اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَءَايَةٞ لَّهُمُ ٱلۡأَرۡضُ ٱلۡمَيۡتَةُ أَحۡيَيۡنَٰهَا وَأَخۡرَجۡنَا مِنۡهَا حَبّٗا فَمِنۡهُ يَأۡكُلُونَ} (33)

قوله : { وَآيَةٌ } : خبر مقدم و { لَهُمْ } صفتها أو متعلقة «بآية » ؛ لأنها بمعنى :{[46109]} علامة . و { الأرض }مبتدأ{[46110]} . وتقدم تخفيف { الميتة } وتشديدها{[46111]} في أول ( آل ){[46112]} عمران{[46113]} .

ومنع أبو حيان أن يكون { لهم } صفة لآية ولم يبين{[46114]} وَجْهَهُ ولا وجه له ، وأعرب أبو البقاء { آية } مبتدأ و { لهم } الخبر و { الأرض الميتة } مبتدأ وصفته و { أَحْيَيْنَاها } خبره ، والجملة مفسرة «لآيةٍ »{[46115]} .

وبهذا بدأ ثم قال{[46116]} : وقيل ؛ فذكر الوجه الأول وكذلك حكى مَكِّيٌّ أعني أن تكون { آية } ابتداء{[46117]} و { لهم } الخبر ، وجوز مكي أيضاً أن تكون { آية } مبتدأ{[46118]} ، و{ الأرض } خبره ، وهذا ينبغي أن لا يجوز ؛ لأنه لا يُتْرَكُ المعرفة من الابتداء بها ويبتدأ بالنَّكِرَة إلاَّ في مَوَاضِعَ للضَّرُورَةِ{[46119]} .

قوله : { أحييناها } تقدم أنه يجوز أن يكون خبر{[46120]} { الأَرْضِ }ويجوز أيضاً أن يكون حالاً من { الأَرْضِ } ، إذا جعلناها مبتدأ و { آية } خبر{[46121]} مقدم . وجوز الزمخشري في { أَحْيَيْنَاهَا } وفي { نَسْلخُ } أن يكونا صفتين للأرض والليل ، وإن كانا معرفين بأل لأنه تعريف بأل الجنسيَّة فهما في قوة النكرة{[46122]} قال كقوله :

4180- وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[46123]}

لأنه لم يقصد لئيماً بعينه ، ورده أبو حيان بأن فيه هدماً للقواعد من أنّه لا تنعت المعرفة بنكرة{[46124]} . قال : وقد تبعه ابنُ مالك{[46125]} . ثم خرج أبو حيان الحمل على الحال أي : الأرض مُحْيَاةً والليل مُنْسَلِخاً منه النهار واللئيم شاتماً لي{[46126]} ، قال شهاب الدين : وقد اعتبر النحاة{[46127]} ذلك في مواضع فاعتبروا معنى المعرف بأل الجنسية دون لفظه فَوَصَفُوهُ بالنَّكرة الصَّرِيحَة ، نحو : يا لرجل خير منك على أحد الأوجه . وقوله : { إِلاَّ الذين } [ العصر : 3 ] بعد { إِنَّ الإنسان } [ العصر : 3 ] وقوله : { أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ } [ النور : 31 ] و «أهْلَكَ النَّاسُ الدِّينَارُ الحُمْرُ والدِّرْهَمُ البيضُ »{[46128]} . كل هذا ما روعي فيه المعنى دون اللفظ ، وإن اختلف نوع المراعاة ، ويجوز أن يكون { أحْيَيْنَاهَا } استئنافاً بين{[46129]} به كونَها آيةً .

فصل :

وجه التعلق بما قبله من وجهين :

أحدهما : أنه لما قال : { وإن كل لما جميع } كان ذلك ( إشارة ){[46130]} إلى الحشر فذكر ما يدل على إمكانه قطعاً لإنكارهم واستبعادهم وإصرارهم وعنادهم فقال : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا } كذلك يُحْيِي المَوْتَى{[46131]} .

