ولما ذكر فضائل هذه البيوت الكريمة ذكر ما جرى لمريم والدة عيسى وكيف لطف الله بها في تربيتها ونشأتها ، فقال : { إذ قالت امرأة عمران } أي : والدة مريم لما حملت { رب إني نذرت لك ما في بطني محررًا } أي : جعلت ما في بطني خالصا لوجهك ، محررا لخدمتك وخدمة بيتك { فتقبل مني } هذا العمل المبارك { إنك أنت السميع العليم } تسمع دعائي وتعلم نيتي وقصدي ، هذا وهي في البطن قبل وضعها .
ثم حكى سبحانه ما قالته امرأة عمران عندما أحست بعلامات الحمل فقال تعالى : { إِذْ قَالَتِ امرأت عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي } والظرف " إذا " في محل النصب على المفعولية بفعل محذوف والتقدير : أذر لهم وقت قولها رب إنى نذرت . . . ألخ . وقيل هو متعلق بقوله { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أى أنه - سبحانه - يعلم علم ما يسمع في الوقت الذي قالت فيه امرأة عمران ذلك القول .
وامرأة عمران هذه هى " حنة " بنت فاقوذا بن قنبل وهى أم مريم وجدة عيسى عليه السلام وعمران هذا هو زوجها ، وهو أبو مريم .
وقوله { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } من النذر وهو التزام التقرب إلى الله - تعالى - بأمر من جنس العبادات التي شرعها - سبحانه - لعباده ليتقربوا بها إليه .
وقوله { نَذَرْتُ } أى عتيقا مخلصا للعبادة متفرغا من شواغل الدنيا لخدمة بيتك المقدس . يقال : حررت العبد إذا خلصته من الرق وحررت الكتابة إذا أصلحته ولم تبق فيه شيئاً من وجوه الخطأ ، ورجل حر إذا كان خالصا لنفسه ليس لأحد عليه سلطان .
والمعنى : اذكر أيها العاقل لتعتبر وتتعظ وقت أن لجأت امرأة عمران إلى ربها تدعوه بضراعة وخشوع فتقول : يا رب إني نذرت لخدمة بيتك هذا الجنين الذى في بطني مخلصا لعبادتك متفرغا لطاعتك فتقبل منى هذا النذر الخالص ، وتلك النية الصادقة ، { إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } لقولي ولأقوال خلقك { العليم } بنيتى وبنوايا سائر عبادك .
فأنت ترى في هذا الدعاء الخاشع الذى حكاه القرآن عن امرأة عمران أسمى ألوان الأدب والإخلاص ، فقد توجهت إلى ربها بأعز ما تملك وهو الجنين الذى في بطنها ، ملتمسة منه - سبحانه - أن يقبل نذرها الذى وهبته لخدمة بيته ، واللام في قوله " لك " للتعليل أى نذرت لخدمة بيتك .
وقوله { مُحَرَّراً } حال من " ما " والعامل فيه " نذرت " .
قال بعضهم : " وكان هذا النذر يلزم في شريعتهم فكان المحرر عندهم إذا حرر جعل في الكنيسة يخدمها ولا يبرح مقيما فيها حتى يبلغ الحلم ، ثم يتخير فإن أحب ذهب حيث شاء ، وإن اختار الإقامة لا يجوز له بعد ذلك الخروج . ولم يكن أحد من أنبياء بنى إسرائيل وعلمائهم إلا ومن أولاده من حرر لخدمة بيت المقدس ولم يكن يحرر إلا العلمان ، ولا تصلح الجارية لخدمة بيت المقدس لما يصيبها من الحيض والأذى " . وجملة { إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } تعليلية لاستدعاء القبول ، من حيث أن علمه - سبحانه - بصحة نيتها وإخلاصها مستدع لقبول نذرها تفضلا منه وكرما .
ومن هذا الإعلان التمهيدي ينتقل السياق مباشرة إلى آل عمران ومولد مريم :
( إذ قالت امرأة عمران : رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم . فلما وضعتها قالت : رب : إني وضعتها أنثى - والله أعلم بما وضعت - وليس الذكر كالأنثى ، وإني سميتها مريم ؛ وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم . فتقبلها ربها بقبول حسن ، وأنبتها نباتا حسنا ، وكفلها زكريا . كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا . قال : يا مريم أنى لك هذا ؟ قالت : هو من عند الله ، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ) . .
