فوصل إلى ما بين السدين ، وهما سدان ، كانا سلاسل جبال معروفين في ذلك الزمان ، سدا بين يأجوج ومأجوج وبين الناس ، وجد من دون السدين قوما ، لا يكادون يفقهون قولا ، لعجمة ألسنتهم ، واستعجام أذهانهم وقلوبهم ، وقد أعطى الله ذا القرنين من الأسباب العلمية ، ما فقه به ألسنة أولئك القوم وفقههم ، وراجعهم ، وراجعوه ، فاشتكوا إليه ضرر يأجوج ومأجوج ، وهما أمتان عظيمتان من بني آدم فقالوا : { إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ْ } .
أى : ثم بعد أن بلغ مغرب الشمس ومشرقها . . . سار فى طريق ثالث معترض بين المشرق والمغرب ، آخذا فيه { حتى إِذَا بَلَغَ } فى مسيره ذلك { بين السدين } أى : الجبلين ، وسمى الجبل سدا ، لأنه سد فجا من الأرض .
قالوا : والسدان هما جبلان من جهة أرمينية وأذربيجان ، وقيل هما فى نهاية أرض الترك مما يلى المشرق :
{ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا } أى : من دون السدين ومن ورائهما { قوما } أى : أمة من الناس لغتهم لا تكاد تعرف لبعدهم عن بقية الناس ، ولذا قال - سبحانه - .
{ لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } أى : لا يكاد هؤلاء القوم يفهمون أو يقرءون ما يقوله الناس لهم ، لغرابة لغتهم وقلة فطنتهم ، ولا يعرف الناس - أيضا - ما يقوله هؤلاء القوم لهم ، لشدة عجمتهم .
( حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا . قالوا : يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض ، فهل نجعل لك خرجا على أن نجعل بيننا وبينهم سدا ? قال : ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما . آتوني زبر الحديد . حتى إذا ساوى بين الصدفين قال : انفخوا . حتى إذا جعله نارا قال : آتوني أفرغ عليه قطرا . فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا . قال : هذا رحمة من ربي ، فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء ، وكان وعد ربي حقا ) .
ونحن لا نستطيع أن نجزم بشيء عن المكان الذي بلغ إليه ذو القرنين ( بين السدين ) ولا ما هما هذان السدان . كل ما يؤخذ من النص أنه وصل إلى منطقة بين حاجزين طبيعيين ، أو بين سدين صناعيين . تفصلهما فجوة أو ممر . فوجد هنالك قوما متخلفين : ( لا يكادون يفقهون قولا ) .
{ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } وهما جبلان متناوحان بينهما ثُغْرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك ، فيعيثون فيهم فسادًا ، ويهلكون الحرث والنسل ، ويأجوج ومأجوج من سلالة آدم ، عليه السلام ، كما ثبت في الصحيحين : " إن الله تعالى يقول : يا آدم . فيقول : لبيك وسعديك . فيقول : ابعث بَعْثَ النار . فيقول : وما بَعْثُ النار ؟ فيقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار ، وواحد إلى الجنة ؟ فحينئذ يشيب الصغير ، وتضع كل ذات حمل حملها ، فيقال : إن فيكم أمّتين ، ما كانتا في شيء إلا كثرتاه : يأجوج ومأجوج " {[18483]} .
وقد حكى النووي{[18484]} ، رحمه الله ، في شرح " مسلم " عن بعض الناس : أن يأجوج ومأجوج خلقوا من مني خرج من آدم فاختلط بالتراب ، فخلقوا من ذلك{[18485]} فعلى هذا يكونون مخلوقين من آدم ، وليسوا من حواء . وهذا قول غريب جدًا ، [ ثم ]{[18486]} لا دليل عليه لا من عقل ولا [ من ]{[18487]} نقل ، ولا يجوز الاعتماد هاهنا على ما يحكيه بعض أهل الكتاب ، لما عندهم من الأحاديث{[18488]} المفتعلة ، والله أعلم .
وفي مسند{[18489]} الإمام أحمد ، عن سَمُرَة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " وَلَدُ نوح ثلاثة : سام أبو العرب ، وحام أبو السودان ، ويافث أبو الترك " {[18490]} . قال بعض العلماء : هؤلاء من نسل يافث أبي الترك ، قال : [ إنما{[18491]} سموا هؤلاء تركًا ؛ لأنهم تركوا من وراء السد من{[18492]} هذه الجهة ، وإلا فهم أقرباء أولئك ، ولكن كان في أولئك بغي وفساد وجراءة{[18493]} . وقد ذكر ابن جرير هاهنا عن وهب بن منبه أثرًا طويلا عجيبًا في سير ذي القرنين ، وبنائه السد ، وكيفية ما جرى له ، وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم وصفاتهم ، [ وطولهم ]{[18494]} وقصر بعضهم ، وآذانهم{[18495]} . وروى ابن أبي حاتم أحاديث غريبة في ذلك لا تصح{[18496]} أسانيدها ، والله أعلم .
