{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } هذا عقد ، عقده الله بين المؤمنين ، أنه إذا وجد من أي شخص كان ، في مشرق الأرض ومغربها ، الإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، فإنه أخ للمؤمنين ، أخوة توجب أن يحب له المؤمنون ، ما يحبون لأنفسهم ، ويكرهون له ، ما يكرهون لأنفسهم ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم آمرًا بحقوق الأخوة الإيمانية : " لا تحاسدوا ، ولا تناجشوا ، ولا تباغضوا ، ولا يبع أحدكم على بيع بعض ، وكونوا عباد الله إخوانًا المؤمن أخو المؤمن ، لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يحقره " {[799]} .
وقال صلى الله عليه وسلم{[800]} " المؤمن للمؤمن ، كالبنيان يشد بعضه بعضًا " وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه .
ولقد أمر الله ورسوله ، بالقيام بحقوق المؤمنين ، بعضهم لبعض ، وبما به يحصل التآلف والتوادد ، والتواصل بينهم ، كل هذا ، تأييد لحقوق بعضهم على بعض ، فمن ذلك ، إذا وقع الاقتتال بينهم ، الموجب لتفرق القلوب وتباغضها [ وتدابرها ] ، فليصلح المؤمنون بين إخوانهم ، وليسعوا فيما به يزول شنآنهم .
ثم أمر بالتقوى عمومًا ، ورتب على القيام بحقوق المؤمنين وبتقوى الله ، الرحمة [ فقال : { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وإذا حصلت الرحمة ، حصل خير الدنيا والآخرة ، ودل ذلك ، على أن عدم القيام بحقوق المؤمنين ، من أعظم حواجب الرحمة .
وفي هاتين الآيتين من الفوائد ، غير ما تقدم : أن الاقتتال بين المؤمنين مناف للأخوة الإيمانية ، ولهذا ، كان من أكبر الكبائر ، وأن الإيمان ، والأخوة الإيمانية ، لا تزول مع وجود القتال كغيره من الذنوب الكبار ، التي دون الشرك ، وعلى ذلك مذهب أهل السنة والجماعة ، وعلى وجوب الإصلاح ، بين المؤمنين بالعدل ، وعلى وجوب قتال البغاة ، حتى يرجعوا إلى أمر الله ، وعلى أنهم لو رجعوا ، لغير أمر الله ، بأن رجعوا على وجه لا يجوز الإقرار عليه والتزامه ، أنه لا يجوز ذلك ، وأن أموالهم معصومة ، لأن الله أباح دماءهم وقت استمرارهم على بغيهم خاصة ، دون أموالهم .
وقوله : { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ . . } استئناف مقرر لمضمون ما قبله من الأمر بوجوب الإِصلاح بين المتخاصمين .
أى : إنما المؤمنون إخوة فى الدين والعقيدة ، فهم يجمعهم أصل واحد وهو الإِيمان ، كما يجمع الإِخوة أصل واحد وهو النسب ، وكما ان أخوة النسب داعية إلى التواصل والتراحكم والتناصر فى جلب الخير ، وفدع الشر ، فكذلك الأخوة فى الدين تدعوكم إلى التعاطف والتصالح ، وإلى تقوى الله وشخيته ، ومتى تصالحتم واتقيتم الله - تعالى - كنتم أهلا لرحمته ومثوبته .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : فلم خص الإِثنان بالذكر دون الجمع فى قوله : فأصلحوا بين أخويكم - ؟
قلت : لأن أقل من يقع بينهم الشقاق اثنان ، فإذا لزمت المصالحة بين الأقل ، كانت بين الأكثر ألزم ، لأن الفساد فى شقاق الجمع أكثر منه فى شقاق الاثنين .
هذا ، وقد أخذ العلماء من هاتين الآيتين جملة من الأحكام منها :
أن الأصل فى العلاقة بين المؤمنين أن تقوم على التواصل والتراحم ، لا على التنازع والتخاصم ، وأنه إذا حدث نزاع بين طائفتين من المؤمنين ، فعلى بقية المؤمنين أن يقوموا بواجب الإِصلاح بينهما حتى يرجعا إلى حكم الله - تعالى - .
