{ 54 } { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }
يقول تعالى مبينا أنه الرب المعبود وحده لا شريك له : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } وما فيهما على عظمهما وسعتهما ، وإحكامهما ، وإتقانهما ، وبديع خلقهما .
{ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أولها يوم الأحد ، وآخرها يوم الجمعة ، فلما قضاهما وأودع فيهما من أمره ما أودع { اسْتَوَى } تبارك وتعالى { عَلَى الْعَرْشِ } العظيم الذي يسع السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما ، استوى استواء يليق بجلاله وعظمته وسلطانه ، فاستوى على العرش ، واحتوى على الملك ، ودبر الممالك ، وأجرى عليهم أحكامه الكونية ، وأحكامه الدينية ، ولهذا قال : { يُغْشِي اللَّيْلَ } المظلم { النَّهَارَ } المضيء ، فيظلم ما على وجه الأرض ، ويسكن الآدميون ، وتأوى المخلوقات إلى مساكنها ، ويستريحون من التعب ، والذهاب والإياب الذي حصل لهم في النهار .
{ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } كلما جاء الليل ذهب النهار ، وكلما جاء النهار ذهب الليل ، وهكذا أبدا على الدوام ، حتى يطوي اللّه هذا العالم ، وينتقل العباد إلى دار غير هذه الدار .
{ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } أي : بتسخيره وتدبيره ، الدال على ما له من أوصاف الكمال ، فخلْقُها وعظَمُها دالٌّ على كمال قدرته ، وما فيها من الإحكام والانتظام والإتقان دال على كمال حكمته ، وما فيها من المنافع والمصالح الضرورية وما دونها دال على سعة رحمته وذلك دال على سعة علمه ، وأنه الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له .
{ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ } أي : له الخلق الذي صدرت عنه جميع المخلوقات علويها وسفليها ، أعيانها وأوصافها وأفعالها والأمر المتضمن للشرائع والنبوات ، فالخلق : يتضمن أحكامه الكونية القدرية ، والأمر : يتضمن أحكامه الدينية الشرعية ، وثم أحكام الجزاء ، وذلك يكون في دار البقاء ، { تَبَارَكَ اللَّهُ } أي : عظم وتعالى وكثر خيره وإحسانه ، فتبارك في نفسه لعظمة أوصافه وكمالها ، وبارك في غيره بإحلال الخير الجزيل والبر الكثير ، فكل بركة في الكون ، فمن آثار رحمته ، ولهذا قال : ف { تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }
ولما ذكر من عظمته وجلاله ما يدل ذوي الألباب على أنه وحده ، المعبود المقصود في الحوائج كلها أمر بما يترتب على ذلك ، فقال : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }
ثم ذكر - سبحانه - جانبا من بديع صنعه ، وجليل قدرته ، لكى يدل على أنه هو المعبود الحق فقال - تعالى - : { إِنَّ رَبَّكُمُ . . . } .
أى : إن سيدكم ومالككم الذي يجب عليكم أن تفردوه بالعبادة هو الله الذي أنشأ السموات والرض على غير مثال سابق في مقدار ستة أيام .
قال الشهاب : اليوم في اللغة مطلق الوقت ، فإن أريد هذا فالمعنى في ستة أوقات . وإن أريد المعارف وهو زمان طلوع الشمس إلى غروبها فالمعنى في مقدار ستة أيام ، لأن اليوم إنما كان بعد خلق الشمس والسموات فيقدر فيه مضاف .
وقال صاحب فتح البيان : " قيل هذه الأيام من أيام الدنيا ، وقيل من أيام الآخرة ، قال ابن عباس : يوم مقداره ألف سنة وبه قال الجمهور وقال سعيد ابن جبير ، " كان الله قادرا على أن يخلق السموات والأرض وما بينهما في لمحة ولحظة ، فخلقهن في ستة أيام تعليما لخلقه التثبت والتأنى في الأمور " .
وقوله : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } قال الشيخ القاسمى :
ورد الاستواء على معان اشترك لفظه فيها ، فجاء بمعنى الاستقرار ، ومنه { واستوت عَلَى الجودي } وبمعنى القصد ومنه { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌْ } وكل من فرغ من أمر وقصد لغيره فقد استوى له وإليه . قال الفراء : تقول العرب استوى إلى يخاصمنى أى : قصد لى وأقبل على . ويأتى بمعنى الاستيلاء .
قد استوى بشر على العراق . . . ويأتى بمعنى العلو ومنه هذه الآية .
قال البخاري في آخر صحيحه في كتاب الردل على الجهمية في باب قوله - تعالى - : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء } أى : علا وارتفع .
وعرش الله - كما قال الراغب - مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم ، وليس كما تذهب إليه أوهام العامة ، فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له - تعالى الله عن ذلك - لا محمولا .
وقد ذكر العرش في إحدى وعشرين آية . وذكر الاستواء على العرش في سبع آيات .
أما الاستواء على العرش فذهب سلف الأمة إلى أن صفة لله - تعالى - بلا كيف ولا انحصار ولا تشبيه ولا تمثيل لاستحالة اتصافه - سبحانه - بصفات المحدثين ، ولوجوب تنزيهه عما لا يليق به { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير } وأنه يجب الإيمان بها كما ورت وتفويض العلم بحقيقتها إليه - تعالى - .
فعن أم سلمة - رضى الله عنها - في تفسير قوله - تعالى - : { الرحمن عَلَى العرش استوى } أنها قالت : الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والاقرار به من الإيمان ، والجحود به كفر .
وقال الإمام مالك : الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .
وقال محمد بن الحسن : اتفق الفقهاء جميعا على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه .
وقال الإمام الرازى : إن هذا المذهب هو الذي نقول به ونختاره ونعتمد عليه .
وذهب بعض علماء الخلف إلى وجوب صرفه - أى الاستواء - عن ظاهره لاستحالته ، وأن المراد منه - كما قال الإمام القفال - أنه استقام ملكه ، واطرد أمره ونفذ حكمه - تعالى - في مخلوقاته ، والله - تعالى - دل على ذاته وصفاته وكيفية تدبيره للعالم على الوجه الذي ألفوه من ملوكهم واستقر في قلوبهم " تنبيها على عظمته وكمال قدرته " وذلك مشروط بنفى التشبيه ، ويشهد بذلك قوله - تعالى - : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش يُدَبِّرُ الأمر } هذا وللعلماء كلام طويل حول هذه المسألة التي تتعلق بالمحكم والمتشابه فليرجع إليها من شاء .
وقوله : { يُغْشِي الليل النهار } التغشية : التغطية والستر ، أى : يجعل الليل غاشيا للنهار مغطيا له فيذهب بنوره ، ويصير الكون مظلما بعد أن كان مضيئا ، ويجعل النهار غاشية لليل فيصير الكون مضيئا بعد أن كان مظلما ، وفى ذلك من منافع الناس ما فيه وبه تتم الحياة ، وهو دليل القدرة والحكمة والتدبير من الإله العلى العظيم .
ولم يذكر في هذه الآية يغشى الليل بالنهار اكتفاء بأحد الأمرين عن الآخر كقوله - تعالى - : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } أو لدلالة الحال عليه ، أو لأن اللفظ يحتملهما : يجعل الليل مفعولا أول والنهار مفعولا ثانيا أو بالعكس .
