ثم وصف تفصيلها فقال : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } أي : صدقا في الأخبار ، وعدلا في الأمر والنهي . فلا أصدق من أخبار الله التي أودعها هذا الكتاب العزيز ، ولا أعدل من أوامره ونواهيه { لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } [ حيث حفظها وأحكمها بأعلى أنواع الصدق ، وبغاية الحق ، فلا يمكن تغييرها ، ولا اقتراح أحسن منها ]{[302]} .
{ وَهُوَ السَّمِيعُ } لسائر الأصوات ، باختلاف اللغات على تفنن الحاجات . { الْعَلِيمُ } الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن ، والماضي والمستقبل .
ثم بين - سبحانه - أن هذا الكتاب كامل من حيث ذاته بعد أن بين كماله من حيث إضافته إليه - تعالى - بكونه منزلا منه بالحق فقال - تعالى - : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } وقرىء ( كلمات ربك ) .
والمراد بها - كما قال قتادى وغيره - القرآن .
أى : كمل كلامه - تعالى - وهو القرآن ، وبلغ الغاية فى صدق أخباره ومواعيده ، وفى عدل أحكامه وقضاياه .
وصدقا وعدلا مصدران منصوبان على الحال من { رَبِّكَ } أو من { كَلِمَتُ } وقيل : هما منصوبان على التمييز .
وجملة { لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ } مستأنفة لبيان فضل هذه الكلمات على غيرها أثر بيان فضلها فى ذاتها . أى : لا مغير لها بخلف فى الأخبار ، أو نقض فى الأحكام ، أو تحريف أو تبديل كما حدث فى التوراة والإنجيل ، وهذا ضمان من الله - تعالى - لكتابه بالحفظ والصيانة ، قال - تعالى - { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ثم ختمت الآية بقوله { وَهُوَ السميع العليم } أى : هو - سبحانه - السميع لكل ما من شأنه أن يسمع ، العليم بكل ما يسرون وما يعلنون .
ويمضي السياق في هذا الاتجاه ؛ يقرر أن كلمة الله الفاصلة قد تمت ؛ وأنه لا مبدل لها بفعل الخلق ، بالغاً ما بلغ كيدهم :
( وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً ، لا مبدل لكلماته ، وهو السميع العليم ) . .
لقد تمت كلمة الله - سبحانه - صدقاً - فيما قال وقرر - وعدلاً - فيما شرع وحكم - فلم يبق بعد ذلك قول لقائل في عقيدة أو تصور أو أصل أو مبدأ أو قيمة أو ميزان . ولم يبق بعد ذلك قول لقائل في شريعة أو حكم ، او عادة أو تقليد . . ولا معقب لحكمه ولا مجير عليه . .
الذي يسمع ما يقوله عباده ، ويعلم ما وراءه ، كما يعلم ما يصلح لهم ، وما يصلحهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَمّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاّ مُبَدّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ } .
يقول تعالى ذكره : وكملت كلمة ربك ، يعني القرآن ، سماه كلمة كما تقول العرب للقصيدة من الشعر يقولها الشاعر : هذه كلمة فلان .
صِدْقا وَعَدْلاً يقول : كملت كلمة ربك من الصدق والعدل ، والصدقُ والعدلُ نصبا على التفسير للكلمة ، كما يقال : عندي عشرون درهما .