قال الشوكانى : إذا تقاتل فريقان من المسلمين ، فعلى المسلمين أن يسعوا بالصلح بينهم ، ويدعوهم إلى حكم الله فإن حصل بعد ذلك التعدى من إحدى الطائفتين على الأخرى ، ولم تقبل الصلح ولا دخلت فيه ، كان على المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية ، حتى ترجع إلى أمر الله وحكمه ، فإن رجعت تلك الطائفة الباغية عن بغيها ، وأجابت الدعوة إلى كتاب الله وحكمه ، فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين فى الحكم ، ويتحروا الصواب المطابق لحكم الله ، ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة ، حتى تخرج من الظلم ، وتؤدى ما يجب عليها نحو الأخرى .
ويعقب على هذه الدعوة وهذا الحكم باستجاشة قلوب الذين آمنوا واستحياء الرابطة الوثيقة بينهم ، والتي جمعتهم بعد تفرق ، وألفت بينهم بعد خصام ؛ وتذكيرهم بتقوى الله ، والتلويح لهم برحمته التي تنال بتقواه :
( إنما المؤمنون إخوة ، فأصلحوا بين أخويكم ، واتقوا الله لعلكم ترحمون ) . .
ومما يترتب على هذه الأخوة أن يكون الحب والسلام والتعاون والوحدة هي الأصل في الجماعة المسلمة ، وأن يكون الخلاف أو القتال هو الاستثناء الذي يجب أن يرد إلى الأصل فور وقوعه ؛ وأن يستباح في سبيل تقريره قتال المؤمنين الآخرين للبغاة من إخوانهم ليردوهم إلى الصف ، وليزيلوا هذا الخروج على الأصل والقاعدة . وهو إجراء صارم وحازم كذلك .
ومن مقتضيات هذه القاعدة كذلك ألا يجهز على جريح في معارك التحكيم هذه ، وألا يقتل أسير ، وألا يتعقب مدبر ترك المعركة ، وألقى السلاح ، ولا تؤخذ أموال البغاة غنيمة . لأن الغرض من قتالهم ليس هو القضاء عليهم ، وإنما هو ردهم إلى الصف ، وضمهم إلى لواء الأخوة الإسلامية .
والأصل في نظام الأمة المسلمة أن يكون للمسلمين في أنحاء الأرض إمامة واحدة ، وأنه إذا بويع لإمام ، وجب قتل الثاني ، واعتباره ومن معه فئة باغية يقاتلها المؤمنون مع الإمام . وعلى هذا الأصل قام الإمام علي - رضي الله عنه - بقتال البغاة في وقعة الجمل وفي وقعة صفين ؛ وقام معه بقتالهم أجلاء الصحابة رضوان الله عليهم . وقد تخلف بعضهم عن المعركة منهم سعد ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وابن عمر - رضي الله عنهم - إما لأنهم لم يتبينوا وجه الحق في الموقف في حينه فاعتبروها فتنة . وإما لأنهم كما يقول الإمام الجصاص : " ربما رأوا الإمام مكتفيا بمن معه مستغنيا عنهم بأصحابه فاستجازوا القعود عنه لذلك " . . والاحتمال الأول أرجح ، تدل عليه بعض أقوالهم المروية . كما يدل عليه ما روي عن ابن عمر - رضي الله عنه - في ندمه فيما بعد على أنه لم يقاتل مع الإمام .
ومع قيام هذا الأصل فإن النص القرآني يمكن إعماله في جميع الحالات - بما في ذلك الحالات الاستثنائية التي يقوم فيها إمامان أو أكثر في أقطار متفرقة متباعدة من بلاد المسلمين ، وهي حالة ضرورة واستثناء من القاعدة - فواجب المسلمين أن يحاربوا البغاة مع الإمام الواحد ، إذا خرج هؤلاء البغاة عليه . أو إذا بغت طائفة على طائفة في إمامته دون خروج عليه . وواجب المسلمين كذلك أن يقاتلوا البغاة إذا تمثلوا في إحدى الإمامات المتعددة في حالات التعدد الاستثنائية ، بتجمعهم ضد الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله . وهكذا يعمل النص القرآني في جميع الظروف والأحوال .