والآية الكريمة من باب أعطيت زيداً عمراً ، لأن كلا من الليل والنهار يصلح أن يكون غاشياً ومغشياً ، فوجب جعل الليل هو الفاعل المعنوى ، والنهار ه المفعول من غير عكس لئلا يلتبس المعنى .
وقد قال - تعالى - في آية أخرى : { يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى الليل } وقوله : { يَطْلُبُهُ حَثِيثاً } أى : يطلب الليل النهار أو كلاهما بطلب الآخر طلباً سريعاً حتى يلحقه ويدركه ، وهو كناية عن أن أحدهما يأتى عقب الآخر ويخلفه بلا فاصل ، فكأنه يطلبه طلباً سريعاً لا يفتر عنه يحلقه .
والحث على الشىء : الحض عليه . يقال : حث الفرس على العدو يحثه حثاً صاحب ه أو وكزه برجل أو ضرب . وذهب حثيثاً أى : مسرعاً .
والجملة حال من الليل ، لأنه هو المتحدث عنه أو حال من النهار أى : مطلوب حثيثاً ، أو من كل منهما على الرأى الثانى الذي يفسر " يطلبه حثيثاً " بأن كليهما يطلب الأخر .
وقوله : { والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } أى : وخلق الشمس والقمر والنجوم كونهن مذللات خاضعات لتصرفه ، منقادات لمشيئته ، كأنهن مميزات أمرن فانقدن ، فتسمية ذلك أمر على سبيل التشبيه .
قال الآلوسى : ويصح حمل الآمر على الإرادة . أى : هذه الأجرام العظيمة والمخلوقات البديعة منقادة لإرادته : ومنهم من حمل الأمر على الأمر الكلامى وقال : إنه - سبحانه - أمر هذه الأجرام بالسير الدائم والحركة المستمرة على الوجه المخصوص إلى حيث شاء ولا مانع أن يعطيها الله إدراكا وفهما لذلك " .
وقرأ الجمهور بنصب الألفاظ الثلاثة على أنها معطوفة على السموات ، أى : خلق السموات وخلق الشمس والقمر والنجوم . وبنصب { مُسَخَّرَاتٍ } أيضا على أنها حال من هذه الثلاثة .
وقرأ أبو عامر بالرفع في جميعها على الابتداء والخبر مسخرات .
وقوله : { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر } ألا : أداة يفتتح بها القول الذة يهتم بشأنه بأجل تنبيه المخاطب لمضمونه وحمله على تأمله . والخلق : إيجاد الشىء من العدم . والأمر : التدبير والتصرف على حسب الإرادة لما خلقه . فهو - سبحانه - الخالق والمدبر للعالم على حسب إرادته وحكمته لا شريك له في ذلك .
وهذه الجملة الكريمة كالتدليل للكلام السابق أى : أنه - سبحانه - هو الذي خلق الأشياء كلها ويدخل في ذلك السموات والأرض وغيرهما ، وهو الذي دبر هذا الكون على حسب إرادته ويدخل في ذلك ما أشار إليه بقوله : { مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } .
وقوله : { تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } .
تبارك : فعل ماض لا يتصرف ، أى لم يجىء منه مضارع ولا أمر ولا اسم فاعل . من البركة بمعنى الكثرة من كل خير . وأصلها النماء والزيادة . أى : كثر خيره وإحسانه وتعاظمت وتزايدت بركات الله رب العالمين .
أو من البركة بمعنى الثبوت . يقال : برك البعير ، إذا أناخ في موضعه فلزمه وثبت فيه . وكل شىء ثبت ودام فقد برك . أى : ثبت ودام خيره على خلقه .
أو المعنى : تعالى الله رب العالمين وتعظيم وارتفع وتنزه عن كل نقص .
{ ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } .
إفاضة الماء : صبه ، ومادة الفيض فيها معنى الكثرة .
والمعنى : أن أهل النار - بعد أن أحاط بهم العذاب المهين - أخذوا يستجدون أهل الجنة بذلة وانكسار فيقولون لهم : أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله من طعام ، لكى نستعين بهما على ما نحن فيه من سموم وحميم .
وهنا يرد عليهم أهل الجنة بما يقطع آمالهم بسبب أعمالهم فيقولون لهم : إن الله منع كلا منهما على الكافرين ، الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، أى الذين اتخذوا دينهم - الذي أمرهم الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه - مادة للسخرية والتلهى ، وصرف الوقت فيما لا يفد ، فأصبح الدين - في زعمهم - صورة ورسوما لا تزكى نفساً ، ولا تطهر قلباً ، ولا تهذب خلقا وهم فوق ذلك قد غرتهم الحياة الدنيا - أى شغلتهم بمتعها ولذائذها وزينتها عن كل ما يقربهم إلى الله ، ويهديهم إلى طريقه القويم .
وقوله - تعالى - : { فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا } معناه فاليوم نفعل بهم فعل الناسى بالمنسى من عدم الاعتناء بهم وتركهم في النار تركا كليا بسبب تركهم الاستعداد لهذا اليوم ، وبسبب جحودهم لآياتنا التي جاءتهم بها أنبياؤهم .
فالنسيان في حق الله - تعالى - مستعمل في لازمه ، بمعنى أن الله لا يجيب دعاءهم ، ولا يرحم ضعفهم وذلهم ، بل يتركهم في النار كما تركوا الإيمان والعمل الصالح في الدنيا .
وهكذا تسوق لنا السورة الكريمة مشاهد متنوعة لأهوال يوم القيامة ، فتحكى لنا أحوال الكافرين ، كما تصور لنا ما أعده الله للمؤمنين . كما تسوق لنا ما يدور بين الفريقين من محاورات ومناقشات فيها العبر والعظات { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيد }
( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً ، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره . ألا له الخلق والأمر . تبارك الله رب العالمين ) . .
إن عقيدة التوحيد الإسلامية ، لا تدع مجالاً لأي تصور بشري عن ذات الله سبحانه ؛ ولا عن كيفيات أفعاله . . فالله سبحانه ليس كمثله شيء . . ومن ثم لا مجال للتصور البشري لينشىء صورة عن ذات الله . فكل التصورات البشرية إنما تنشأ في حدود المحيط الذي يستخلصه العقل البشري مما حوله من أشياء . فإذا كان الله - سبحانه - ليس كمثله شيء ، توقف التصور البشري إطلاقاً عن إنشاء صورة معينة لذاته تعالى . ومتى توقف عن إنشاء صورة معينة لذاته العلية فإنه يتوقف تبعاً لذلك عن تصور كيفيات أفعاله جميعاً . ولم يبق أمامه إلا مجال تدبر آثار هذه الأفعال في الوجود من حوله . . وهذا هو مجاله . .
