحيوان، فقال مقدماً للجار إشارة إلى عد غيره بالنسبة إليه عدماً لعظيم وقعه وعموم نفعه بدليل أنه متى قل جاء القحط ووقع الضرر.
{يأكلون} أي:فهو حب حقيقة يعلمون ذلك علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، لا يقدرون على أن يدعوا أن ذلك خيال سحري بوجه، وفي هذه الأية وأمثالها حث عظيم على تدبر القرآن واستخراج ما فيه من المعاني الدالة على جلال الله وكماله.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على قصة {واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية} [يس: 13] فإنه ضرب لهم مثلاً لحال إعراضهم وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وما تشتمل عليه تلك الحال من إشراك وإنكار للبعث وأذى للرسول صلى الله عليه وسلم وعاقبة ذلك كله. ثم أعقب ذلك بالتفصيل لإِبطال ما اشتملت عليه تلك الاعتقادات من إنكار البعث ومن الإِشراك بالله.
وابتدىء بدلالة تقريب البعث لمناسبة الانتقال من قوله: {وإن كُلٌّ لَما جَمِيعٌ لدينا مُحْضَرُون} [يس: 32] على أن هذه لا تخلو من دلالتها على الانفراد بالتصرف، وفي ذلك إثبات الوحدانية.
و {وءَايَةٌ} مبتدأ و {لَّهُمُ} صفة {آية}، و {الأرْضُ} خبر {آية}، و {المَيْتَةُ} صفة {الأرْضُ}. وجملة {أحْيَيْناهَا} في موضع الحال من {الأرْضُ} وهي حال مقيدة؛ لأن إحياء الأرض هو مناط الدلالة على إمكان البعث بعد الموت، أو يكون جملة {أحْيَيْناها} بياناً لجملة {آية لهم الأرض} لبيان موقع الآية فيها، أو بدل اشتمال من جملة {آية لهم الأرض}، أو استئنافاً بيانياً كأنّ سائلاً سأل: كيف كانت الأرض الميتة؟
وقرأ نافع وأبو جعفر {المَيِّتَةُ} بتشديد الياء. وقرأ الباقون بتخفيف الياء، والمعنى واحد وهما سواء في الاستعمال.
والحبّ: اسم جمع حبّة، وهو بَزرة النبت مثل البُرّة والشعيرة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {كمثل حبة أنبتت سبع سنابل} في سورة البقرة (261).
وإخراج الحب من الأرض: هو إخراجه من نباتها فهو جاء منها بواسطة. وهذا إدماج للامتنان في ضمن الاستدلال ولذلك فرّع عليه {فَمِنْهُ يأكلون.} وتقديم {منه} على {يأكُلُونَ} للاهتمام تنبيهاً على النعمة ولرعاية الفاصلة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تنكير {آية}، إشارة إلى عظمة وأهميّة ووضوح تلك الآية التوحيدية.
جملة {فمنه يأكلون} إشارة من جانب إلى أنّ الإنسان يستفيد من بعض بذور النباتات للتغذية، بينما بعضها غير قابل للأكل، ولكن له فوائد اُخرى كتغذية الحيوانات، وصناعة الأصباغ، والأدوية، والأمور الاُخرى التي لها أهميّة في حياة الإنسان. ومن جانب آخر فإنّ تقديم {منه} على {يأكلون} والذي يدلّ عادةً على الحصر، هو لبيان أنّ أكثر وأفضل تغذية للإنسان هي من المواد النباتية إلى درجة أنّه يمكن القول أنّ جميع غذاء الإنسان يتشكّل منها.