وواضح أن هذا النظام ، نظام التحكيم وقتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله ، نظام له السبق من حيث الزمن على كل محاولات البشرية في هذا الطريق . وله الكمال والبراءة من العيب والنقص الواضحين في كل محاولات البشرية البائسة القاصرة التي حاولتها في كل تجاربها الكسيحة ! وله بعد هذا وذاك صفة النظافة والأمانة والعدل المطلق ، لأن الاحتكام فيه إلى أمر الله الذي لا يشوبه غرض ولا هوى ، ولا يتعلق به نقص أو قصور . . ولكن البشرية البائسة تطلع وتعرج ، وتكبو وتتعثر . وأمامها الطريق الواضح الممهد المستقيم !
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره لأهل الإيمان به إنّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ في الدين فأَصْلِحُوا بَينَ أخَوَيْكُمْ إذا اقتتلا بأن تحملوهما على حكم الله وحكم رسوله . ومعنى الأخوين في هذا الموضع : كل مقتتلين من أهل الإيمان ، وبالتثنية قرأ ذلك قرّاء الأمصار . وذُكر عن ابن سيرين أنه قرأ «بين إخوانكم » بالنون على مذهب الجمع ، وذلك من جهة العربية صحيح ، غير أنه خلاف لما عليه قرّاء الأمصار ، فلا أحبّ القراءة بها وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ يقول تعالى ذكره : وخافوا الله أيها الناس بأداء فرائضه عليكم في الإصلاح بين المقتتلين من أهل الإيمان بالعدل ، وفي غير ذلك من فرائضه ، واجتناب معاصيه ، ليرحمكم ربكم ، فيصفح لكم عن سالف إجرامكم إذا أنتم أطعتموه ، واتبعتم أمره ونهيه ، واتقيتموه بطاعته .
{ إنما المؤمنون إخوة } من حيث إنهم منتسبون إلى أصل واحد وهو الإيمان الموجب للحياة الأبدية ، وهو تعليل وتقرير للأمر بالإصلاح ولذلك كرره مرتبا عليه بالفاء فقال : { فأصلحوا بين أخويكم } ووضع الظاهر موضع الضمير مضافا إلى المأمورين للمبالغة في التقرير والتخصيص ، وخص الاثنين بالذكر لأنهما أقل من يقع بينهم الشقاق . وقيل المراد بالأخوين الأوس والخزرج . وقرئ " بين إخوتكم " و " إخوانكم " . { واتقوا الله } في مخالفة حكمه والإهمال فيه . { لعلكم ترحمون } على تقواكم .
تعليل لإقامة الإصلاح بين المؤمنين إذا استشرى الحال بينهم ، فالجملة موقعها موقع العلة ، وقد بني هذا التعليل على اعتبار حال المسلمين بعضهم مع بعض كحال الإخوة .
وجيء بصيغة القصر المفيدة لحصر حالهم في حال الإخوة مبالغة في تقرير هذا الحكم بين المسلمين فهو قصر ادعائي أو هو قصر إضافي للرد على أصحاب الحالة المفروضة الذين يبغون على غيرهم من المؤمنين ، وأخبر عنهم بأنهم إخوة مجازاً على وجه التشبيه البليغ زيادة لتقرير معنى الأخوة بينهم حتى لا يحق أن يقرن بحرف التشبيه المشعر بضعف صفتهم عن حقيقة الأخُوَّة . وهذه الآية فيها دلالة قوية على تقرر وجوب الأخوة بين المسلمين لأن شأن { إنما } أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته أو لما يُنَزِّل منزلة ذلك كما قال الشيخ في « دلائل الإعجاز » في الفصل الثاني عشر وساق عليه شواهد كثيرة من القرآن وكلام العرب فلذلك كان قوله تعالى : { إنما المؤمنون إخوة } مفيد أن معنى الأخوة بينهم معلوم مقرر . وقد تقرر ذلك في تضاعيف كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك قوله تعالى : { يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } في سورة الحشر ( 10 ) ، وهي سابقة في النزول على هذه السورة فإنها معدودة الثانية والمائة ، وسورة الحجرات معدودة الثامنة والمائة من السور . وآخى النبي بين المهاجرين والأنصار حين وروده المدينة وذلك مبدأ الإخاء بين المسلمين . وفي الحديث لو كنت متّخذاً خليلاً غيرَ ربي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام أفضل .
وفي باب تزويج الصغار من الكبار من « صحيح البخاري » " أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب عائشة من أبي بكر . فقال له أبو بكر : إنما أنا أخوك فقال : أنتَ أخي في دين الله وكتابِه وهي لي حلال " وفي حديث « صحيح مسلم » " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره بحسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم " وفي الحديث " لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه " أي يحب للمسلم ما يحب لنفسه .