ومن ثم تصبح أسئلة كهذه : كيف خلق الله السماوات والأرض ؟ كيف استوى على العرش ؟ كيف هذا العرش الذي استوى عليه الله سبحانه ؟ ! . . . تصبح هذه الأسئلة وأمثالها لغوا يخالف توجيهها قاعدة الاعتقاد الإسلامي . أما الإجابة عليها فهي اللغو الأشد الذي لا يزاوله من يدرك تلك القاعدة ابتداء ! ولقد خاضت الطوائف - مع الأسف - في هذه المسائل خوضاً شديداً في تاريخ الفكر الإسلامي ، بالعدوى الوافدة على هذا الفكر من الفلسفة الإغريقية !
فأما الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض ، فهي كذلك غيب لم يشهده أحد من البشر ولا من خلق الله جميعاً : ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم . . وكل ما يقال عنها لا يستند إلى أصل مستيقن .
إنها قد تكون ست مراحل . وقد تكون ستة أطوار . وقد تكون ستة أيام من أيام الله التي لاتقاس بمقاييس زماننا الناشئ من قياس حركة الأجرام - إذ لم تكن قبل الخلق هذه الأجرام التي نقيس نحن بحركتها الزمان ! . . وقد تكون شيئاً آخر . . فلا يجزم أحد ماذا يعني هذا العدد على وجه التحديد . . وكل حمل لهذا النص ومثله على " تخمينات " البشرية التي لا تتجاوز مرتبة الفرض والظن - باسم " العلم ! " - هو محاولة تحكمية ، منشؤها الهزيمة الروحية أمام " العلم " الذي لا يتجاوز في هذا المجال درجة الظنون والفروض !
ونخلص نحن من هذه المباحث التي لا تضيف شيئاً إلى هدف النص ووجهته . لنرتاد مع النصوص الجميلة تلك الرحلة الموحية في أقطار الكون المنظور ، وفي أسراره المكنونة :
( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً ، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره . ألا له الخلق والأمر . تبارك الله رب العالمين ) . .
إن الله الذي خلق هذا الكون المشهود في ضخامته وفخامته . والذي استعلى على هذا الكون يدبره بأمره ويصرفه بقدره . يُغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً . . في هذه الدوره الدائبة : دورة الليل يطلب النهار في هذا الفلك الدوار . والذي جعل الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره . . إن الله الخالق المهيمن المصرف المدبر ، هو( ربكم ) . . هو الذي يستحق أن يكون رباً لكم . يربيكم بمنهجه ، ويجمعكم بنظامه ، ويشرع لكم بإذنه ، ويقضي بينكم بحكمه . . إنه هو صاحب الخلق والأمر . . وكما أنه لا خالق معه . فكذلك لا آمر معه . . هذه هي القضية التي يستهدفها هذا الاستعراض . . قضية الألوهية والربوبية والحاكمية ، وإفراد الله سبحانه بها . . وهي قضية العبودية من البشر في شريعة حياتهم . فهذا هو الموضوع الذي يواجهه سياق السورة ممثلاً في مسائل اللباس والطعام . كما كان سياق سورة الأنعام يواجهه كذلك في مسائل الأنعام والزروع والشعائر والنذور .
ولا ينسينا الهدف العظيم الذي يستهدفه السياق القرآني بهذا الاستعراض ، أن نقف لحظات أمام روعة المشاهد وحيويتها وحركتها وإيحاءاتها العجيبة . فهي من هذه الوجهة كفء للهدف العظيم الذي تتوخاه . .
إن دورة التصور والشعور مع دورة الليل والنهار في هذا الفلك الدوار ، والليل يطلب النهار حثيثاً ، ويريده مجتهداً ! لهي دورة لا يملك الوجدان ألا يتابعها ؛ وألا يدور معها ! وألا يرقب هذا السباق الجبار بين الليل والنهار ، بقلب مرتعش ونفس لاهث ! وكله حركة وتوفز ، وكله تطلع وانتظار !
إن جمال الحركة وحيويتها و " تشخيص " الليل والنهار في سمت الشخص الواعي ذي الإرادة والقصد . . إن هذا كله مستوى من جمال التصوير والتعبير لا يرقى إليه فنّ بشري على الإطلاق !
إن الألفة التي تقتل الكون ومشاهده في الحس ؛ وتطبع النظرة إليه بطابع البلادة والغفلة . . إن هذه الألفة لتتوارى ، ليحل محلها وقع المشهد الجديد الرائع الذي يطالع الفطرة كأنما لأول وهلة ! . . إن الليل والنهار في هذا التعبير ليسا مجرد ظاهرتين طبيعيتين مكرورتين . وإنما هما حيان ذوا حس وروح وقصد واتجاه . يعاطفان البشر ويشاركانهم حركة الحياة ؛ وحركة الصراع والمنافسة والسباق التي تطبع الحياة !
كذلك هذه الشمس والقمر والنجوم . . إنها كائنات حية ذات روح ! إنها تتلقى أمر الله وتنفذه ، وتخضع له وتسير وفقه . إنها مسخرة ، تتلقى وتستجيب ، وتمضي حيث أمرت كما يمضي الأحياء في طاعة الله !
ومن هنا يهتز الضمير البشري ؛ وينساق للإستجابة ، في موكب الأحياء المستجيبة . ومن هنا هذا السلطان للقرآن الذي ليس لكلام البشر . . إنه يخاطب فطرة الإنسان بهذا السلطان المستمد من قائله - سبحانه - الخبير بمداخل القلوب وأسرار الفطر . .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ رَبّكُمُ اللّهُ الّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الْلّيْلَ النّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنّجُومَ مُسَخّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبّ الْعَالَمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : إن سيدكم ومصلح أموركم أيها الناس ، هو المعبود الذي له العبادة من كلّ شيء الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ، وذلك يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن مجاهد ، قال : بدء الخلق : العرش والماء والهواء ، وخلقت الأرض من الماء ، وكان بدء الخلق يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وجمع الخلق في يوم الجمعة ، وتهوّدت اليهود يوم السبت ، ويوم من الستة الأيام كألف سنة مما تعدّون .
ثُمّ اسْتَوَى على العَرْشِ وقد ذكرنا معنى الاستواء واختلاف الناس فيه فيما مضى قبل لما أغنى عن إعادته .
وأما قوله : يُغْشِي اللّيْلَ النّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثا فإنه يقول : يورد الليل على النهار فيلبسه إياه ، حتى يذهب نضرته ونوره . يَطْلُبُهُ يقول : يطلب الليل النهار حَثِيثا يعني سريعا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّبن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يَطْلُبُهُ حَثِيثا يقول : سريعا .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يُغْشِي اللّيْلَ النّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثا قال : يغشي الليل النهار بضوئه ، ويطلبه سريعا حتى يدركه .
القول في تأويل قوله تعالى : والشّمْسَ والقَمَر وَالنّجُومَ مُسَخّرَاتٍ بِأْمْرِهِ ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبّ العالَمِين .