وقوله : { وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا } [ أي ]{[18497]} : لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس .
{ حتى إذا بلغ بين السّدّين } بين الجبلين المبني بينهما سده وهما جبلا أرمينية وأذربيجان . وقيل جبلان منيفان في أواخر الشمال في منقطع أرض الترك من ورائهما يأجوج ومأجوج . وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب " بين السُّدَّيْنِ " بالضم وهما لغتان . وقيل المضموم لما خلقه الله تعالى والمفتوح لما عمله الناس لأنه في الأصل مصدر سمي به حدث يحدثه الناس . وقيل بالعكس وبين ها هنا مفعول به وهو من الظروف المتصرفة . { وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا } لغرابة لغتهم وقلة فطنتهم . وقرأ حمزة والكسائي " لا يفقهون " أي لا يفهمون السامع كلامهم ولا يبينونه لتلعثمهم فيه .
السدّ بضم السين وفتحها : الجبل . ويطلق أيضاً على الجدار الفاصل ، لأنه يسد به الفضاء ، وقيل : الضم في الجبل والفتح في الحاجز .
وقرأه نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وأبو جعفر ، وخلف ، ويعقوب بضم السين وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم بفتح السين على لغة عدم التفرقة .
والمراد { بالسدين } هنا الجبلان ، وبالسد المفرد الجدار الفاصل ، والقرينة هي التي عيّنت المراد من هذا اللفظ المشترك .
وتعريف { السَّدَّيْنِ } تعريف الجنس ، أي بين سدّين معينين ، أي اتبع طريقاً آخر في غزوه حتى بلغ بين جبلين معلومين .
ويظهر أن هذا السبب اتّجه به إلى جهة غير جهتي المغرب والمشرق ، فيحتمل أنها الشمال أو الجنوب . وعينه المفسّرون أنه للشمال ، وبنوا على أن ذا القرنين هو إسكندر المقدوني ، فقالوا : إن جهة السدّين بين ( أرمينيا وأذربيجان ) . ونحن نبني على ما عيّناه في الملقب بذي القرنين ، فنقول : إن موضع السدين هو الشمال الغربي لصحراء ( قوبِي ) الفاصلة بين الصين وبلاد المغول شمال الصين وجنوب ( منغوليا ) . وقد وجد السد هنالك ولم تزل آثارهُ إلى اليوم شاهدَها الجغرافيون والسائحون وصورت صوراً شمسية في كتب الجغرافيا وكتب التاريخ العصرية .
ومعنى { لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } أنهم لا يعرفون شيئاً من قول غيرهم فلغتهم مخالفة للغات الأمم المعروفة بحيث لا يعرفها تراجمة ذي القرنين لأن شأن الملوك أن يتخذوا تراجمة ليترجموا لغات الأمم الذين يحتاجون إلى مخاطبتهم ، فهؤلاء القوم كانوا يتكلمون بلغة غريبة لانقطاع أصقاعهم عن الأصقاع المعروفة فلا يوجد من يستطيع إفهامهم مراد الملك ولا هم يستطيعون الإفهام .
ويجوز أن يكون المعنى أنهم قوم متوغلون في البداوة والبلاهة فلا يفهمون ما يقصده من يخاطبهم .
وقرأ الجمهور { يَفْقَهُونَ } بفتح الياء التحتية وفتح القاف أي لا يفهمون قول غيرهم . وقرأ حمزة ، والكسائي بضم الياء وكسر القاف أي لا يستطيعون إفهام غيرهم قولهم . والمعنيان متلازمان . وهذا كما في حديث الإيمان : « نسمع دويّ صوته ولا نفهم ما يقول » .
وهؤلاء القوم مجاورون ياجوج وماجوج ، وكانوا أضعف منهم فسألوا ذا القرنين أن يقيهم من فساد ياجوج وماجوج . ولم يذكر المفسرون تعيين هؤلاء القوم ولا أسماء قبيلهم سوى أنهم قالوا : هم في منقطع بلاد الترك نحو المشرق وكانوا قوماً صالحين فلا شك أنهم من قبائل بلاد الصين التي تتاخم بلاد المغول والتّتر .