قال الله تعالى فاصلا بين الفريقين { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا } أي : يخلطوا { إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } الأمن من المخاوفِ والعذاب والشقاء ، والهدايةُ إلى الصراط المستقيم ، فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقا ، لا بشرك ، ولا بمعاص ، حصل لهم الأمن التام ، والهداية التامة . وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده ، ولكنهم يعملون السيئات ، حصل لهم أصل الهداية ، وأصل الأمن ، وإن لم يحصل لهم كمالها . ومفهوم الآية الكريمة ، أن الذين لم يحصل لهم الأمران ، لم يحصل لهم هداية ، ولا أمن ، بل حظهم الضلال والشقاء .
ثم بين - سبحانه - من هو الفريق الأحق بالأمن فقال - تعالى - :
{ الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } أى : الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بأى لون من ألوان الشرك كما يفعله فريق المشركين حيث إنهم عبدوا الأصنام وزعموا أنهم ما عبدوها إلا ليتقربوا بها إلى الله زلفى ، أولئك المؤمنون الصادقون لهم الأمن دون غيرهم لأنهم مهتدون إلى الحق وغيرهم فى ضلال مبين .
هذا وقد وردت أحاديث صحيحة فسرت الظلم فى هذه الآية بالشرك ، ومن ذلك ما رواه البخارى ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت { الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } قال الصحابة : وأينا لم يظلم نفسه ؟ فنزلت { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية { الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } شق ذلك على الناس فقالوا يا رسول الله : " فأينا لا يظلم نفسه ؟ قال : " إنه ليس الذى تعنون . ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح ( إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) ، إنما هو الشرك " .
قال الإمام الرازى : والدليل على أن هذا هو المراد أن هذه القصة من أولها إلى آخرها إنما وردت فى نفى الشركاء والأضداد والأنداد ، وليس فيها ذكر الطاعات والعبادات فوجب حمل الظلم ها هنا على ذلك " .
وقد فسر الزمخشرى فى كشافه الظلم بالمعصية فقال : { الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } أى لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم ، وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس . أى : لأن لبس الإيمان بالشرك أى خلطه به مما لا يتصور لأنهما ضدان لا يجتمعان فى رأى الزمخشرى .
قال الشيخ القاسمى : وفهم الزمخشرى هذا مدفوع بأنه يلابسه ، لأنه إن أريد بالإيمان مطلق التصديق سواء كان باللسان أو غيره فظاهر أنه يجامع الشرك كالمنافق . وكذا إن أريد تصديق القلب لجواز أن يصدق بوجود الصانع دون وحدانيته لما فى قوله - تعالى - { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } ولو أريد التصديق بجميع ما يجب التصديق به بحيث يخرج عن الكفر ، فلا يلزم من لبس الإيمان بالكفر الجمع بينهما ، بحيث يصدق عليه أنه مؤمن ومشرك ، بل تغطيته بالكفر وجعله مغلوبا مضمحلا ، أو اتصافه بالإيمان ثم الكفر ، ثم الإيمان ثم الكفر مراراً " .
وقال صاحب الانتصاف : " وإنما يروم الزمخشرى بذلك تنزيل الآية على معتقدة فى وجوب وعيد العصاة وأنهم لاحظ لهم فى الأمن كالكفار . ويجعل هذه الآية تقتضى تخصيص الأمن بالجامعين بين الأمرين : الإيمان والبراءة من المعاصى . ونحن نسلم ذلك ولا يلزم أن يكون الخوف اللاحق للعصاة هو الخوف اللاحق للكفار ، لأن العصاة من المؤمنين إنما يخافون العذاب المؤقت وهم آمنون من الخلود ، وأما الكفار فغير آمنين بوجه ما " .
والذى نراه أنه ما دام قد ورد عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح أنه قد فسر الظلم فى الآية بالشرك فيجب أن نسلم به وأن نعض عليه بالنواجذ ، واجتهاد الزمخشرى هنا - لتأييد مذهبه - مجانب للصواب ، لأنه لا اجتهاد مع النص . لا سيما وأن حديث عبد الله بن مسعود المتقدم قد خرجه الشيخان وغيرهما من أعلام السنة .
قال الله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } أي : هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك ، له ، ولم يشركوا به شيئا هم الآمنون يوم القيامة ، المهتدون في الدنيا والآخرة .
قال البخاري : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا ابن أبي عَدِيّ ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : لما نزلت { وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } قال أصحابه : وأينا لم يظلم نفسه ؟ فنزلت : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ]{[10928]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عَلْقَمَة ، عن عبد الله قال : لما نزلت هذه الآية : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } شق ذلك على الناس{[10929]} وقالوا : يا رسول الله ، فأينا لا يظلم نفسه ؟{[10930]} قال : " إنه ليس الذي تعنون ! ألم تسمعوا{[10931]} ما قال العبد الصالح : { يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } إنما هو الشرك " {[10932]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وكيع وابن إدريس ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : لما نزلت : { وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا : وأينا لم يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس كما تظنون ، إنما قال [ لقمان ]{[10933]} لابنه : { يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }{[10934]}
وحدثنا عمر بن شَبَّةَ النمري ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } قال : " بشرك " .
قال : ورُوي عن أبي بكر الصديق ، وعمر ، وأُبيّ بن كعب ، وسلمان ، وحذيفة ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعمرو بن شرحبيل ، وأبي عبد الرحمن السُّلَمِي ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ، والنَّخَعِي ، والضحاك ، وقتادة ، والسُّدِّي نحو ذلك .
