ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ، أن من الصفات اللازمة للمنافقين ، نقضهم لعهودهم فقال - تعالى - : { وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ الله مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأدبار وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً } .
أى : ولقد كان هؤلاء المنافقون قد حلقوا من قبل غزوة الأحزاب ، أنهم سيكونون معكم فى الدفاع عن الحق وعن المدينة المنورة التى يساكنونكم فيها ، ولكنهم لم يفوا بعهودهم .
{ وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً } أى : مسئولا عنه صاحبه الذى عاهد الله - تعالى - على الوفاء ، وسيجازى - سبحانه - كل ناقض لعهده ، بما يستحقه من عقاب .
هكذا يكشفهم القرآن ؛ ويقف نفوسهم عارية من كل ستار . . ثم يصمهم بعد هذا بنقض العهد وخلف الوعد . ومع من ? مع الله الذي عاهدوه من قبل على غير هذا ؛ ثم لم يرعوا مع الله عهدا :
( ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار . وكان عهد الله مسؤولا ) .
قال ابن هشام من رواية ابن إسحاق في السيرة : هم بنو حارثة ، وهم الذين هموا أن يفشلوا يوم أحد مع بني سلمة حين همتا بالفشل يومها . ثم عاهدوا الله ألا يعودوا لمثلها أبدا . فذكر لهم الذي أعطوا من أنفسهم .
فأما يوم أحد فقد تداركهم الله برحمته ورعايته ، وثبتهم ، وعصمهم من عواقب الفشل . وكان ذلك درسا من دروس التربية في أوائل العهد بالجهاد . فأما اليوم ، وبعد الزمن الطويل ، والتجربة الكافية ، فالقرآن يواجههم هذه المواجهة العنيفة .
ثم قال تعالى يذكرهم بما كانوا عاهدوا الله من قبل هذا الخوف ، ألا يولوا الأدبار ولا يفروا{[23251]} من الزحف ، { وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا } أي : وإن الله تعالى سيسألهم عن ذلك العهد ، لا بد من ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلّونَ الأدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْئُولاً } .
يقول تعالى ذكره : ولقد كان هؤلاء الذين يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانصراف عنه ، ويقولون إن بيوتنا عورة ، عاهدوا الله من قبل ذلك ، إن لا يولوا عدوّهم الأدبار ، إن لقولهم في مشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم معهم ، فما أوفوا بعهدهم وكانَ عَهْد اللّهِ مَسْئُولاً يقول : فيسأل الله ذلك من أعطاه إياه من نفسه . وذُكر أن ذلك نزل في بني حارثة لما كان من فعلهم في الخندق بعد الذي كان منهم بأُحد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلّونَ الأَدْبارَ ، وكانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْئُولاً وهم بنو حارثة ، وهم الذين همّوا أن يفشلوا يوم أُحد مع بني سلمة حين همّا بالفشل يوم أُحد ، ثم عاهدوا الله لا يعودون لمثلها ، فذكر الله لهم الذي أعطوه من أنفسهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلّونَ الأدْبارَ وكانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْئُولاً قال : كان ناس غابوا عن وقعة بدر ، ورأوا ما أعطى الله أصحاب بدر من الكرامة والفضيلة ، فقالوا : لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلنّ ، فساق الله ذلك إليهم حتى كان في ناحية المدينة .
ثم أخبر تعالى عنهم أنهم قد { كانوا عاهدوا } على أن لا يفروا وروي عن يزيد بن رومان أن هذه الإشارة إلى بني حارثة .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهم مع بني سلمة كانتا الطائفتين اللتين همتا بالفشل يوم أحد ، ثم تابا وعاهدا على أن لا يقع منهم فرار فوقع يوم الخندق من بني حارثة هذا الاستئذان وفي قوله تعالى : { وكان عهد الله مسؤولاً } توعد ، والأقطار : النواحي ، أحدها قطر وقتر{[9473]} ، والضمير في { بها } يحتمل المدينة ويحتمل { الفتنة } .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولقد كان هؤلاء الذين يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانصراف عنه، ويقولون إن بيوتنا عورة، عاهدوا الله من قبل ذلك، أن لا يولوا عدوّهم الأدبار، إن لقولهم [لعل الصواب: إن لقوهم] في مشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، فما أوفوا بعهدهم.
"وكانَ عَهْد اللّهِ مَسْئُولاً" يقول: فيسأل الله ذلك من أعطاه إياه من نفسه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ولكن لما عزم الأمر، وظهر الجدّ لم يساعدهم الصدقُ، ولم يذكروا أنهم سَيُسألون عن عهدهم، ويُعاقبون على ما أسلفوه من ذنبهم.
بيانا لفساد سريرتهم وقبح سيرتهم لنقضهم العهود، فإنهم قبل ذلك تخلفوا وأظهروا عذرا وندما، وذكروا أن القتال لا يزال لهم قدما ثم هددهم بقوله: {وكان عهد الله مسئولا}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هكذا يكشفهم القرآن؛ ويقف نفوسهم عارية من كل ستار.. ثم يصمهم بعد هذا بنقض العهد وخلف الوعد. ومع من؟ مع الله الذي عاهدوه من قبل على غير هذا؛ ثم لم يرعوا مع الله عهدا.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمراد بعهد الله: كل عهد يوثقه الإنسان مع ربه.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ} في ما ألزموا به أنفسهم من الإخلاص لله ورسوله بأن يمنعوا النبي مما يمنعون به أنفسهم، وأن لا يفرّوا مهما كانت النتائج {لاَ يُوَلُّونَ الاْدْبَارَ} في خط المواجهة للعدو {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤولاً} لأن الله أراد للمسلمين أن يوفوا بعهودهم ولا ينقضوها، لأن الكلمة التي تعبر عن الالتزام الداخلي، تفرض على صاحبها من موقع الإيمان أن يجعلها قانوناً شرعياً يلتزم به كما يلتزم بالأوامر الصادرة عن الله ورسوله.
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
من الهداية: -وجوب الوفاء بالعهد، إذ نقض العهد من علامات النفاق.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يبدو أنّ للآية أعلاه مفهوماً واسعاً يشمل هذه العهود والمواثيق، وكلّ عهودهم الأخرى. إنّ كلّ من يؤمن ويبايع النّبي (صلى الله عليه وآله) يعاهده على أن يدافع عن الإسلام والقرآن ولو كلّفه ذلك حياته. والتأكيد على العهد والميثاق هنا من أجل أنّه حتّى عرب الجاهلية كانوا يحترمون مسألة العهد، فكيف يمكن أن ينقض إنسان عهده ويضعه تحت قدميه بعد ادّعائه الإسلام؟