الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يَلۡبِسُوٓاْ إِيمَٰنَهُم بِظُلۡمٍ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلۡأَمۡنُ وَهُم مُّهۡتَدُونَ} (82)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في الذي أخبر تعالى ذكره عنه أنه قال هذا القول، أعني:"الّذِينَ آمَنُوا وَلمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ..."؛

فقال بعضهم: هذا فصل القضاء من الله بين إبراهيم خليله عليه السلام وبين من حاجّه من قومه من أهل الشرك بالله، إذ قال لهم إبراهيم: "وكَيْفَ أخافُ ما أشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أنّكُمْ أشْرَكْتُمْ باللّهِ ما لَمْ يُنَزّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطانا فَأيّ الفَرِيقَيْنِ أحَق بالأمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ "فقال الله تعالى فاصلاً بينه وبينهم: الذين صدّقوا الله، وأخلصوا له العبادة، ولم يَخْلِطوا عبادتهم إياه وتصديقهم له "بظلم"، يعني: بشرك، ولم يشركوا في عبادته شيئا، ثم جعلوا عبادتهم لله خالصا أحقّ بالأمن من عقابه مكروهَ عبادته من الذين يشركون في عبادتهم إياه الأوثان والأصنام، فإنهم الخائفون من عقابه مكروه عبادتهم أما في عاجل الدنيا فإنهم وجلون من حلول سُخْط الله بهم، وأما في الآخرة فإنهم الموقنون بأليم عذاب الله... وقال آخرون: هذا جواب من قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم لإبراهيم حين قال لهم: "أيّ الفريقين أحقّ بالأمن؟ "فقالوا له: الذين آمنوا بالله فوحدوه أحقّ بالأمن إذا لم يلبسوا إيمانهم بظلم. وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: هذا خبر من الله تعالى عن أولى الفريقين بالأمن، وفصل قضاء منه بين إبراهيم صلى الله عليه وسلم وبين قومه، وذلك أن ذلك لو كان من قول قوم إبراهيم الذين كانوا يعبدون الأوثان ويشركونها في عبادة الله، لكانوا قد أقرّوا بالتوحيد واتبعوا إبراهيم على ما كانوا يخالفونه فيه من التوحيد، ولكنه كما ذكرت من تأويله بدءا.

واختلف أهل التأويل في المعنى الذي عناه الله تعالى بقوله: "ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ"؛

فقال بعضهم: بشرك.

حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي قال: ثني عمي يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: لما نزلت: "الّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ" شقّ ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله ما منا أحد إلا وهو يظلم نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ بِذَلِكَ، ألا تَسْمَعُونَ إلى قَوْلِ لُقْمَانَ لابْنِهِ: إنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ؟».

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولم يخلطوا إيمانهم بشيء من معاني الظلم. وذلك فِعْلُ ما نهى الله عن فعله أو ترك ما أمر الله بفعله وقالوا: الآية على العموم، لأن الله لم يخصّ به معنى من معاني الظلم. قالوا: فإن قال لنا قائل: أفلا أمن في الآخرة إلا لمن لم يعص الله في صغيرة ولا كبيرة، وإلا لمن لقي الله ولا ذنب له؟ قلنا: إن الله عنى بهذه الآية خاصا من خلقه دون الجميع منهم والذي عنى بها وأراده بها خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فأما غيره فإنه إذا لقي الله لا يشرك به شيئا فهو في مشيئته إذا كان قد أتى بعض معاصيه التي لا تبلغ أن تكون كفرا، فإن شاء لم يؤمنه من عذابه، وإن شاء تفضل عليه فعفا عنه. قالوا: وذلك قول جماعة من السلف وإن كانوا مختلفين في المعنى بالآية، فقال بعضهم: عنى بها إبراهيم. وقال بعضهم: عنى بها المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم...

وأولى القولين بالصحة في ذلك، ما صح في ذلك، ما صحّ به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الخبر الذي رواه بن مسعود عنه أنه قال: «الظّلْمُ الّذِي ذَكَرَهُ اللّهُ تَعَالى فِي هَذَا المَوْضِعِ هُوَ الشّرْكُ».

"أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ": هؤلاء الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بشرك، لهم الأمن يوم القيامة من عذاب الله، "وَهُمْ مُهْتَدُونَ": وهم المصيبون سبيل الرشاد والسالكون طريق النجاة.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

ثم استأنف الجواب على السؤال بقوله: {الذين ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ} أي لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

ذلك قول من الله عز وجل ابتداء حكم فصل عام لوقت محاجة إبراهيم وغيره، ولكل مؤمن تقدم أو تأخر.

وهذا هو البين الفصيح الذي يرتبط به معنى الآية ويحسن رصفها.

زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :

روى البخاري، ومسلم في "صحيحيهما "من حديث ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية، شق ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله، وأينا ذلك؟ فقال: إنما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه: {إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]؟

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

..ثم استأنف الجواب عن السؤال بقوله: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} وهذا من تمام كلام إبراهيم في المحاجة، والمعنى: أن الذين حصل لهم الأمن المطلق هم الذين يكونون مستجمعين لهذين الوصفين: أولهما: الإيمان وهو كمال القوة النظرية. وثانيهما: {ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} وهو كمال القوة العملية.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ثم وصل بذلك دلالة على أنه لا علم لهم أصلاً ليخبروا عما سئلوا عنه قولَه مستأنفاً: {الذين آمنوا} أي أوجدوا هذا الفعل {ولم} أي وصدقوا دعواهم بأنهم لم {يلبسوا إيمانهم} أي يخالطوه ويشوبوه {بظلم}.

ولما كان المعنى: أحق بالأمن، عدل عنه إلى قوله مشيراً إليهم بأداة البعد تنبيهاً على علو رتبتهم: {أولئك لهم} أي خاصة {الأمن} أي لما تقدم من وصفهم {وهم مهتدون} أي وأنتم ضالون، فأنتم هالكون لإشرافكم على المهالك "وتفسيرُ النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرج الشيخان والترمذي والنسائي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لهذا الظلم المطلق في قوله تعالى {بظلم} بالشرك "الذي هو ظلم موصوف بالعظم في قوله تعالى {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13] تنبيه للصحابة رضوان الله عليهم على أن هذا التنوين للتعظيم، ولأنهم أهل اللسان المطبوعون فيه صفوا بذلك واطمأنوا إليه، ولا شك أن السياق كله في التنفير عن الشرك، وأنه دال على الحث على التبريء عن قليل الشرك وكثيره، فآل الأمر إلى أن المراد: ولم يلبسوا إيمانهم بشيء من الشرك، فالتنوين حينئذٍ للتحقير كما هو للتعظيم، فهو من استعمال الشيء في حقيقته ومجازه أو في معنيه المشترك فيهما لفظه معاً -والله أعلم.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

في هذا الجواب احتمالات: أحدها: أنه من قوم إبراهيم: أي تذكروا لما ذكرهم، وراجعوا عقولهم وفطرتهم، فاعترفوا بالحق كما اعترفوا حين كسر أصنامهم من بعد، إذ قال لهم {بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون * ثم نكسوا على رؤوسهم: لقد علمت ما هؤلاء ينطقون} [الأنبياء: 63-65] وقد روى ابن جرير هذا الاحتمال عن ابن جريج. الثاني: أنه من قبل إبراهيم عليه السلام صرح به إذ سكتوا عن الجواب مفحمين مبالغة في تبكيتهم، وقد قال الآلوسي إن هذا روي عن علي كرم الله وجهه، ولم أره في تفسير ابن جرير ولا ابن كثير ولا الدر المنثور، ولعله نقله عن بعض تفاسير الشيعة. الثالث: إنه من الله عز وجل فصل به القضاء بين إبراهيم ومن حاجه من قومه – رواه ابن جرير عن ابن إسحاق وابن زيد واختاره وقال إنه أولى القولين بالصواب، وقد يرجحه في اللفظ عطف الآية التالية على هذه.

