{ الذين ءامَنُواْ } استئناف يحتمل أن يكون من جهته تعالى مبين للجواب الحق الذي لا محيد عنه . وروي ذلك عن محمد بن إسحاق وابن زيد والجبائي ، ويحتمل أن يكون من جهة إبراهيم عليه السلام وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه ، واستشكل كونه استئنافاً بأنه لا يمكن جعله بيانياً لأنه ما كان جواب سؤال مقدر ، وهذا جواب سؤال محقق ولا نحوياً لما قال ابن هشام : إن الاستئناف النحوي ما كان في ابتداء الكلام ومنقطعاً عما قبله وهذا مرتبط بما قبله لارتباط الجواب والسؤال ضرورة وليس عندنا غيرهما . وأجيب باختيار كونه نحوياً ، ومعنى كونه منقطعاً عما قبله أن لا يعطف عليه ولا يتعلق به من جهة الإعراب وإن ارتبط بوجه آخر ، وقيل : المراد بابتداء الكلام ابتداؤه تحقيقاً أو تقديراً أي الفريق الذين آمنوا بما يجب الإيمان به .
{ وَلَمْ يَلْبِسُواْ } أي لم يخلطوا { أيمانهم } ذلك { بِظُلْمٍ } أي شرك كما يفعله الفريق المشركون حيث يزعمون أنهم مؤمنون بالله تعالى وأن عبادتهم لغيره سبحانه معه من تتمات إيمانهم وأحكامه لكونها لأجل التقريب والشفاعة كما ينبىء عنه قوله : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى } [ الزمر : 3 ] وإلى تفسير الظلم بالشرك هنا ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن المسيب وقتادة ومجاهد وأكثر المفسرين ، ويؤيد ذلك أن الآية واردة مورد الجواب عن حال الفريقين .
ويدل عليه ما أخرجه الشيخان وأحمد والترمذي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة رضي الله تعالى عنهم وقالوا : أينا لم يظلم نفسه ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ليس ما تظنون إنما هو ما قال لقمان عليه السلام لابنه { يَعِظُهُ يابنى لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] ولا يقال : إنه لا يلزم من قوله : { إِنَّ الشرك } الخ أن غير الشرك لا يكون ظلماً لأنهم قالوا : إن التنوين في { بِظُلْمٍ } للتعظيم فكأنه قيل : لم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم ، ولما تبين أن الشرك ظلم عظيم علم أن المراد لم يلبسوا إيمانهم بشرك أو أن المتبادر من المطلق أكمل أفراده .
وقيل : المراد به المعصية وحكي ذلك عن الجبائي والبلخي وارتضاه الزمخشري تبعاً لجمهور المعتزلة . واستدلوا بالآية على أن صاحب الكبيرة لا أمن له ولا نجاة من العذاب حيث دلت بتقديم لهم الآتي على اختصاص الأمن بمن لم يخلط إيمانه بظلم أي بفسق وادعوا أن تفسيره بالشرك يأباه ذكر اللبس أي الخلط إذ هو لا يجامع الإيمان للضدية وإنما يجامع المعاصي ، والحديث خبر واحد فلا يعمل به في مقابلة الدليل القطعي ، والقول بأن الفسق أيضاً لا يجامع الإيمان عندهم أيضاً فلا يتم لهم الاستدلال لكونه اسماً لفعل الطاعات واجتناب السيئآت حتى أن الفاسق ليس بمؤمن كما أنه ليس بكافر مدفوع كما قيل بأنه كثيراً ما يطلق الإيمان على نفس التصديق بل لا يكاد يفهم منه بلفظ الفعل غير هذا حتى أنه يعطف عليه عمل الصالحات كما جاء في غير ما آية .
وأجيب بأنه أريد بالإيمان تصديق القلب وهو قد يجامع الشرك كأن يصدق بوجود الصانع دون وحدانيته كما أشرنا إليه آنفاً ، ومن ذلك قوله تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] . وكذا إذا أريد به مطلق التصديق سواء كان باللسان أو غيره بل المجامعة على هذا أظهر كما في المنافق ولو أريد به التصديق بجميع ما يجب التصديق به بحيث يخرج عن الكفر يقال : إنه لا يلزم من لبس الإيمان بالشرك الجمع بينهما بحيث يصدق عليه أنه مؤمن ومشرك بل تغطيته بالكفر وجعله مغلوباً مضمحلاً أو اتصافه بالإيمان ثم الكفر ثم الإيمان ثم الكفر مراراً ، وبعد تسليم جميع ما ذكر نقول :
إن قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ لَهُمُ الامن } إنما يدل على اختصاص الأمن بغير العصاة وهو لا يوجب كون العصاة معذبين ألبتة بل خائفين ذلك موقعين للاحتمال ورجحان جانب الوقوع . وقيل المراد من الأمن الأمن من خلود العذاب لا الأمن من العذاب مطلقاً ، والموصول مبتدأ واسم الإشارة مبتدأ ثان والإشارة إلى الموصول من حيث اتصافه بما في حيز الصلة وفي الإشارة إليه بما فيه معنى البعد بعد وصفه بما ذكر ما يلا خفى ، وجملة { لَهُمُ الامن } من الخبر المقدم والمبتدأ المؤخر خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر الأول ، وجوز أن يكون { أولئك } بدلاً من الموصول أو عطف بيان له و { لَهُمْ } هو الخبر و { الامن } فاعلاً للظرف لاعتماده على المبتدأ ، وأن يكون { لَهُمْ } خبراً مقدماً و { الامن } مبتدأ مؤخراً والجملة خبر الموصول ، وجوز أبو البقاء كون الموصول خبر مبتدأ محذوف وقال : التقدير هم الذين ولا يخلو عن بعد والأكثرون على الأول { وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } إلى الحق ومن عداهم في ضلال مبين ، وقدر بعضهم إلى طريق توجب الأمن من خلود العذاب .
( ومن باب الإشارة فيها ) :{ الذين آمنوا } الإيمان الحقيقي { وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ } من ظهور نفس أو قلب أو وجود بقية { أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأمن } الحقيقي { وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } [ الأنعام : 82 ] حقيقة إلى الحق . وقال النيسابوري : قد يدور في الخلد أن إبراهيم عليه السلام جن عليه ليل الشبهة وظلمتها فنظر أولاً : في عالم الأجسام فوجدها آفلة في أفق التغيير فلم يرها تصلح للإلهية فارتقى منها إلى عالم النفوس المدبرة للأجسام فرآها آفلة في أفق الاستكمال فكان حكمها حكم ما دونها فصعد منها إلى عالم العقول المجرد فصادفها ءافلة في أفق الإمكان فلم يبق إلا الواجب ، وقيل : غير ذلك ، وما ذكره مبني على أن الاحتجاج كان مع نفسه عليه السلام وهو الذي ذهب إليه البعض من المفسرين ورووا في ذلك خبراً طويلاً وهو مذكور في كثير من الكتب مشهور بين العامة ، والمختار عندي ما علمت والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.