وقصة النذر تكشف لنا عن قلب " امرأة عمران " - أم مريم - وما يعمره من إيمان ، ومن توجه إلى ربها بأعز ما تملك . وهو الجنين الذي تحمله في بطنها . خالصا لربها ، محررا من كل قيد ومن كل شرك ومن كل حق لأحد غير الله سبحانه . والتعبير عن الخلوص المطلق بأنه تحرر تعبير موح . فما يتحرر حقا إلا من يخلص لله كله ، ويفر إلى الله بجملته وينجو من العبودية لكل أحد ولك شيء ولكل قيمة ، فلا تكون عبوديته إلا لله وحده . . فهذا هو التحرر إذن . . وما عداه عبودية وإن تراءت في صورة الحرية !
ومن هنا يبدو التوحيد هو الصورة المثلى للتحرر . فما يتحرر إنسان وهو يدين لأحد غير الله بشيء ما في ذات نفسه ، أو في مجريات حياته ، أو في الأوضاع والقيم والقوانين والشرائع التي تصرف هذه الحياة . . لا تحرر وفي قلب الإنسان تعلق أو تطلع أو عبودية لغير الله . وفي حياته شريعة أو قيم أو موازين مستمدة من غير الله . وحين جاء الإسلام بالتوحيد جاء بالصورة الوحيدة للتحرر في عالم الإنسان . .
وهذا الدعاء الخاشع من امرأة عمران ، بأن يتقبل ربها منها نذرها - وهو فلذة كبدها - ينم عن ذلك الإسلام الخالص لله ، والتوجه إليه كلية ، والتحرر من كل قيد ، والتجرد إلا من ابتغاء قبوله ورضاه :
( رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني . إنك أنت السميع العليم ) . .
امرأة عمران هذه أم مريم [ بنت عمران ]{[4951]} عليها السلام{[4952]} وهي حَنَّة بنت فاقوذ ، قال محمد بن إسحاق : وكانت امرأة لا تحمل ، فرأت يوما طائرًا يَزُقُّ فرخه ، فاشتهت الولد ، فدعت الله ، عز وجل ، أن يهبها ولدا ، فاستجاب الله دعاءها ، فواقعها زوجها ، فحملت منه ، فلما تحققت الحمل نذرته أن يكون { مُحَرَّرًا } أي : خالصا مفرغا للعبادة ، ولخدمة بيت المقدس ، فقالت : { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } أي : السميع لدعائي ، العليم بِنيتي ، ولم تكن تعلم ما في بطنها أذكرا أم أنثى ؟
واختلف الناس{[3104]} في العامل في قوله { إذ قالت } فقال أبو عبيدة معمر : { إذ } زائدة ، وهذا قول مردود ، وقال المبرد والأخفش : العامل فعل مضمر تقديره ، اذكر إذ وقال الزجاج : العامل معنى الاصطفاء ، التقدير : واصطفى آل عمران إذ :
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا القول يخرج عمران من الاصطفاء ، وقال الطبري ما معناه : إن العامل في { إذ } قوله { سميع } و { امرأة عمران } اسمها حنة بنت قاذوذ فيما ذكر الطبري عن ابن إسحاق ، وهي أم مريم بنت عمران ، ومعنى قوله : { نذرت لك ما في بطني محرراً } أي جعلت نذراً أن يكون هذا الولد الذي في بطني حبيساً على خدمة بيتك محرراً من كل خدمة وشغل من أشغال الدنيا ، أي عتيقاً من ذلك فهو من لفظ الحرية ، ونصبه على الحال ، قال مكي : فمن نصبه على النعت لمفعول محذوف يقدره ، غلاماً محرراً ، وفي هذا نظر{[3105]} ، والبيت الذي نذرته له هو بيت المقدس .