يقول تعالى ذكره : إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم ، كلّ ذلك بأمره ، أمرهن الله فأطعن أمره ، ألا لله الخلق كله ، والأمر الذي لا يخالف ولا يردّ أمره دون ما سواه من الأشياء كلها ، ودون ما عبده المشركون من الاَلهة والأوثان التي لا تضرّ ولا تنفع ولا تخلق ولا تأمر ، تبارك الله معبودنا الذي له عبادة كلّ شيء ربّ العالمين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام أبو عبد الرحمن ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، قال : ثني عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاريّ ، عن عبد العزيز الشامي ، عن أبيه ، وكانت له صحبة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ لَمْ يَحْمَدِ اللّهَ على ما عَمِلَ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ ، وحَمِدَ نَفْسَهُ ، قَلّ شُكْرُهُ وَحَبِطَ عَمَلُهُ . وَمَنْ زَعَمَ أنّ اللّهَ جَعَلَ للعِبادِ مِنَ الأمْرِ شَيْئا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ على أنْبِيائِهِ لقوله : ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبّ العالَمِينَ » .
وقوله تعالى : { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام } الآية ، خطاب عام يقتضي التوحيد والحجة وعليه بدلائله ، والرب أصله في اللغة المصلح من رب يرب وهو يجمع في جهة ذكر الله تعالى المالك والسيد وغير ذلك من استعمالات العرب ، ولا يقال الرب معرفاً إلا لله ، وإنما يقال في البشر بإضافة ، وروى بكار بن الشقير «إن ربكم اللهَ » بنصب الهاء ، وقوله { في ستة أيام } حكى الطبري عن مجاهد أن اليوم كألف سنة ، وهذا كله والساعة اليسيرة سواء في قدرة الله تعالى ، وأما وجه الحكمة في ذلك فمما انفرد الله عز وجل بعلمه كسائر أحوال الشرائع ، وما ذهب إليه من أراد أن يوجه هذا كالمهدوي وغيره تخرص ، وجاء في التفسير وفي الأحاديث أن الله ابتدأ الخلق يوم الأحد وكملت المخلوقات يوم الجمعة ، ثم بقي دون خلق يوم السبت ، ومن ذلك اختارته اليهود لراحتها ، وعلى هذا توالت تفاسير الطبري وغيره ، ولليهود لعنهم الله تعالى في هذا كلام سوء تعالى الله عما يصفون .
ووقع حديث في كتاب مسلم بن الحجاج في كتاب الدلائل لثابت السرقسطي ، أن الله تعالى خلق التربة يوم السبت وذكره مكي في الهداية ، وقوله تعالى : { استوى على العرش } معناه عند أبي المعالي وغيره من حذاق المتكلمين بالملك والسلطان ، وخص العرش بالذكر تشريفاً له إذ هو أعظم المخلوقات ، وقال سفيان الثوري : فعل فعلاً في العرش سماه استواء .
قال القاضي أبو محمد : و { العرش } مخلوق معين جسم ما ، هذا الذي قررته الشريعة ، وبلغني عن أبي الفضيل بن النحوي أنه قال : العرش مصدر عرش يعرش عرشاً ، والمراد بقوله { استوى على العرش } هذا .
قال القاضي أبو محمد : وهذا خروج كثير عن ما فهم من العرش في غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «يُغشي » من أغشى ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي «يعشّي » بالتشديد من غشّى ، وهما طريقان في تعدية «غشي » إلى مفعول ثان ، وقرأ حميد «يغَشَى » بفتح الياء والشين ونصب «الليلَ » ورفع «النهارُ » ، كذا قال أبو الفتح وقال أبو عمرو الداني برفع «الليلُ » .
قال القاضي أبو محمد : وأبو الفتح أثبت و { حثيثاً } معناه سريعاً ، و { يطلبه حثيثاً } حال من الليل بحسب اللفظ على قراءة الجماعة ، ومن النهار بحسب المعنى ، وأما على قراءة حميد فمن النهار في الوجهين ، ويحتمل أن يكون حالاً منهما ، ومثله قوله تعالى : { فأتت به قومها تحمله } فيصح أن يكون { تحمله } حالاً منها ، وأن يكون حالاً منه وأن يكون حالاًَ منهما و { مسخرات } في موضع الحال ، وقرأ ابن عامر وحده من السبعة و «الشمسُ والقمرُ والنجومُ مسخراتٌ » بالرفع في جميعها ، ونصب الباقون هذه الحروف كلها ، وقرأ أبان بن تغلب و «الشمسَ والقمرَ » بالنصب ، و «النجومُ مسخراتٌ » بالرفع .
و { ألا } استفتاح كلام فاستفتح بها في هذا الموضع هذا الخبر الصادق المرشد .
قال القاضي أبو محمد : وأخذ المفسرون { الخلق } بمعنى المخلوقات . أي هي له كلها وملكه واختراعه ، وأخذوا { الأمر } مصدراً من أمر يأمر ، وعلى هذا قال النقاش وغيره : إن الآية ترد على القائلين بخلق القرآن لأنه فرق فيها بين المخلوقات وبين الكلام إذ الأمر كلامه عز وجل .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن تؤخذ لفظة { الخلق } على المصدر من خلق يخلق خلقاً أي له هذه الصفة إذ هو الموجد للأشياء بعد العدم ، ويؤخذ { الأمر } على أنه واحد من الأمور إلا أنه يدل على الجنس فيكون بمنزلة قوله { وإليه يرجع الأمر كله } وبمنزلة قوله { وإلى الله ترجع الأمور } فإذا أخذت اللفظتان هكذا خرجتا عن مسألة الكلام .
قال القاضي أبو محمد : ولما تقدم في الآية خلق وبأمره تأكد في آخره أن { له الخلق والأمر } المصدرين حسب تقدمهما ، وكيف ما تأولت الآية فالجميع لله ، وأسند الطبري إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «من زعم أن الله تعالى جعل لأحد من العباد شيئاً من الأمر فقد كفر بما أنزل الله لقوله تعالى : { ألا له الخلق والأمر } » ، قال النقاش : ذكر الله الإنسان في القرآن في ثمانية عشر موضعاً في جميعها أنه مخلوق ، وذكر القرآن في أربعة وخمسين موضعاً ليس في واحد منها إشارة إلى أنه مخلوق ، وقال الشعبي { الخلق } عبارة عن الدنيا و { الأمر } عبارة عن الآخرة ، و { تبارك } معناه عظم وتعالى وكثرت بركاته ، ولا يوصف بها إلا الله تعالى ، و { تبارك } لا يتصرف في كلام العرب ، لا يقال منه يتبارك ، وهذا منصوص عليه لأهل اللسان .
قال القاضي أبو محمد : وعلة ذلك أن { تبارك } لما لم يوصف بها غير الله تعالى لم تقتض مستقبلاً إذ الله قد تبارك في الأزل ، وقد غلط بها أبو علي القالي فقيل له كيف المستقبل من تبارك ؟ فقال يتبارك فوقف على أن العرب ، لم تقله ، و «الرب » السيد المصلح ، و { العالمين } جمع عالم .