فأشارت جملة { إنما المؤمنون إخوة } إلى وجه وجوب الإصلاح بين الطائفتين المُتبَاغِيَتَيْن منهم ببيان أن الإيمان قد عَقَد بين أهله من النسب الموحَى ما لا ينقص عن نسب الأخوة الجسدية على نحو قول عمر بن الخطاب للمرأة التي شكت إليه حاجة أولادها وقالت : أنا بنت خُفاف بن أيْمَاء ، وقد شهد أبي مع رسول الله الحديبية فقال عمر « مرحبا بنسب قريب » . ولما كان المتعارف بين الناس أنه إذا نشبت مشاقّة بين الأخوين لزم بقية الإخوة أن يتناهضوا في إزاحتها مشياً بالصلح بينهما فكذلك شأن المسلمين إذا حدث شقاق بين طائفتين منهم أن ينهض سائرهم بالسعي بالصلح بينهما وبثِّ السفراء إلى أن يرقعوا ما وهى ، ويرفعوا ما أصاب ودهَى .
وتفريع الأمر بالإصلاح بين الأخوين ، على تحقيق كون المؤمنين إخوة تأكيد لما دلت عليه { إنما } من التعليل فصار الأمر بالإصلاح الواقع ابتداء دون تعليل في قوله : { فأصلحوا بينهما } ، وقوله : { فأصلحوا بينهما بالعدل } [ الحجرات : 9 ] قد أردف بالتعليل فحصل تقريره ، ثم عقب بالتفريع فزاده تقريراً .
وقد حصل من هذا النَظم ما يشبه الدعوى وهي كمطلوب القياس ، ثم ما يشبه الاستدلال بالقياس ، ثم ما يشبه النتيجة .
ولمَّا تقرر معنى الأخوة بين المؤمنين كمالَ التقرّر عُدل عن أن يقول : فأصلحوا بين الطائفتين ، إلى قوله : { بين أخويكم } فهو وصف جديد نشأ عن قوله : { إنما المؤمنون إخوة } ، فتعين إطلاقه على الطائفتين فليس هذا من وضع الظاهر موضع الضمير فتأمل .
وأوثرت صيغة التثنية في قوله : { أخويكم } مراعاة لكون الكلام جار على طائفتين من المؤمنين فجعلت كل طائفة كالأخ للأخرى . وقرأ الجمهور { بين أخويكم } بلفظ تثنية الأخ ، أي بين الطائفة والأخرى مراعاة لجريان الحديث على اقتتال طائفتين . وقرأ الجمهور { بين أخويكم } بلفظ تثنية الأخ على تشبيه كل طائفة بأخ . وقرأ يعقوب { فأصلحوا بين إخوَتِكم } بتاء فوقية بعد الواو على أنه جمع أخ باعتبار كل فرد من الطائفتين كالأخ .
والمخاطب بقوله : { واتقوا اللَّه لعلكم ترحمون } جميع المؤمنين فيشمل الطائفتين الباغية والمبغي عليها ، ويشمل غيرهما ممن أمروا بالإصلاح بينما ومقاتلة الباغية ، فتقوى كلَ بالوقوف عند ما أمر الله به كُلّا مما يخصه ، وهذا يشبه التذييل . ومعنى { لعلكم ترحمون } : تُرجى لكم الرحمة من الله فتجري أحوالكم على استقامة وصلاح . وإنما اختيرت الرحمة لأن الأمر بالتقوى واقع إثر تقرير حقيقة الأخوة بين المؤمنين وشأن تعامل الإخوة الرحمة فيكون الجزاء عليها من جنسها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لأهل الإيمان به" إنّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ "في الدين "فأَصْلِحُوا بَينَ أخَوَيْكُمْ" إذا اقتتلا بأن تحملوهما على حكم الله وحكم رسوله. ومعنى الأخوين في هذا الموضع: كل مقتتلين من أهل الإيمان...
"وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ" يقول تعالى ذكره: وخافوا الله أيها الناس بأداء فرائضه عليكم في الإصلاح بين المقتتلين من أهل الإيمان بالعدل، وفي غير ذلك من فرائضه، واجتناب معاصيه، ليرحمكم ربكم، فيصفح لكم عن سالف إجرامكم إذا أنتم أطعتموه، واتبعتم أمره ونهيه، واتقيتموه بطاعته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} أمر الله عز وجل بإصلاح ذات البين بين المؤمنين بقوله: {وأصلحوا ذات بينكم} وأمر بالإصلاح بين الطائفتين من المؤمنين إذا اقتتلوا وتنازعوا بقوله عز وجل: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} وأمر بالإصلاح بين الآحاد والأفراد بقوله: {فأصلحوا بين أخويكم} لأن الإيمان يوجب التّآلف، فإلى التآلف نُدبوا، وإليه دُعوا، وبه مَنّ الله علينا حين قال: {وألّف بين قلوبكم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألّفت بين قلوبهم ولكن الله ألّف بينهم} [الأنفال: 63] وقال في آية أخرى: {ولا تفرّقوا واذكروا نعمة الله عليكم إن كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} [آل عمران: 103] أمر بالتأليف والاجتماع، ونهاهم عن التّفرق والاختلاف، وأمر المؤمنين جملة أن يُصلحوا ذات بينهم إذا وقع بينهم تنازع واختلاف واقتتال على ما ذكر، والله أعلم...
يعني أنهم إخوة في الدين، كقوله تعالى: {فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم} [الأحزاب: 5]، وفي ذلك دليل على جواز إطلاق لفظ الأُخُوَّة بين المؤمنين من جهة الدين.
وقوله تعالى: {فَأَصْلَحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} يدل على أن من رجا صلاح ما بين متعاديين من المؤمنين أن عليه الإصلاح بينهما.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
"فأصلحوا بين أخويكم" ذكر الأخوين ليدل بوجوب الإصلاح بينهما على وجوب الإصلاح بين الجمع الكثير...
وقوله: "واتقوا الله" أي: اتقوا الله من أن لا تتركوهم على الفساد، وأن تسعوا في طلب الصلاح...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: ليس المؤمنون إلا إخوة، وأنهم خلص لذلك متمحضون، قد انزاحت عنهم شبهات الأجنبية، وأبى لطف حالهم في التمازج والاتحاد أن يقدموا على ما يتولد منه التقاطع، فبادروا قطع ما يقع من ذلك إن وقع واحسموه {واتقوا الله} فإنكم إن فعلتم لم تحملكم التقوى إلا على التواصل والائتلاف، والمسارعة إلى إماطة ما يفرط منه، وكان فعلكم ذلك وصول رحمة الله إليكم، واشتمال رأفته عليكم حقيقاً بأن تعقدوا به رجاءكم.
{واتقوا الله} إشارة إلى ما يصونهم عن التشاجر، لأن من اتقى الله شغله تقواه عن الاشتغال بغيره...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي: الجميع إخوة في الدين، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه". وفي الصحيح: " والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إنما المؤمنون} أي كلهم وإن تباعدت أنسابهم وأغراضهم وبلادهم {إخوة} لانتسابهم إلى أصل واحد وهو الإيمان، لا بعد بينهم، ولا يفضل أحد منهم على أحد بجهة غير جهة الإيمان. ولما كانت الأخوة داعية ولا بد إلى الإصلاح، سبب عنها قوله: {فأصلحوا}. ولما كانت الطائفة قد تطلق على ما هو أصل لأن يطاف حوله كما يطلق على ما فيه أهلية التحليق والطواف، وكان أقل ما يكون ذلك في الأثنين، وأن مخاصمتهما يجر إلى مخاصمة طائفتين بأن يغضب لكل ناس من قبيلته وأصحابه، قال واضعاً الظاهر موضع المضمر مبالغة في تقرير الأمر وتأكيده، وإعلاماً بأن المراد بالطائفة القوة لا الفعل بحيث يكون ذلك شاملاً للاثنين فما فوقهما: {بين أخويكم} أي المختلفين بقتال أو غيره كما تصلحون بين أخويكم من النسب...