قال ابن إسحاق{[3106]} : كان سبب نذر حنة لأنها كانت قد أمسك عنها الولد حتى أسنت فبينما هي في ظل شجرة إذ رأت طائراً يزق فرخاً له فتحركت نفسها للولد فدعت الله أن يهب لها ولداً فحملت بمريم وهلك عمران ، فلا علمت أن في بطنها جنيناً جعلته نذيرة لله ، أن يخدم الكنيسة لا ينتفع به في شيء من أمر الدنيا ، وقال مجاهد : { محرراً } معناه خادماً للكنيسة وقال مثله الشعبي وسعيد بن جبير ، وكان هذا المعنى من التحرير للكنائس عرفاً في الذكور خاصة ، وكان فرضاً على الأبناء التزام ذلك{[3107]} ، فقالت { ما في بطني } ولم تنص على ذكورته لمكان الإشكال ، ولكنها جزمت الدعوة رجاء منها أن يكون ذكراً ، وتقبل الشيء وقبوله أخذه حيث يتصور الأخذ والرضى به في كل حال ، فمعنى قولها { فتقبل مني } أي ارضَ عني في ذلك واجعله فعلاً مقبولاً مجازى به ، والسميع ، إشارة إلى دعائها العليم إشارة إلى نيتها .
تقدم القول في موقع إذ في أمثال هذا المقام عند تفسير قوله تعالى : { وإذ قال ربك للملائكة إنيّ جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] . وموقعها هنا أظهر في أنها غير متعلقة بعامل ، فهي لمجرد الاهتمام بالخبر ولذا قال أبو عبيدة : إذ هنا زائدة ، ويجوز أن تتعلق باذكر محذوفاً ، ولا يجوز تعلقها باصطفى : لأنّ هذا خاص بفضل آل عمران ، ولا علاقة له بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم .
وامرأة عمران هي حَنَّة بنت فاقوذا . قيل : مات زوجها وتركها حبلى فنذرت حَبَلَها ذلك محرّراً أي مخلَّصاً لخدمة بيت المقدس ، وكانوا ينذرون ذلك إذا كان المولود ذكراً . وإطلاق المحرّر على هذا المعنى إطلاق تشريف لأنّه لما خلص لخدمة بيت المقدس فكأنّه حُرر من أسر الدنيا وقيودها إلى حرية عبادة الله تعالى . قيل : إنّها كانت تظنّه ذكراً فصدر منها النذر مطلقاً عن وصف الذكورة وإنّما كانوا يقولون : إذا جاء ذكراً فهو محرّر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إذ قالت امرأت عمران}: وهي أم مريم، وهي حبلى، لئن نجاني الله عز وجل ووضعت ما في بطني، لأجعلنه محررا، والمحرر: الذي لا يعمل للدنيا... ويعمل للآخرة، ويلزم المحراب: فيعبد الله عز وجل فيه، ولم يكن يحرر في ذلك الزمان إلا الغلمان، فقال زوجها: أرأيت إن كان الذي في بطنك أنثى؟ كيف تصنعين؟ فاهتمت لذلك، فقالت: {رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم} لدعائهما، العليم بنذرهما، يعنى بالتقبل والاستجابة لدعائهما...