لا مُبَدّلَ لِكَلَماتِهِ يقول : لا مغّير لما أخبر في كتبه أنه كائن من وقوعه في حينه وأجله الذي أخبر الله أنه واقع فيه . وذلك نظير قوله جلّ ثناؤه : { يُرِيدُونَ أنْ يُبَدّلُوا كَلامَ اللّهِ قُلْ لَنْ تَتّبِعُونا كَذَلِكُمْ قالَ اللّهُ مِنْ قَبْلُ } فكانت إرادتهم تبديل كلام الله مسألتهم نبيّ الله أن يتركهم يحضرون الحرب معه ، وقولهم له ولمن معه من المؤمنين : ذَرُونا نَتّبِعْكُمْ بعد الخبر الذي كان الله أخبرهم تعالى ذكره في كتابه بقوله : فإنْ رَجَعَكَ اللّهُ إلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فاسْتأذَنُوكَ للْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أبَدا وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّا . . . الاَية ، فحاولوا تبديل كلام الله وخبره بأنهم لن يخرجوا مع نبيّ الله في غزاة ، ولن يقاتلوا معه عدوّا بقولهم لهم : { ذَرُونا نَتّبِعْكُمْ }فقال الله جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يريدون أن يبدّلوا بمسألتهم إياهم ذلك كلام الله وخبره قُلْ لَنْ تَتّبِعُونا كَذَلِكُمْ قالَ اللّهُ مِنْ قَبْل .
فكذلك معنى قوله : لا مُبَدّلَ لِكَلِماتِهِ إنما هو : لا مغير لما أخبر عنه من خبر أنه كائن فيبطل مجيئه وكونه ووقوعه ، على ما أخبر جلّ ثناؤه لأنه لا يزيد المفترون في كتب الله ولا ينقصون منها وذلك أن اليهود والنصارى لا شكّ أنهم أهل كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ، وقد أخبر جلّ ثناؤه أنهم يحرّفون غير الذي أخبر أنه لا مبدّل له .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَتمّتْ كَلِمَةُ رَبّك صِدْقا وَعَدْلاً لا مُبَدّلَ لِكَلِماتِهِ يقول : صدقا وعدلاً فيما حكم .
وأما قوله : { وَهُوَ السّمِيعُ العَلِيمُ }فإن معناه : والله السميع لما يقول هؤلاء العادلون بالله ، المقسمون بالله جهد أيمانهم : لئن جاءتهم آية ليؤمننّ بها ، وغير ذلك من كلام خلقه ، العليم بما تَئُول إليه أيمانهم من برّ وصدق وكذب وحنث وغير ذلك من أمور عباده .
{ تمت } في هذا الموضع بمعنى استمرت وصحت في الأزل صدقاً وعدلاً ، وليس بتمام من نقص ، ومثله ما وقع في كتاب السيرة من قولهم وتم حمزة على إسلامه في الحديث مع أبي جهل ، و «الكلمات » ما نزل على عباده ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «كلمة » بالإفراد هنا وفي يونس في الموضعين وفي حم المؤمن . وقرأ نافع وابن عامر جميع ذلك «كلماتُ » بالجمع . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا فقط «كلمات » بالجمع ، وذهب الطبري إلى أنه القرآن كما يقال كلمة فلان في قصيدة الشعر والخطبة البليغة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي بعيد معترض ، وإنما القصد العبارة عن نفوذ قوله تعالى : { صدقاً } فيما تضمنه من خبر { وعدلاً } فيما تضمنه من حكم ، هما مصدران في موضع الحال ، قال الطبري نصباً على التمييز وهذا غير صواب ، و { لا مبدل لكلماته } معناه في معانيها بأن يبين أحد أن خبره بخلاف ما أخبر به أو يبين أن أمره لا ينفذ ، والمثال من هذا أن الله تعالى قال لنبيه عليه السلام { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج } إلى { الخالفين }{[5069]} ، فقال المنافقون بعد ذلك للنبي عليه السلام وللمؤمنين ذرونا نتبعكم فقال الله لنبيه : { يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل }{[5070]} أو في قوله { فقل لن تخرجوا معي أبداً }{[5071]} لأن مضمنه الخبر بأن لا يباح لهم خروج ، وأما الألفاظ فقد بدلتها بنو إسرائيل وغيرتها ، هذا مذهب جماعة من العلماء ، وروي عن ابن عباس أنهم إنما بدلوا بالتأويل والأول أرجح ، وفي حرف أبي بن كعب ، «لا مبدل لكلمات الله » .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.