والذي نراه أن الأمن في هذا الكلام يقابل الخوف فيه، وهو الأمن من عذاب الرب المعبود لمن لا يرضى إيمانه وعبادته، فإنهم خوفوا إبراهيم أن تمسه آلهتهم وأربابهم بسوء لجحده إياهم وعداوته لهم، فأجاب بأنه إنما يخاف الله وحده ولا يخافهم، والظلم الذي يلبس به الإيمان بالله ويخالطه، فينقص منه أو ينقصه، هو الشرك في العقيدة أو العبادة، كاتخاذ ولي من دون الله يدعى معه أو من دونه، ولو لأجل التقريب إليه والشفاعة عنده، ويحب كحبه، ويعظم من جنس تعظيمه، لاعتقاد أن له سلطانا من وراء الأسباب ينفع به ويضر بذاته، أو بتأثيره في مشيئة الله وقدرته، ولا يدخل فيه الظلم الذي ليس من شأنه أن لا يلابس الإيمان، كظلم المرء نفسه بإتيان بعض المضار، أو ترك بعض المنافع عن جهل أو إهمال، أو ظلم غيره ببعض الأحكام أو الأعمال، وهذا التفسير للظلم يبين به ما ورد تفسيره به في الحديث المرفوع الذي سنذكره.

فإن قيل: إن الظلم في الآية نكرة في حيز النفي فهي للعموم والشمول، قلنا: إن عموم كل شيء يحسبه قوله تعالى: {إن الله على كل شيء قدير} [البقرة:20] عام في كل شيء ممكن، ولا يدخل في عمومه ذات الله تعالى وصفاته الواجبة له فلا يقال إنه قادر على إعدامها ولا على إيجادها ولا أنه غير قادر، وقوله في ملكة سبأ: {وأوتيت من كل شيء} [النمل: 23] عام في كل ما يحتاج إليه الملوك، لا كل شيء في الوجود، فمن لم يقبل جعل مثل هذا من العام بإطلاق، فليجعله من العام الذي أريد به الخاص. وقد ذهل الزمخشري عن كون الإيمان هنا هو الإيمان المطلق الذي أثبته القرآن للمشركين لا الإيمان الصحيح الكامل الذي جاء به الرسل ولهذا الذهول جزم بأن المراد بالظلم هنا المعاصي دون الشرك لأن الشرك لا يخالط الإيمان الصحيح لأنه ضده ونقيضه. نقول نعم ولكنه يخالط مطلق الإيمان بالله تعالى وذلك قوله تعالى في المشركين: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} [يوسف: 106].

ثم لا يخفى أن الأمن في الآية مقصور على الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم فإذا حمل العموم فيها على إطلاقه وعدم مراعاة موضوع الإيمان يكون المعنى: الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بظلم ما لأنفسهم – لا في إيمانهم ولا في أعمالهم البدنية والنفسية، من دينية ودنيوية، ولا لغيرهم من المخلوقات، من العقلاء والعجماوات، أولئك لهم الأمن من عقاب الله تعالى الديني على ارتكاب المعاصي والمنكرات، وعقابه الدنيوي على عدم مراعاة سننه في ربط الأسباب بالمسببات، كالفقر والأسقام والأمراض، دون غيرهم ممن ظلموا أنفسهم أو غيرهم، فإن الظالمين لا أمان لهم، بل كل ظالم عرضة للعقاب وإن كان الله تعالى لسعة رحمته لا يعاقب كل ظالم على كل ظلم، بل يعفو عن كثير من ذنوب الدنيا، ويعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء في الآخرة ما دون الشرك به.