قوله تعالى: {إني نذرت لك ما في بطني محررا} [آل عمران: 35]. 213- ابن العربي: قال أشهب عن مالك: جعلته نذرا تفي به...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{إذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا فَتَقَبّلْ مِنّي}: ف«إذْ» من صلة «سميع». وأما امرأة عمران، فهي أمّ مريم ابنة عمران أم عيسى ابن مريم صلوات الله عليه، فأما زوجها فإنه عمران. {رَبّ إنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطنِي مُحَرّرا}: إني جعلت لك يا ربّ نذرا أن لك الذي في بطني محرّرا لعبادتك، يعني بذلك: حبسته على خدمتك وخدمة قدسك في الكنيسة، عتيقة من خدمة كل شيء سواك، مفرغة لك خاصة. وكانوا إنما يحرّرون الذكور، فكان المحرّر إذا حرر جعل في الكنيسة لا يبرحها، يقوم عليها ويكنسها. {فَتَقَبّلْ مِنّي}: فتقبل مني ما نذرت لك يا ربّ. {إِنّكَ أَنْتَ السّمِيعُ العّلِيمُ}: إنك أنت يا ربّ السميع لما أقول وأدعو، العليم لما أنوي في نفسي وأريد، لا يخفى عليك سرّ أمري وعلانيته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا} لما أخبر جل وعلا أنه اصطفى آل عمران، واختارهم على سائر العالمين، وكان أقل ما في صفوته واختياره أن جعلت امرأة عمران ما في بطنها محررا، والمحرر هو العتيق عن المعاش بالعبادة،... المحرر: هو الذي يعبد الله خالصا مطيعا، لا يشغله شيء عن عبادته فارغا لذلك، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه... الواجب على كل أحد أنه إذا طلب ولدا أن يطلب للوجه الذي طلبت المرأة عمران وزكريا حين {قال رب هب لي من لدنك ذرية طبية} [آل عمران: 38] وما سأل إبراهيم عليه السلام: {رب هب لي من الصالحين} [الصافات: 100] كقوله: {ربنا هب لنا من أزواجنا وذريتنا} الآية [الفرقان: 74]...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لما قالت {إني نَذَرْتُ لَكَ مَا في بطني مُحَرَّرًا} قالت {فَتَقَبَّلْ مِنِّى} فاستجاب، وظهرت آثار القبول عليها وعلى ابنها، ونجا بحديثها عَالَمٌ وَهَلَكَ بسببها عَالَمٌ، ووقعت الفتنة لأجلهما في عَالَم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والبيت الذي نذرته له هو بيت المقدس...
فقالت {ما في بطني} ولم تنص على ذكورته لمكان الإشكال، ولكنها جزمت الدعوة رجاء منها أن يكون ذكراً، وتقبل الشيء وقبوله أخذه حيث يتصور الأخذ والرضى به في كل حال، فمعنى قولها {فتقبل مني} أي ارضَ عني في ذلك واجعله فعلاً مقبولاً مجازى به، والسميع، إشارة إلى دعائها العليم إشارة إلى نيتها...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان جل المقصود هنا بيان الكرامات في آل عمران لا سيما في الولادة، وكان آدم الممثل به عليه الصلاة والسلام قد تقدم بيان أمره في سورة البقرة سورة الكتاب المثمر للعلم، وكذا بيان كثير مما اصطفى به إبراهيم وآله عليهم الصلاة والسلام إذ كان معظم القصد بالكلام لذريته، وكان معظم المقصود من ذكر نوح عليه الصلاة والسلام كونه في عمود النسب، وليس في أمر ولادته ما هو خارج عن العادة قال طاوياً لمن قبل: {إذ} أي اذكر جواباً لمن يجادلك في أمرهم ويسألك عن حالهم حين {قالت امرأة عمران} وهي حامل.
وقال الحرالي: لما كان من ذكر في الاصطفاء إنما ذكر توطئة لأمر عيسى عليه الصلاة والسلام اختص التفصيل بأمر عيسى عليه الصلاة والسلام دون سائر من ذكر معه، وكان في هذه المناظرة بين الصورتين حظ من التكافؤ من حيث ذكر أمر خلق آدم عليه الصلاة والسلام في سورة البقرة، فذكر خلق المثل المناظر له في السورة المناظرة لسورة البقرة وهي هذه السورة، فعاد توقيت هذا القول إلى غاية هذا الاصطفاء، فأنبأ عن ابتداء ما اختص منه بعيسى عليه الصلاة والسلام من قول أم مريم امرأة عمران حين أجرى على لسانها وأخطر