{واتقوا الله} أي الملك الأعظم الذين هم عباده في الإصلاح بينهما بالقتال وغيره، لا تفعلوا ما صورته إصلاح وباطنه إفساد، وأشار إلى سهولة الأمور عنده ونفوذ أمره وأن النفوس إنما تشوفها إلى الإكرام لا إلى كونه من معين، فبنى للمفعول قوله تعالى: {لعلكم ترحمون} أي لتكونوا إذا فعلتم ذلك على رجاء عند أنفسكم ومن ينظركم من أن يكرمكم الذي لا قادر في الحقيقة على الإكرام غيره بأنواع الكرامات كما رحمتم إخوتكم بإكرامهم عن إفساد ذات البين التي هي الحالقة، وقد دلت الآية أن الفسق بغير الكفر لا يخرج عن الإيمان، وعلى أن الإصلاح من أعظم الطاعات، وعلى وجوب نصر المظلوم لأن القتال لا يباح بدون الوجوب، قال القشيري: وذلك يدل على عظم وزر الواشي والنمام والمضرب في إفساد ذات البين، وقال: من شرط الأخوة أن لا تحوج أخاك إلى الاستعانة بك والتماس النصرة منك، ولا تقصر في تفقد أحواله بحيث يشكل عليك موضع حاجته فيحتاج إلى مسألتك.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} استئناف مقرر لما قبله من الأمر بالإصلاح، وإطلاق الأخوة على المؤمنين من باب التشبيه البليغ وشبهوا بالأخوة من حيث انتسابهم إلى أصل واحد وهو الإيمان الموجب للحياة الأبدية، وجوز أن يكون هناك استعارة وتشبه المشاركة في الإيمان بالمشاركة في أصل التوالد لأن كلاً منهما أصل للبقاء إذ التوالد منشأ الحياة والإيمان منشأ البقاء الأبدي في الجنان، والفاء في قوله تعالى: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} للإيذان بأن الأخوة الدينية موجبة للإصلاح، ووضع الظاهر موضع الضمير مضافاً للمأمورين للمبالغة في تأكيد وجوب الإصلاح والتحضيض عليه، وتخصيص الاثنين بالذكر لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوق ذلك بطريق الأولوية لتضاعف الفتنة والفساد فيه،...
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
{إنَّما المؤمنُون إخوةٌ} عظام أشقاء، استعارة تصريحية لجامع لتعاون، كما يتعاون الاخوة يتعاون أهل الاسلام في الاسلام، ولجامع الانتساب الى أصل واحد، وهو الايمان الموجب للحياة الأبدية، ولجامع المشاركة، فانهم اشتركوا في الإيمان الذى هو منشأ البقاء الأبدي، والتوليد الذى هو منشأ الحياة لاجتماعهما في الجد الأعلى...
. {واتَّقُوا الله} في اعتقادكم وأقوالكم وأفعالكم، ومنها الإصلاح فلا تتهاونوا به {لعَلَّكم تُرحَمون} لترحموا، أو قائلين لعلنا نرحم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويعقب على هذه الدعوة وهذا الحكم باستجاشة قلوب الذين آمنوا واستحياء الرابطة الوثيقة بينهم، والتي جمعتهم بعد تفرق، وألفت بينهم بعد خصام؛ وتذكيرهم بتقوى الله، والتلويح لهم برحمته التي تنال بتقواه:
(إنما المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم، واتقوا الله لعلكم ترحمون)..
ومما يترتب على هذه الأخوة أن يكون الحب والسلام والتعاون والوحدة هي الأصل في الجماعة المسلمة، وأن يكون الخلاف أو القتال هو الاستثناء الذي يجب أن يرد إلى الأصل فور وقوعه؛ وأن يستباح في سبيل تقريره قتال المؤمنين الآخرين للبغاة من إخوانهم ليردوهم إلى الصف، وليزيلوا هذا الخروج على الأصل والقاعدة. وهو إجراء صارم وحازم كذلك.
ومن مقتضيات هذه القاعدة كذلك ألا يجهز على جريح في معارك التحكيم هذه، وألا يقتل أسير، وألا يتعقب مدبر ترك المعركة، وألقى السلاح، ولا تؤخذ أموال البغاة غنيمة. لأن الغرض من قتالهم ليس هو القضاء عليهم، وإنما هو ردهم إلى الصف، وضمهم إلى لواء الأخوة الإسلامية.