وهذا المعنى في تفسير الآية صحيح في نفسه، ويترتب عليه أن الأمن المطلق من الخوف من عقاب الله الديني والدنيوي أو الشرعي والقدري جميعا لا يصح لأحد من المكلفين، دع خوف الهيبة والإجلال، الذي يمتاز به أهل الكمال، وقد صح إسناد الخوف إلى الملائكة والأنبياء {يخافون ربهم من فوقهم} [النحل: 50] {ويرجون رحمته ويخافون عذابه} [الإسراء: 57] {وهم من خشيته مشفقون} [الأنبياء: 28] وهذا التفسير يؤيد قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام}، {إلا أن يشاء ربي شيئا} على ما تقدم. وأما الأمن من عقاب الآخرة بالفعل وهو النجاة منه فهو ثابت للملائكة والأنبياء عليهم السلام، ولكثير ممن دونهم من الصالحين الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وإن لم يعلم ذلك في الدنيا كل منهم ليبقى جامعا بين الخوف والرجاء. ومن الناس من يؤمن فيموت قبل أن يظلم أحدا. وقد ورد حديث في إدخال مثل هذا في مفهوم الآية.

وأما معنى الآية على الوجه الأول فهو: الذين آمنوا بالله تعالى ولم يخلطوا إيمانهم بظلم عظيم، وهو الشرك به سبحانه، أولئك لهم الأمن دون غيرهم من العقاب الديني المتعلق بأصل الدين وهو الخلود في دار العذاب، وهم فيما دون ذلك بين الخوف والرجاء.

وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: نزلت هذه الآية في إبراهيم وقومه خاصة ليس في هذه الأمة، ولعل مراده أن الله خص إبراهيم وقومه بأمن موحدهم من عذاب الآخرة مطلقا لا أمن الخلود فيه فقط، ولعل سبب هذا إن صح أن الله تعالى لم يكلف قوم إبراهيم شيئا غير التوحيد اكتفاء بتربية شرائعهم المدنية الشديدة لهم في الأحوال الشخصية والأدبية وغيرها. وقد اكتشف الباحثون شريعة حمورابي الملك الصالح الذي كان في عهد إبراهيم – وقد باركه وأخذ منه العشور كما في سفر التكوين – فإذا هي كالتوراة في أكثر أحكامها، وأما فرض الله الحج على لسان إبراهيم فقد كان في قوم ولده إسماعيل لا في قومه الكلدانيين، وأما هذه الأمة فإن من موحديها من يعذبون بالمعاصي على قدرها، لأنهم خوطبوا بشريعة كاملة يحاسبون على إقامتها.

هذا – وأما حصر الأمن فيمن ذكر على الوجهين فيؤخذ من تكرار الإسناد ثلاثا وتقديم المسند على المسند إليه الثالث، ولولا إرادة الاختصاص لكان الكلام هكذا: الأمن للذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، ولو قيل: للذين آمنوا... الأمن – لكان آكد، وآكد منه أن يقال: الذين آمنوا... لهم الأمن. وآكد من هذا نص الآية. وأما كون المراد بالظلم هنا الظلم العظيم منه فقد يدل عليه تنكيره، وأما جعل هذا الظلم العظيم خاصا بالشرك بالله تعالى فلا يعلم من نص الآية ولكن السياق وموضوع الإيمان قد يدل عليه دلالة غير قطعية لغة كما علم مما تقدم. ولذلك فهم بعض الصحابة رضي الله عنه منه العموم المطلق وهم من أهل اللسان، فأخبرهم الرسول عليه الصلاة والسلام – وهو أعلم بمراد من أنزله عليه – بمعناه الدال على أنه من العام الذي أريد به الخاص، روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من حديث ابن مسعود أن الآية لما نزلت شق ذلك على الناس وقالوا يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: « إنه ليس الذي تعنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح {إن الشرك لظلم عظيم} إنما هو الشرك» 70 وروي تفسير الظلم هنا بالشرك عن أبي بكر وعمر وابن عباس وأبي بن كعب وحذيفة وسلمان الفارسي وغيرهم من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

..قال الله تعالى فاصلا بين الفريقين {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا} أي: يخلطوا {إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} الأمن من المخاوفِ والعذاب والشقاء، والهدايةُ إلى الصراط المستقيم، فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقا، لا بشرك، ولا بمعاص، حصل لهم الأمن التام، والهداية التامة. وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده، ولكنهم يعملون السيئات، حصل لهم أصل الهداية، وأصل الأمن، وإن لم يحصل لهم كمالها. ومفهوم الآية الكريمة، أن الذين لم يحصل لهم الأمران، لم يحصل لهم هداية، ولا أمن، بل حظهم الضلال والشقاء.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