بقلبها أن تجعل ما في بطنها نذراً، ففصل ما به ختم من اصفطاء آل عمران، ولذلك عرفت أم مريم في هذا الخطاب بأنها امرأة عمران ليلتئم التفصيل بجملته السابقة {رب إني نذرت لك ما في بطني} وكان نذر الولد شائعاً في بني إسرائيل إلا أنه كان عندهم معهوداً في الذكور لصلاحهم لسدانة بيت الله والقيام به، فأكمل الله سبحانه وتعالى مريم لما كمل له الرجال -كما قال عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع "فذكر مريم بنت عمران عليها السلام، فكان من كمالها خروج والدتها عنها، وكان أصله من الأم التي لها الإشفاق، فكان خروجها أكمل من خروج الولد لأنها لها في زمن الحمل والرضاع والتربية إلى أن يعقل الولد أباه فحينئذ يترقى إلى حزب أبيه، ولذلك- والله سبحانه وتعالى أعلم -أري إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذبح ولده عند تمييزه، وخرجت امرأة عمران عن حملها وهو في بطنها حين ما هو أعلق بها- انتهى. ونذرته لله تعالى حال كونه {محرراً} أي لا اعتراض ولا حكم لأحد من الخلق عليه، قال الحرالي: والتحرير طلب الحرية، والحرية رفع اليد عن الشيء من كل وجه، وفي الإتيان بصيغة التكثير والتكرير إشعار بمضي العزيمة في قطع الولاية عنه بالكلية لتسلم ولايته لله تعالى -انتهى. {فتقبل مني} ولما كان حسن إجابة المهتوف به الملتجأ إليه على حسب إحاطة سمعه وعلمه عللت سؤالها في التقبل بأن قصرت السمع والعلم عليه سبحانه فقالت: {إنك أنت} أي وحدك {السميع العليم} فقالت كما قال سلفها إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام {ربنا تقبل منا} [البقرة: 127]، أي فلا يسمع أحد قولي مثل سمعك، ولا يعلم أحد نيتي مثل علمك ولا أنا، فإن كان فيهما شيء لا يصلح فتجاوز عنه..
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقصة النذر تكشف لنا عن قلب "امرأة عمران "-أم مريم- وما يعمره من إيمان، ومن توجه إلى ربها بأعز ما تملك. وهو الجنين الذي تحمله في بطنها. خالصا لربها، محررا من كل قيد ومن كل شرك ومن كل حق لأحد غير الله سبحانه. والتعبير عن الخلوص المطلق بأنه تحرر تعبير موح. فما يتحرر حقا إلا من يخلص لله كله، ويفر إلى الله بجملته وينجو من العبودية لكل أحد ولك شيء ولكل قيمة، فلا تكون عبوديته إلا لله وحده.. فهذا هو التحرر إذن.. وما عداه عبودية وإن تراءت في صورة الحرية!... ومن هنا يبدو التوحيد هو الصورة المثلى للتحرر. فما يتحرر إنسان وهو يدين لأحد غير الله بشيء ما في ذات نفسه، أو في مجريات حياته، أو في الأوضاع والقيم والقوانين والشرائع التي تصرف هذه الحياة.. لا تحرر وفي قلب الإنسان تعلق أو تطلع أو عبودية لغير الله. وفي حياته شريعة أو قيم أو موازين مستمدة من غير الله. وحين جاء الإسلام بالتوحيد جاء بالصورة الوحيدة للتحرر في عالم الإنسان...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ومعنى هذا أنها التزمت بأن تقدم جنينها ووليدها، الذي هو فلذة كبدها، إلى المعبد، هبة لله، وقربة إليه ابتغاء مرضاته، وذلك لما هي عليه من التقوى والنسك والتجرد لله، غير أن في تعبيرها كلمة جديرة بالتعليق ولفت النظر، ألا وهي كلمة (محررا) بعد قولها {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي} فهذه الكلمة تعني عزم امرأة عمران بنية صادقة على أن تجعل جنينها ووليدها (محررا) من كل التكاليف العادية، والالتزامات العائلية واليومية، حتى يكرس حياته كلها لعبادة الله دون شاغل يشغله، لا من أمر نفسه ولا من أمر عائلته، كما تعني هذه الكلمة أن امرأة عمران تتمنى على الله أن يكون جنينها ووليدها عبدا خالصا لله، محررا من كل رق أو خضوع لسواه، بحيث لا يسلم وجهه إلا إليه، ولا يعتمد إلا عليه، إذ إن التعبد لله على وجهه الصحيح هو التحرر الكامل، نفسيا وأخلاقيا...