جاءت أغراض هذه السّورة متناسبة متماسكة ، فإنّها ابتدئت بذكر القرآن والأمرِ باتّباعه ونبذِ ما يصدّ عنه وهو اتّباع الشّرك ؛ ثمّ التّذكيرِ بالأمم التي أعرضت عن طاعة رسل الله ، ثمّ الاستدلال على وحدانية الله ، والامتنانِ بخلق الأرض والتّمكين منها ، وبخلق أصل البشر وخَلقهم ، وخُلَل ذلك بالتّذكير بعداوة الشّيطان لأصل البشر وللبشر في قوله : { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } [ الأعراف : 16 ] . وانتُقل من ذلك إلى التّنديد على المشركين فيما اتّبعوا فيه تسويل الشّيطان من قوله : { وإذا فعلوا فاحشة } [ الأعراف : 28 ] ، ثمّ بتذكيرهم بالعهد الذي أخذه الله على البشر في قوله : { يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم } [ الأعراف : 35 ] الآية . وبأن المشركين ظَلموا بنكث العهد بقوله : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته } [ الأعراف : 37 ] وتوعدهم وذكّرهم أحوال أهل الآخرة ، وعَقِب ذلك عاد إلى ذكر القرآن بقوله : { ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم } [ الأعراف : 52 ] وأنهاه بالتّذييل بقوله : { قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون } [ الأعراف : 53 ] .
فلا جرم تهيأت الأسماع والقلوب لتلقي الحجّة على أنّ الله إله واحد ، وأنّ آلهة المشركين ضلال وباطل ، ثمّ لِبيان عظيم قدرته ومجده فلذلك استؤنف بجملة { إن ربكم الله } الآية ، استئنافاً ابتدائياً عاد به التّذكير إلى صدر السّورة في قوله : { ولا تتبعوا من دونه أولياء } [ الأعراف : 3 ] ، فكان ما في صدر السّورة بمنزلة المطلوب المنطقي ، وكان ما بعده بمنزله البرهان ، وكان قوله : { إن ربكم الله } بمنزلة النّتيجة للبرهان ، والنتيجة مساوية للمطلوب إلاّ أنّها تؤخَذُ أوضحَ وأشد تفصيلاً .
فالخطاب موجّه إلى المشركين ابتداء ، ولذلك كان للتّأكيد بحرف ( إنّ ) موقعه لرد إنكار المشركين انفراد الله بالرّبوبيه . وإذ كان ما اشتملت عليه هذه الآية يزيد المسلمين بصيرة بعظم مجد الله وسعة ملكه ، ويزيدهم ذكرى بدلائل قدرته ، كان الخطاب صالحاً لتناول المسلمين ، لصلاحية ضمير الخطاب لذلك ، ولا يكون حرف ( إن ) بالنّسبة إليهم سدى ، لأنّه يفيد الاهتمام بالخبر ، لأنّ فيه حظاً للفريقين ، ولأنّ بعض ما اشتمل عليه ( ما ) هو بالمؤمنين أعلق مثل { ادعوا ربكم تضرعاً وخفية } [ الأعراف : 55 ] وقوله : { إن رحمت الله قريب من المحسنين } [ الأعراف : 56 ] وبعضه بالكافرين أنسب مثل قوله : { كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون } [ الأعراف : 57 ] .
وقد جعل المخبرُ عنه الرب ، والخبرُ اسمَ الجلالة : لأن المعنى أنّ الرب لكم المعلومَ عندكم هو الذي اسمه الدال على ذاته : اللَّهُ ، لا غيره ممَن ليس له هذا الاسم ، على ما هو الشّأن ، فهي تعريف المسند في نحو : أنا أخوك ، يقال لمن يعرف المتكلّم ويعرف أنّ له أخاً ولا يعرف أنّ المتكلم هو أخوه . فالمقصود من تعريف المسند إفادة ما يسمّى في المنطق بحمل المواطاة ، وهو حمل ( هُو هُو ) ولذلك يخيّر المتكلّم في جعل أحد الجزأين مسند إليه ، وجعل الآخر مسنداً ، لأنّ كليهما معروف عند المخاطب ، وإنّما الشّأن أن يجعل أقواهما معرفة عند المخاطب هو المسندَ إليه .
ليكون الحمل أجدى إفادة ، ومن هذا القبيل قول المعرّي يصف فارساً في غارة :
يخُوض بَحْراً نَقْعه ماؤُه *** يحُمله السّابح في لِبْدِهِ
إذ قد عَلِم السامع أنّ للفارس عند الغارة نقعاً . وعلم أنّ الشّاعر أثبت للفارس بَحراً وأنّ للبحر ماء ، فقد صار النّقع والبحر معلومين للسّامع ، فأفاده أنّ نقع الفارس هو ماء البحر المزعوم ، لأنّه أجدى لمناسبة استعارة البحر للنّقع ، وإلاّ فما كان يعوز المعرّي أن يقول : ماؤه نقعه فمن انتقد البيت فإنّه لم ينصفه .
وأُكِّد هذا الخبر بحرف التّوكيد ، وإن كان المشركون يثبتون الربوبيّة لله ، والمسلمون لا يمترون في ذلك ، لتنزيل المشركين مِن المخاطبين منزلة من يتردّد في كون الله ربّاً لهم لكثرة إعراضهم عنه في عباداتهم وتوجهاتهم .
وقولُه : { الذي خلق السموات والأرض } صفة لاسم الجلالة ، والصّلة مؤذنة بالإيماء إلى وجه بناء الخبر المتقدّم ، وهو { إن ربكم الله } لأنّ خلق السّماوات والأرض يكفيهم دليلاً على انفراده بالإلهية ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } بسورة الأنعام ( 1 ) .
وقوله : { في ستة أيام ثم استوى على العرش } تعليم بعظيم قدرته ، ويحصل منه للمشركين زيادة شعور بضلالهم في تشريك غيره في الإلهية ، فلا يدلّ قوله : { في ستة أيام } على أنّ أهل مكّة كانوا يعلمون ذلك ، وفيه تحَدّ لأهل الكتاب كما في قوله تعالى : { أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل } [ الشعراء : 197 ] وليس القصد من قوله : { في ستة أيام } الاستدلال على الواحدانية ، إذ لا دلالة فيه على ذلك .
وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون خلق السّماوات والأرض مدّرجاً ، وأن لا يكون دفعة ، لأنّه جعل العوالم متولِّداً بعضُها من بعض ، لتكون أتقن صنعاً ممّا لو خُلقت دَفعة ، وليكون هذا الخلق مَظْهَراً لصفتي علممِ الله تعالى وقدرتِه ، فالقدرة صالحة لخلقها دفعة ، لكنّ العلم والحكمة اقتضيا هذا التّدرج ، وكانت تلك المدّة أقل زمن يحصل فيه المراد من التّولّد بعظيم القدرة . ولعلّ تكرّر ذكر هذه الأيّام في آيات كثيرة لقصد التّنبيه إلى هذه النّكتة البديعة ، من كونها مظهر سعة العلم وسعة القدرة .