وقال ابن مَرْدُوَيه : حدثنا الشافعي ، حدثنا محمد بن شَدَّاد المِسْمَعِيّ ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : لما نزلت : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قيل لي : أنت منهم " {[10935]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن يوسف ، حدثنا أبو جَناب ، عن زاذان ، عن جرير بن عبد الله قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلما برزنا من المدينة ، إذا راكب يوضع نحونا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كأن هذا الراكب إياكم يريد " . فانتهى إلينا الرجل ، فسلم فرددنا عليه{[10936]} فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " من أين أقبلت ؟ " قال : من أهلي وولدي وعشيرتي . قال : " فأين تريد ؟ " ، قال : أريدُ رسول الله . قال : " فقد أصبته " . قال : يا رسول الله ، علمني ما الإيمان ؟ قال : " تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت " . قال : قد أقررت . قال : ثم إن بعيره دخلت يده في جحر جُرْذَان ، فهوى بعيره وهوى الرجل ، فوقع على هامته فمات ، فقال النبي{[10937]} صلى الله عليه وسلم : " علي بالرجل " . فوثب إليه عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان فأقعداه ، فقالا يا رسول الله ، قبض الرجل ! قال : فأعرض عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما رأيتما إعراضي عن الرجل ، فإني رأيت ملكين يدسان في فيه من ثمار الجنة ، فعلمت أنه مات جائعا " ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا من الذين قال الله ، عَزَّ وجل : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ }{[10938]} ثم قال : " دونكم أخاكم " . قال : فاحتملناه إلى الماء فغسلناه وحنطناه وكفناه ، وحملناه إلى القبر ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس على شَفِير القبر فقال : " الحدوا ولا تشقوا ، فإن اللحد لنا والشق لغيرنا " {[10939]}
ثم رواه أحمد عن أسود بن عامر ، عن عبد الحميد بن جعفر الفراء ، عن ثابت ، عن زاذان ، عن جرير بن عبد الله ، فذكر نحوه ، وقال فيه : " هذا ممن عَمل قليلا وأجر كثيرًا " {[10940]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يوسف بن موسى القطان ، حدثنا مِهْران بن أبي عمر ، حدثنا علي بن عبد الأعلى{[10941]} عن أبيه ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير{[10942]} ساره ، إذ عرض له أعرابي فقال : يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق ، لقد خرجت من بلادي وتلادي ومالي لأهتدي بهداك ، وآخذ من قولك ، وما بلغتك حتى ما لي طعام إلا من خَضِر الأرض ، فاعْرِضْ عَلَيّ . فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقبل فازدحمنا حوله ، فدخل خف بَكْره في بيت جُرْذَان ، فتردى الأعرابي ، فانكسرت عنقه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدق والذي بعثني بالحق ، لقد خرج من بلاده وتلاده وماله ليهتدي بهداي ويأخذ من قولي ، وما بلغني حتى ما له طعام إلا من خضر الأرض ، أسمعتم بالذي عمل قليلا وأجر كثيرا هذا منهم ! أسمعتم بالذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ؟ فإن هذا منهم " {[10943]} [ وروى ابن مَرْدُوَيه من حديث محمد ابن معلى - وكان نزل الري - حدثنا زياد بن خيثمة عن أبي داود عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أعطي فشكر ومنع فصبر وظلم فاستغفر وظلم فغفر " وسكت ، قالوا : يا رسول الله ما له ؟ قال " : { أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } ]{[10944]}
{ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } استئناف منه أو من الله بالجواب عما استفهم عنه والمراد بالظلم ها هنا الشرك لما روي أو أن الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة وقالوا : أينا لم يظلم نفسه فقال عليه الصلاة والسلام " ليس ما تظنون إنما هو ما قال لقمان لابنه { يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم } " وليس الإيمان به أن يصدق بوجود الصانع الحكيم ويخلط بهذا التصديق الإشراك به . وقيل المعصية .
وقوله تعالى : { الذين آمنوا } الآية ، { الذين } رفع بالابتداء ، و { يلبسوا } معناه يخلطوا ، و «الظلم » في هذه الآية الشرك ، تظاهرت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن جماعة من الصحابة أنه لما نزلت هذه الآية أشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : أيّنا لم يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إنما ذلك كما قال لقمان : إن الشرك لظلم عظيم »{[4994]} وروي أن عمر بن الخطاب قرأ في المصحف فلما أتى عليها عظمت عليه ، فلبس رداءه ومر إلى أبي بن كعب ، فقال : يا أبا المنذر وسأله عنها ، فقال له إنه الشرك يا أمير المؤمنين ، فسري عن عمر{[4995]} ، وجرى لزيد بن صوحان{[4996]} مع سلمان نحو مما جرى لعمر مع أبي بن كعب رضي الله عنهم ، وقرأ مجاهد ، «ولم يلبسوا إيمانهم بشرك » وقرأ عكرمة «يُلبسوا » بضم الياء ، و { الأمن } رفع بالابتداء وخبره في المجرور والجملة خبر { أولئك } ، { وهم مهتدون } أي راشدون ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : المراد بهذه الآية إبراهيم خاصة ، وقال عكرمة : نزلت في مهاجري أصحاب محمد عليه السلام خاصة ، وقالت فرقة : هي من قول إبراهيم لقومه فهي من الحجة التي أوتيها ، وقال ابن جريج هي من قول قوم إبراهيم ويجيء هذا من الحجة أيضاً أن أقروا بالحق وهم قد ظلموا في الإشراك ، وقال ابن إسحاق وابن زيد وغيرهما : بل ذلك قول من الله عز وجل ابتداء حكم فصل عام لوقت محاجة إبراهيم وغيره ، ولكل مؤمن تقدم أو تأخر .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو البين الفصيح الذي يرتبط به معنى الآية ويحسن رصفها .