هذه الجملة من حكاية كلام إبراهيم على ما ذهب إليه جمهور المفسِّرين فيكون جواباً منه عن قوله: {فأيّ الفريقين أحقّ بالأمن} [الأنعام: 81]. تولّى جوابَ استفهامه بنفسه ولم ينتظر جوابهم لكون الجواب ممَّا لا يسع المسؤول إلاّ أن يجيب بمثله، وهو تبكيت لهم. قال ابن عبَّاس: كما يسأل العالم ويُجيبُ نفسه بنفسه، أي بقوله: « فإن قلتَ قلتُ». وقد تقدّمت نظائره في هذه السورة.

وقيل: ليس ذلك من حكاية كلام إبراهيم، وقد انتهى قول إبراهيم عند قوله {إن كنتم تعلمون} [الأنعام: 81] بل هو كلام مستأنف من الله تعالى لابتداء حكم، فتكون الجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً تصديقاً لقول إبراهيم.

وقيل: هو حكاية لكلام صدر من قوم إبراهيم جواباً عن سؤال إبراهيم {فأيّ الفريقين أحقّ بالأمن} [الأنعام: 81]. ولا يصحّ لأنّ الشأن في ذلك أن يقال: قال الذين آمنوا الخ، ولأنَّه لو كان من قول قومه لما استمرّ بهم الضلال والمكابرة إلى حدّ أن ألقَوا إبراهيم في النّار.

وحذف متعلّق فعل {آمنوا} لظهوره من الكلام السابق. والتقدير: الذين آمنوا بالله.

وحقيقة {يلبسوا} يخلطوا، وهو هنا مجاز في العمل بشيئين متشابهين في وقت واحد. شبّه بخلط الأجسام كما في قوله: {ولا تلبسوا الحقّ بالباطل} [البقرة: 42].

والظّلم: الاعتداء على حقّ صاحب حقّ، والمراد به هنا إشراك غير الله مع الله في اعتقاد الإلهية وفي العبادة، قال تعالى: {إنّ الشِّرك لظلم عظيم} [لقمان: 13] لأنَّه أكبر الاعتداء، إذ هو اعتداء على المستحقّ المطلق العظيم، لأنّ من حقّه أن يفرد بالعبادة اعتقاداً وعملاً وقولاً لأنّ ذلك حقّه على مخلوقاته. ففي الحديث "حقّ العباد على الله أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئاً "وقد ورد تفسير الظلم في هذه الآية بالشرك. في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود "لمّا نزلت {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} شَقّ ذلك على المسلمين وقالوا: أيّنا لم يظلم نفسه" فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس كما تَظُنّون إنَّما هو كما قال لقمان لابنه: {إنّ الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13] اه." وذلك أنّ الشرك جمع بين الاعتراف لله بالإلهية والاعتراف لغيره بالربوبيّة أيضاً. ولمَّا كان الاعتراف لغيره ظلماً كان إيمانهم بالله مخلوطاً بظلم وهو إيمانهم بغيره، وحَمله على هذا المعنى هو الملائم لاستعارة اسم الخَلط لهذا المعنى لأنّ الإيمان بالله وإشراكَ غيره في ذلك كلاهما من جنس واحد وهو اعتقاد الربوبيّة فهما متماثلان، وذلك أظهر في وجه الشبه، لأنّ شأن الأجسام المتماثلة أن يكون اختلاطها أشدّ فإنّ التَّشابُه أقوى أحوال التّشبيه عند أهل البيان. والمعنى الذين آمنوا بالله ولم يشركوا به غيره في العبادة.