وثانيهما : أنه لما ذكر حال المرسلين وإهلاك المكذِّبين وكان شُغْلُهم التوحيد ذكر ما يدل عليه وبدأ بالأرض لكونها مكانَهم لا مفارقة لهم منها عند الحركة{[46132]} والسكون .

فإن قيل : الأرض آية مطلقة فلم خصها بهم حيث قال : { وآيَةٌ لَهُمْ } ؟ .

فالجواب : الآية تعدد وتردد{[46133]} لمن لم يعرف الشيء بأبلغ الوجوه . أما من عرف الشيء بطريق الرؤية لا يذكر له دليل فالنبي - عليه

( الصلاة و السلام )- وعباد الله المخلصين عرفوا الله قبل الأرض والسماء ، فليست الأرض معرفة لهم وهذا كما قال الله تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ } [ فصلت : 53 ] وقال : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ فصلت : 53 ] يعني : أنت كفاك الله معرفاً به عرفت كل شيء فهو شهيدٌ لك على كل شيء . وأما هؤلاء نبين{[46134]} لهم الحق بالآفاق والنفس ، وكذلك ها هنا الأرض آية لهم ، فإن قيل : إن قُلْنا :الآية مذكورة للاستدلال على جَوَاز إحياء المَوْتَى فيكفي قوله : { أحْيَيْنَاهَا } ولا حاجة إلى قوله : { وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً } وغير ذلك وإن قلنا : إنه للاستدلال على وجود الإله ووحدانيته فلا فائدة في قوله : { الأرض الميتة } فقوله : { الميتة أَحْيَيْنَاهَا } كافٍ في التوحيد فما فائدة قوله : { وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً } ؟ فالجواب : هي مذكورة للاستدلال عليها ولكلّ ما ذكره الله تعالىً فائدة أما فائدة قوله : { وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّا } فهو بالنسبة إلى بيان إحياء الموتى ؛لأنه لما أحيا الأرض وأخرج منها حباً كان ذلك إحياء تامًّا ؛لأن الأرض المُخْضرَّة التي{[46135]} لا تنبت الزرع ولا تخرج الحَبَّ دون ما تنبته الحياةُ ، فكأنه تعالى قال : الذي أحيا الأرض إحياء كاملاً منبتاً للزّرع يحيي الموتى إحياء كاملاً بحيث يدري الأمور . وأما بالنسبة إلى التوحيد فلأن فيه تقرير النعمة ، كأنه يقول : آية لهم الأرضُ فإنها مكانُهم ومَهْدُهُم الذي فيه تحريكهم وإسكانهم والأمر الضروري الذي عنده وجودهم وإمكانهم وسواء كانت ميتة أو لم تكن فهي مكان لهم لا بد لهم منها في نعمة ثم إحياؤها نعمة ثانية فإنها تصير أحسن{[46136]} وأنزه ثم إخراج الحبِّ منها نعمة ثالثة فإن قوتهم تصير في مكانهم ، وكان يمكن أن يجعل رزقهم في السماء أو الهواء فلا يحصل لهم الوُثُوقُ ، ثم جعل الحياة منها نعمة رابعة لأن الأرض تنبت الحَبَّ في كل سنة والأشجار{[46137]} بحيث يوجد{[46138]} منها الثِّمار فيكون بعد الحبِّ وجوداً ثم فجر منها العيون ليحصل لهم الاعتمال بالحصول ولو كان ماؤها من السماء لحصل ولكن لم يعلم أنها أين تغرس{[46139]} وأين ( يقع ){[46140]} المطر .

فصل :

المعنى :{ أَحْيَيْنَاها } بالمطر { وأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا } يعني :الحِنْطَة والشعير وما أشبههما { فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } أي :من الحب .