وظاهر الآيات أنّ الأيّام هي المعروفة للنّاس ، التي هي جمعُ اليوم الذي هو مدّة تقدّر من مبدأ ظهور الشّمس في المشرق إلى ظهُورها في ذلك المكان ثانية ، وعلى هذا التّفسير فالتّقدير في ما يماثل تلك المدّة ستّ مرّات ، لأنّ حقيقة اليوم بهذا المعنى لم تتحقّق إلاّ بعد تمام خلق السّماء والأرض ، ليمكن ظهور نور الشّمس على نصف الكرة الأرضية وظهور الظلمة على ذلك النّصف إلى ظهور الشّمس مرّة ثانية ، وقد قيل : إنّ الأيّام هنا جمع اليوم من أيّام الله تعالى الذي هو مدّة ألف سنة ، فستّة أيام عبارة عن ستّة آلاف من السّنين نظراً لقوله تعالى : { وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون } [ الحج : 47 ] وقوله : { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون } [ السجدة : 5 ] ، ونقل ذلك عن زيد بن أرقم واختاره النّقاش ، وما هو ببعيد ، وإن كان مخالفاً لما في التّوراة ، وقيل المراد : في ستّة أوقات ، فإنّ اليوم يطلق على الوقت كما في قوله تعالى : { ومن يولهم يومئذ دبره } [ الأنفال : 16 ] أي حين إذ يلقاهم زَحْفاً ، ومقصود هذا القائل أنّ السماوات والأرض خُلقت عالَماً بعد عالم ولم يشترك جميعُها في أوقات تكوينها ، وأيّاً مّا كان فالأيام مراد بها مقادير لا الأيام التي واحدها يوم الذي هو من طلوع الشّمس إلى غروبها إذ لم تكن شمس في بعض تلك المدّة ، والتّعمّق في البحث في هذا خروج عن غرض القرآن .
والاستواء حقيقتهُ الاعتدال ، والذي يؤخذ من كلام المحقّقين من علماء اللّغة والمفسّرين أنّه حقيقة في الارتفاع والاعتلاء ، كما في قوله تعالى في صفة جبريل { فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى } [ النجم : 6 8 ] .
والاستواء له معان متفرّعة عن حقيقته ، أشهرها القصد والاعتلاء ، وقد التُزم هذا اللّفظ في القرآن مسنداً إلى ضمير الجلالة عند الإخبار عن أحوال سماوية ، كما في هذا الآية . ونظائرُها سبعُ آيات من القرآن : هنا . وفي يونس ، والرّعد ، وطه ، والفرقان ، وألم السجدة ، والحديد ، وفُصِّلت . فظهر لي أنّ لهذا الفعل خصوصيّة في كلام العرب كان بِسببها أجدرَ بالدّلالة على المعنى المرادِ تبليغُه مجملاً ممّا يليق بصفات الله ويقرّب إلى الأفهام من معنى عظمته ، ولذلك اختِير في هذه الآيات دون غيره من الأفعال التي فسّره بها المفسّرون .
فالاستواء يعبِّر عن شأن عظيم من شؤون عظمة الخالق تعالى ، اختير التّعبير به على طريق الاستعارة والتّمثيلِ : لأنّ معناه أقرب معاني المواد العربيّة إلى المعنى المعبّر عنه من شؤونه تعالى ، فإنّ الله لمّا أراد تعليم معاننٍ من عالم الغيب لم يكن يتأتى ذلك في اللّغة إلاّ بأمثلة معلومة من عالم الشّهادة ، فلم يكن بد من التّعبير عن المعاني المغيّبة بعبارات تقرّبها ممّا يعبر به عن عالم الشّهادة ، ولذلك يكثر في القرآن ذكر الاستعارات التّمثيليّة والتّخييليّة في مثل هذا .
وقد كان السّلف يتلقّون أمثالها بلا بحثٍ ولا سؤال لأنّهم علموا المقصود الإجمالي منها فاقتنعوا بالمعنى مجملاً ، ويسمّون أمثالَها بالمتشابهات ، ثمّ لمّا ظهر عصر ابتداء البحث كانوا إذا سئلوا عن هذه الآية يقولون : استوى الله على العرش ولا نعرف لذلك كيفاً ، وقد بيّنتُ أنّ مثل هذا من القسم الثّاني من المتشابه عند قوله تعالى : { وأخر متشابهات } في سورة آل عمران ( 7 ) ، فكانوا يأبون تأويلها . وقد حكى عياض في « المدارك » عن سفيان بن عيينة أنّه قال : سأل رجل مالكاً فقال : الرّحمانُ على العرش استوى .
كيفَ استوى يا أبا عبد الله ؛ فسكت مالكٌ مليّاً حتّى علاه الرّحَضاء ثمّ سُرّيَ عنه ، فقال : « الاستواء معلوم والكيف غير معقول والسؤال عن هذا بدعة والإيمان به واجب وإنّي لأظنّك ضالاً » واشتهر هذا عن مالك في روايات كثيرة ، وفي بعضها أنّه قال لمن سأله : « وأظنّك رجُلَ سوء أخْرِجُوه عنّي » وأنّه قال : « والسؤالُ عنه بدعة » . وعن سفيان الثّوري أنّه سئل عنها : « فقال : فَعَلَ الله فعلا في العرش سمّاه استواء » . قد تأوّله المتأخّرون من الأشاعرة تأويلات ، أحسنها : ما جنح إليه إمام الحرمين أنّ المراد بالاستواء الاستيلاء بقرينة تعديته بحرف على ، وأنشدوا على وجه الاستيناس لذلك قولَ الأخطل :
قد استوى بِشْرٌ على العراق *** بغيرِ سيف ودم مُهْرَاق
وأُراه بعيداً ، لأنّ العرش ما هو إلاّ من مخلوقاته فلا وجه للإخبار باستيلائه عليه ، مع احتمال أن يكون الأخطل قد انتزعه من هذه الآية ، وقد قال أهل اللّغة : إنّ معانيه تختلف باختلاف تعديته بعَلى أو بإلى ، قال البخاري ، عن مجاهد : استوى عَلا على العرش ، وعن أبي العالية : استوى إلى السّماء ارتفع فسَوى خلقهن .
وأحسب أنّ استعارته تختلف بقرينة الحَرف الذي يُعدّى به فعله ، فإن عُدّي بحرف ( على ) كما في هذه الآية ونظائرها فهو مستعار من معنى الاعتلاء ، مستعمل في اعتلاء مجازي يدلّ على معنى التّمكّن ، فيحتمل أنّه أريد منه التّمثيل ، وهو تمثيل شأنِ تصرّفه تعالى بتدبير العوالم ، ولذلك نجده بهذا التّركيب في الآيات السّبع واقعاً عقب ذكر خلق السّماوات والأرض ، فالمعنى حينئذ : خلقَها ثمّ هو يدبّر أمورها تدبير المَلِك أمور مملكته مستوياً على عَرشه . وممّا يقرب هذا المعنى قول النّبيء صلى الله عليه وسلم " يَقْبِض الله الأرضَ ويطوي السّماوات يومَ القيامة ثمّ يقول : أنا المَلِك أيْنَ ملوك الأرض " . ولذلكَ أيضاً عُقب هذا التّركيب في مواقعه كلّها بما فيه معنى التّصرف كقوله هنا { يغشى الليل النهار } الخ ، وقوله في سورة يونس ( 3 ) : { يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه } وقوله في سورة الرّعد ( 2 ) : { وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات } وقوله في سورة ألم السجدة ( 4 ، 5 ) : { مالكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون يدبر الأمر من السماء إلى الأرض } وكمال هذا التّمثيل يقتضي أن يكون كلّ جزءٍ من أجزاء الهيئة الممثّلة مشبهاً بجزء من أجزاء الهيئة الممثَّل بها ، فيقتضي أن يكون ثمة موجود من أجزاء الهيئة الممثّلة مشابهاً لعرش المَلك في العظمة ، وكونه مصدر التّدبير والتّصرف الإلهي يفيض على العوالم قوى تدبيرها . وقد دلّت الآثار الصّحيحة من أقوال الرّسول عليه الصّلاة والسّلام على وجود هذا المخلوق العظيم المسمّى بالعرش كما سنبيّنه .