وحَمَل الزمخشري الظلم على ما يشمل المعاصي، لأنّ المعصية ظلم للنَّفس كما في قوله تعالى: {فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم} [التوبة: 36] تأويلاً للآية على أصول الاعتزال لأنّ العاصي غير آمن من الخلود في النّار فهو مساو للكافر في ذلك عندهم، مع أنَّه جَعَل قوله: {الذين آمنوا ولم يلبسوا} إلى آخره من كلام إبراهيم، وهو إن كان محكيّاً من كلام إبراهيم لا يصحّ تفسير الظلم منه بالمعصية إذ لم يكن إبراهيم حينئذٍ داعياً إلاّ للتَّوحيد ولم تكن له بعدُ شريعة، وإن كان غير محكي من كلامه فلا يناسب تفسيره فيه بالمعصية، لأنّ تعقيب كلام إبراهيم به مقصود منه تأييد قوله وتبيينُه، فالحقّ أنّ الآية غير محتاجة للتّأويل على أصولهم نظراً لهذا الذي ذكرناه.

والإشارة بقوله: {أولئك لهم الأمن} للتنبيه على أنّ المسند إليه جدير بالمسند من أجل ما تقدّم من أوصاف المسند إليه وهذا كقوله {أولئك على هدى من ربّهم} [البقرة: 5]. وقوله {لهم الأمْن} أشارت اللاّم إلى أنّ الأمن مختصّ بهم وثابت، وهو أبلغ من أن يُقال: آمنون. والمراد الأمن من عذاب الدنيا بالاستئصال ونحوه وما عُذّبت به الأمم الجاحدة، ومِن عذاب الآخرة إذ لم يكن مطلوباً منهم حينئذٍ إلاّ التوّحيد. والتّعريف في {الأمن} تعريف الجنس، وهو الأمن المتقدّم ذكره، لأنَّه جنس واحد، وليس التّعريف تعريف العهد حتَّى يجيء فيه قولهم: إنّ المعرفة إذا أعيدت معرفة فالثّانية عين الأولى إذ لا يحتمل هنا غير ذلك.

وقوله: {وهم مهتدون} معطوف على قوله: {لهم الأمن} عطفَ جزء جملة على الجملة التي هي في حكم المفرد، فيكون {مهتدون} خبراً ثانياً عن اسم الإشارة عُطف عليه بالواو على إحدى الطريقتين في الأخبار المتكرّرة.

والضمير للفصل ليفيد قصر المسند على المسند إليه، أي الاهتداء مقصور على الذين آمنوا ولم يلبِسوا إيمانهم بظلم دون غيرهم، أي أنّ غيرهم ليسوا بمهتدين، على طريقة قوله تعالى: {وأولئك هم المفلحون} [البقرة: 55] وقوله: {ألم يعلموا أنّ الله هو يقبل التّوبة عن عباده} [التوبة: 104]. وفيه إشارة إلى أنّ المخبَر عنهم لمَّا نَبذوا الشِّرك فقد اهتدوا.

ويجوز أن يكون قوله: {وهم مهتدون} جملة، بأنْ يكونَ ضمير الجمع مبتدأ و {مهتدون} خبره، والجملة معطوفة على جملة {أولئك لهم الأمن}، فيكون خبراً ثانياً عن اسم الموصول، ويكون ذكر ضمير الجمع لأجل حُسن العطف لأنَّه لمّا كان المعطوف عليه جملة اسميّة لم يحسن أن يعطف عليه مفرد في معنى الفعل، إذ لا يحسن أن يقال: أولئك لهم الأمن ومهتدون؛ فصيغ المعطوف في صورة الجملة. وحينئذٍ فالضمير لا يفيد اختصاصاً إذ لم يؤت به للفصل، وهذا النظم نظير قوله تعالى: {له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير} [التغابن: 1] وقوله: تعالى: {له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كلّ شيء قدير} [الحديد: 2] على اعتبار {وهو على كلّ شيء قدير} عطفاً على {له مُلك السماوات والأرض} وما بينهما حال، وهذا من محسِّنات الوصل كما عُرف في البلاغة، وهو من بدائع نظم الكلام العربي.