[46109]:سقط من "ب".
[46110]:مشكل إعراب القرآن لمكي 2/226 وإعراب النحاس 3/393 والتبيان 1082. وما ذكره أعلى من كون "آية" خبرا مقدما والأرض مبتدأ مؤخرا هو قول أبي حيان في البحر 7/334 والسمين في الدر 4/514.
[46111]:فقد شدد أبو جعفر ونافع وخفف الباقون. السبعة 203 والإتحاف 364.
[46112]:سقطت من "ب".
[46113]:عند قوله: {وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي}. وقال هناك إنها بمعنى المشدد والمخفف وظن البعض أن المخفف يطلق على من مات والمشدد يطلق عليه وعلى من لم يمت. انظر: اللباب 1/350 ب.
[46114]:البحر المحيط 7/334.
[46115]:التبيان 1082.
[46116]:المرجع السابق.
[46117]:في "ب" مبتدأ.
[46118]:قاله في مشكل إعراب القرآن 2/226.
[46119]:بشرط أن تفيد وتحصل الفائدة بأحد أمور ذكرها ابن مالك في ستة أشياء وأوصلها غيره إلى نيف وثلاثين موضعا وأكثر من ذلك، فمن هذه المواضع أن يتقدم الخبر عليها وهو ظرف أو جار ومجرور نحو: في الدار وأن يتقدم عليها نفي نحو: ما خل لنا وأن توصف مثل: رجل من الكرام عندنا، وأن تكون عاملة نحو: رغبة فيا لخير خير، وأن تكون مضافة نحو: عمل بر يزين. وقد جمعها ابن مالك في قوله: ولا يجوز الابتداء بالنكرة ما لم تفد كعند زيد نمره وهل فتى فيكم؟ فما خل لنا ورجل من الكرام عندنا ورغبة في الخير خير وعمل بز يزين وليقس ما لم يقل وهناك مواضع أخرى، انظرها في شرح ابن عقيل على الألفية 97: 99.
[46120]:في قول أبي البقاء السابق.
[46121]:ذكره الإمام أبو حيان في بحره 7/334 ونقله عنه السمين في الدر 4/514.
[46122]:الكشاف 3/321 قال: "لأنه أريد بهما الجنسان مطلقين لا أرض وليل بأعيانهما فعوملا معاملة النكرات في وصفهما بالأفعال.
[46123]:صدر بيت من الكامل وعجزه: ....................... فمضيت ثمت قلت: لا يعنيني لرجل من سلول ويعزى لعميرة بن جابر الحنفي. وشاهده "اللئيم يسبني" حيث جعل جملة "يسبني" وصفا للئيم وهو معرف بأل لأنه مقصود به الجنس فلم يقصد لئيما بعينه فساوى النكرة وهو وصف في المعنى حال على اللفظ. وانظر: الكشاف 3/321 والكتاب 3/24 والخصائص 3/330 ودلائل الإعجاز 219 وابن الشجري 2/203 والمغني 102 وشرح شواهده للسيوطي 310 و 841 والتصريح 2/111 والهمع 1/9 و 2/40 والأشموني 1/180 و 3/60و63 ومعاني الأخفش 139 والدر المصون 4/514.
[46124]:البحر 7/334 و 335.
[46125]:قال في التسهيل : "المنعوت به مفردا أو جملة كالموصول بها منعوتها نكرة أو معرف بأل الجنسية" وانظر: التسهيل 167.
[46126]:بالمعنى من بحره 7/334 و 335.
[46127]:الدر المصون 4/515.
[46128]:فالذين في "العصر والنور" والحمر والبيض كلها صفات روعي فيها المعنى دون اللفظ.
[46129]:البحر والدر المصون المرجعان السابقان والكشاف 3/321 كما جعل الزمخشري: "نسلخ" استئنافا كذلك.
[46130]:سقط من "ب".
[46131]:ولذلك يقول الله: {إنا نحن نحيي ونميت وإلينا يرجعون}.
[46132]:انظر الفخر الرازي 26/65.
[46133]:في "ب" تسرد. وهو موافق لما في "ب" وهو الأصح.
[46134]:في "ب" والفخر: تبين.
[46135]:في (ب) السقي. وما في الفخر موافق لما هنا في "أ".
[46136]:وانظر: تفسير الإمام الفخر الرازي 26/68و 69.
[46137]:في الرازي: وأما الأشجار.
[46138]:وفيه: تؤخذ منها الثمار.
[46139]:كذا هي هنا وفي الرازي وفي "ب" : الغرس.
[46140]:سقط من "ب". وانظر: الرازي 26/66.