فأمّا إذا عُدّي فعل الاستواء بحرف اللاّم فهو مستعار من معنى القصد والتّوجّه إلى معنى تعلّق الإرادة ، كما في قوله : { ثم استوى إلى السماء } [ البقرة : 29 ] . وقد نحا صاحب « الكشاف » نحواً من هذا المعنى ، إلاّ أنّه سلك به طريقة الكناية عن المُلك : يقولون استوى فلان على العرش يريدون مُلك .
والعرش حقيقته الكرسي المرتفع الذي يجلس عليْه المَلِك ، قال تعالى : { ولها عرش عظيم } [ النما : 23 ] وقال : { ورفع أبويه على العرش } [ يوسف : 100 ] ، وهو في هذه الآية ونظائرها مستعمل جزءا من التّشبيه المركّب ، ومن بداعة هذا التّشبيه أن كان كلّ جزء من أجزاءِ الهيئة المشبهة مماثلاً لجزءٍ من أجزاء الهيئة المشبَّه بها ، وذلك أكمل التّمثيل في البلاغة العربيّة ، كما قدّمتُه آنفاً . وإذ قد كان هذا التّمثيل مقصوداً لتقريب شأن من شؤون عظمة مُلك الله بحال هيئةٍ من الهيئات المتعارفة ، ناسب أن يشتمل على ما هو شعار أعظم المدبّرين للأمور المتعارفة أعني الملوك ، وذلك شعارُ العرش الذي من حَوْله تصدر تصرّفات الملك ، فإنّ تدبير الله لمخلوقاته بأمر التّكوين يكون صدوره بواسطة الملائكة ، وقد بيّن القرآن عَمَل بعضهم مثل جبريل عليه السّلام وملَككِ الموت ، وبيَّنت السنة بعضها : فذكرت ملك الجبال ، وملك الرّياح ، والملك الذي يباشر تكوين الجنين ، ويكتُب رزقَه وأجلَه وعاقبتَه ، وكذلك أشار القرآن إلى أن من الموجودات العلويّة موجوداً منوّها به سمّاه العرش ذكره القرآن في آيات كثيرة . ولمّا ذكر خلق السّماوات والأرض وذكر العرش ذكره بما يشعر بأنّه موجود قبل هذا الخلق . وبيّنت السنّة أنّ العرش أعظم من السماوات وما فيهن ، من ذلك حديث عمران بن حصين أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم قال : " كان الله ولم يكن شيء قبلَه وكان عرشه على الماء ثمّ خلق السّماوات والأرض " وحديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال في حديث طويل : " فإذا سألتم الله فاسألُوه الفِردوس فإنّه أوسط الجنّة ، وأعلَى الجنّة وفوقَه عرش الرّحمان ومنه تفجَّر أنهار الجنّة " وقد قيل إنّ العرشِ هو الكرسي وأنّه المراد في قوله تعالى : { وسع كرسيه السماوات والأرض } كما تقدّم الكلام عليه في سورة البقرة ( 255 ) .
وقد دلّت ( ثُمّ ) في قوله : { ثم استوى على العرش } على التّراخي الرّتبي أي وأعظم من خلق السّماوات والأرض استواءه على العرش ، تنبيهاً على أنّ خلق السّماوات والأرض لم يحدث تغييراً في تصرّفات الله بزيادة ولا نقصان ، ولذلك ذكر الاستواء على العرش عقب ذكر خلق السّماوات والأرض في آيات كثيرة ، ولعلّ المقصد من ذلك إبطال ما يقوله اليهود : إنّ الله استراح في اليوم السّابع فهو كالمقصد من قوله تعالى : { ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } [ ق : 38 ] .
وجملة { يغشى الليل النهار } في موضع الحال من اسم الجلالة ، ذكر به شيء من عموم تدبيره تعالى وتصرّفه المضمّن في الاستواء على العرش ، وتنبيه على المقصود من الاستواء ، ولذلك جاء به في صورة الحال لا في صورة الخبر ، كما ذكر بوجه العموم في آية سورة يونس ( 3 ) وسورة الرّعد ( 2 ) بقوله : { يدبر الأمر } وخصّ هذا التّصرف بالذّكر لما يدلّ عليه من عظيم المقدرة ، وما فيه من عبرة التّغيّر ودليلِ الحدوث ، ولكونه متكرّراً حدوثه في مشاهدة النّاس كلّهم . والإغشاء والتّغشية : جعل الشّيء غاشياً ، والغَشْي والغشيان حقيقته التّغطيّة والغمّ .
فمعنى : { يغشى الليل النهار } أنّ الله يجعل أحدهما غاشياً الآخر .
والغشي مستعار للإخفاء ، لأنّ النّهار يزيل أثر اللّيل واللّيل يزيل أثر النّهار ، ومن بديع الإيجاز ورشاقة التّركيب : جعل الليل والنّهار مفعولين لفعل فاعل الإغشاء ، فهما مفعولان كلاهما صالح لأن يكون فاعل الغشي ، ولهذا استغنى بقوله : { يغشى الليل النهار } عن ذكر عكسه ولم يقل : والنّهار اللّيل ، كما في آية { يكور الليل على النهار } [ الزمر : 5 ] لكن الأصل في ترتيب المفاعيل في هذا الباب أن يكون الأوّلُ هو الفاعل في المعنى ، ويجوز العكس إذا أمِن اللّبس ، وبالأحرى إذا استوى الاحتمالان .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم في رواية حفص { يُغْشِي } بضمّ الياء وسكون الغين وتخفيف الشّين . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية أبي بكر ، ويعقوب ، وخلَف بضمّ الياء وفتح الغين وتشديد الشّين وهما بمعنى واحد في التّعدية .
وجملة : { يطلبه } إن جعلت استينافاً أو بدلَ اشتمال من جملة ( يغشي ) فأمرها واضح ، واحتمل الضّمير المنصوب في ( يطلبه ) أن يعود إلى اللّيل وإلى النّهار ، وإن جعلت حالا تعين أن تعتبر حالاً من أحد المفعولين على السَّواء فإنّ كلاً اللّيل والنّهار يعتبر طالباً ومطلوباً ، تبعاً لاعتبار أحدهما مفعولاً أوّل أو ثانياً .
وشُبّه ظهور ظلام اللّيل في الأفق ممتداً من المشرق إلى المغرب عند الغروب واختفاء نور النّهار في الأفق ساقطاً من المشرق إلى المغرب حتّى يعمّ الظّلامُ الأفقَ بطلب اللّيل النّهارَ ، على طريقة التّمثيل ، وكذلك يفهم تشبيه امتداد ضوء الفجر في الأفق من المشرق إلى المغرب واختفاءُ ظلام اللّيل في الأفق ساقطاً في المغرب حتّى يعمّ الضياء الأفقَ : بطلب النّهار اللّيلَ على وجه التّمثيل ، ولا مانع من اعتبار التّنازع للمفعولين في جملة الحال كما في قوله تعالى : { فأتت به قومها تحمله } [ مريم : 27 ] وقوله : { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } .
والحثيث : المسرع ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، من حثَه إذا أعجله وكَرّر إعجاله ليبادر بالعجلة ، وقريب من هذا قول سلامة من جَنْدَل يذكر انتهاء شبابه وابتداء عصر شيْبه :
أوْدَى الشّبابُ الذي مَجْدٌ عواقِبه *** فيهِ نَلَذَّ ولا لَــذّاتِ للشّيب
ولَّى حثيثاً وهذا الشّيبُ يَتَبَعُه *** لو كان يُدْرِكه ركْضُ اليَعاقيبِ
فالمعنى يطلبه سريعاً مُجدّاً في السّرعة لأنّه لا يلبث أن يعفى أثره .
{ والشمس والقمر والنجوم } بالنّصب في قراءة الجمهور معطوفات على السّماوات والأرض ، أي وخلق الشّمسَ والقمر والنّجوم ، وهي من أعظم المخلوقات التي اشتملت عليها السّماوات .
و { مسخرات } حال من المذكورات .
وقرأ ابن عامر برفع { الشمس } وما عطف عليه ورفْععِ { مسخرات } ، فتكون الجملة حالا من ضمير اسم الجلاله كقوله : { يغشى الليل النهار } .
وتقدّم الكلام على اللّيل والنّهار عند قوله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار } في سورة البقرة ( 164 ) ويأتي في سورة الشّمس .
والتّسخير حقيقته تذلِيل ذي عمل شاققٍ أو شاغللٍ بقهر وتخويف أو بتعليم وسياسة بدون عوض ، فمنه تسخير العبيد والأسرى ، ومنه تسخير الأفراس والرّواحل ، ومنه تسخير البقر للحلب ، والغنم للجزّ . ويستعمل مجازاً في تصريف الشّيء غير ذي الإرادة في عمل عجيب أو عظيم من شأنه أن يصعب استعماله فيه ، بحيلة أو إلهام تصريفاً يصيّره من خصائصه وشؤونه ، كتسخير الفُلك للمخر في البحر بالرّيح أو بالجذف ، وتسخير السّحاب للأمطار ، وتسخير النّهار للعمل ، واللّيل للسّكون ، وتسخير اللّيل للسّير في الصّيف ، والشّمس للدّفء في الشّتاء ، والظلّ للتبرد في الصّيف ، وتسخير الشّجر للأكل من ثماره حيث خلق مجرّداً عن موانع تمنع من اجتنائه مثل الشّوك الشّديد ، فالأسد غير مسخّر بهذا المعنى ولكنّه بحيث يسخر إذا شاء الإنسان الانتفاع بلحمه أو جلده بحيلة لصيده بزُبية أو نحوها ، ولذلك قال الله تعالى : { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه } [ الجاثية : 13 ] باعتبار هذا المجاز على تفاوت في قوّة العلاقة . فقوله : { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } أطلق التّسخير فيه مجازاً على جعلها خاضعة للنّظام الذي خلقها الله عليه بدون تغيير ، مع أنّ شأن عظمها أن لا يستطيعَ غيره تعالى وضعها على نظام محدود منضبط .
ولفظ الأمر في قوله : { بأمره } مستعمل مجازاً في التّصريف بحسب القدرة الجارية على وفق الإرادة . ومنه أمر التّكوين المعبّر عنه في القرآن بقوله : { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } [ يس : 82 ] لأن ( كن ) تقريب لنفاذ القدرة المسمّى بالتّعلّق التّسخيري عند تعلّق الإرادة التّنجيزي أيضاً فالأمر هنا من ذلك ، وهو تصريف نظام الموجودات كلّها .
وجملة : { ألا له الخلق والأمر } مستأنفة استئناف التّذييل للكلام السّابق من قوله : { الذي خلق السموات والأرض } لإفادة تعميم الخَلْق . والتّقدير : لما ذُكر آنفاً ولِغيره . فالخلق : إيجاد الموجودات ، والأمر تسخيرها للعمل الذي خلقت لأجله .
وافتتحت الجملة بحرف التّنبيه لتَعِي نفوسُ السّامعين هذا الكلام الجامع .
واللام الجارة لضمير الجلالة لام المِلك . وتقديم المسند هنا لتخصيصه بالمسند إليه .
والتّعريف في الخلق والأمر تعريف الجنس ، فتفيد الجملة قصر جنس الخلق وجنس الأمر على الكون في مِلك الله تعالى ، فليس لغيره شيء من هدا الجنس ، وهو قصر إضافي معناه : ليس لآلهتهم شيء من الخلق ولا من الأمر ، وأمّا قصر الجنس في الواقع على الكون في مِلك الله تعالى فذلك يرجع فيه إلى القرائن ، فالخلق مقصور حقيقة على الكون في ملكه تعالى ، وأمّا الأمر فهو مقصور على الكون في ملك الله قصراً ادعائياً لأنّ لكثيرٍ من الموجودات تدبيرَ أمور كثيرة ، ولكن لما كان المدبِّر مخلوقاً لله تعالى كان تدبيره راجعاً إلى تدبير الله كما قيل في قصر جنس الحمْد في قوله : { الحمد لله } [ الفاتحة : 2 ] .
وجملة { تبارك الله رب العالمين } تذييل معترضة بين جملة { إن ربكم الله } وجملة { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } [ الأعراف : 55 ] إذ قد تهيّأ المقام للتّذكير بفضل الله على النّاس ، وبنافع تصرّفاته ، عقب ما أجرى من إخبار عن عظيم قدرته وسعة علمه وإتقانِ صنعه .
وفعل { تبارك } في صورة اشتقاقه يؤذن بإظهار الوصف على صاحبه المتّصف به مثل : تثاقل ، أظهر الثّقل في العمل ، وتعال ، أي أظهر العلّة ، وتعاظم : أظهر العظمة ، وقد يستعمل بمعنى ظهور الفعل على المتّصف به ظهوراً بيِّناً حتى كأنّ صاحبه يُظهره ، ومنه : { تعالى الله } [ النمل : 63 ] أي ظَهر علوّه ، أي شرفه على الموجودات كلّها ، ومنه { تبارك } أي ظَهرت بركته .
والبركة : شدّة الخير ، وقد تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً } في سورة آل عمران ( 96 ) ، وقوله : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } في سورة الأنعام ( 92 ) . فبركة الله الموصوفُ بها هي مجده ونزاهته وقدسه ، وذلك جامع صفات الكمال ، ومن ذلك أنّ له الخلق والأمر .
وإتْباع اسم الجلالة بالوصف وهو رب العالمين في معنى البيان لاستحقاقه البركة والمجد ، لأنّه مفيض خيرات الإيجاد والإمداد ، ومدبّر أحوال الموجودات ، بوصف كونه ربّ أنواع المخلوقات ، ومضى الكلام على { العالمين } في سورة الفاتحة ( 2 ) .