والأصل في نظام الأمة المسلمة أن يكون للمسلمين في أنحاء الأرض إمامة واحدة، وأنه إذا بويع لإمام، وجب قتل الثاني، واعتباره ومن معه فئة باغية يقاتلها المؤمنون مع الإمام. وعلى هذا الأصل قام الإمام علي -رضي الله عنه- بقتال البغاة في وقعة الجمل وفي وقعة صفين؛ وقام معه بقتالهم أجلاء الصحابة رضوان الله عليهم. وقد تخلف بعضهم عن المعركة منهم سعد ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وابن عمر -رضي الله عنهم- إما لأنهم لم يتبينوا وجه الحق في الموقف في حينه فاعتبروها فتنة. وإما لأنهم كما يقول الإمام الجصاص: "ربما رأوا الإمام مكتفيا بمن معه مستغنيا عنهم بأصحابه فاستجازوا القعود عنه لذلك".. والاحتمال الأول أرجح، تدل عليه بعض أقوالهم المروية. كما يدل عليه ما روي عن ابن عمر -رضي الله عنه- في ندمه فيما بعد على أنه لم يقاتل مع الإمام.
ومع قيام هذا الأصل فإن النص القرآني يمكن إعماله في جميع الحالات -بما في ذلك الحالات الاستثنائية التي يقوم فيها إمامان أو أكثر في أقطار متفرقة متباعدة من بلاد المسلمين، وهي حالة ضرورة واستثناء من القاعدة- فواجب المسلمين أن يحاربوا البغاة مع الإمام الواحد، إذا خرج هؤلاء البغاة عليه. أو إذا بغت طائفة على طائفة في إمامته دون خروج عليه. وواجب المسلمين كذلك أن يقاتلوا البغاة إذا تمثلوا في إحدى الإمامات المتعددة في حالات التعدد الاستثنائية، بتجمعهم ضد الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله. وهكذا يعمل النص القرآني في جميع الظروف والأحوال.
وواضح أن هذا النظام، نظام التحكيم وقتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله، نظام له السبق من حيث الزمن على كل محاولات البشرية في هذا الطريق. وله الكمال والبراءة من العيب والنقص الواضحين في كل محاولات البشرية البائسة القاصرة التي حاولتها في كل تجاربها الكسيحة! وله بعد هذا وذاك صفة النظافة والأمانة والعدل المطلق، لأن الاحتكام فيه إلى أمر الله الذي لا يشوبه غرض ولا هوى، ولا يتعلق به نقص أو قصور.. ولكن البشرية البائسة تطلع وتعرج، وتكبو وتتعثر. وأمامها الطريق الواضح الممهد المستقيم!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تعليل لإقامة الإصلاح بين المؤمنين إذا استشرى الحال بينهم، فالجملة موقعها موقع العلة، وقد بني هذا التعليل على اعتبار حال المسلمين بعضهم مع بعض كحال الإخوة.
وجيء بصيغة القصر المفيدة لحصر حالهم في حال الإخوة مبالغة في تقرير هذا الحكم بين المسلمين فهو قصر ادعائي أو هو قصر إضافي للرد على أصحاب الحالة المفروضة الذين يبغون على غيرهم من المؤمنين، وأخبر عنهم بأنهم إخوة مجازاً على وجه التشبيه البليغ زيادة لتقرير معنى الأخوة بينهم حتى لا يحق أن يقرن بحرف التشبيه المشعر بضعف صفتهم عن حقيقة الأخُوَّة. وهذه الآية فيها دلالة قوية على تقرر وجوب الأخوة بين المسلمين لأن شأن {إنما} أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته أو لما يُنَزِّل منزلة ذلك كما قال الشيخ في « دلائل الإعجاز» في الفصل الثاني عشر وساق عليه شواهد كثيرة من القرآن وكلام العرب فلذلك كان قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} مفيد أن معنى الأخوة بينهم معلوم مقرر. وقد تقرر ذلك في تضاعيف كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك قوله تعالى: {يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} في سورة الحشر (10)، وهي سابقة في النزول على هذه السورة فإنها معدودة الثانية والمائة، وسورة الحجرات معدودة الثامنة والمائة من السور. وآخى النبي بين المهاجرين والأنصار حين وروده المدينة وذلك مبدأ الإخاء بين المسلمين. وفي الحديث لو كنت متّخذاً خليلاً غيرَ ربي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام أفضل.
وفي باب تزويج الصغار من الكبار من « صحيح البخاري» "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب عائشة من أبي بكر. فقال له أبو بكر: إنما أنا أخوك فقال: أنتَ أخي في دين الله وكتابِه وهي لي حلال " وفي حديث « صحيح مسلم» " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم " وفي الحديث "لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه" أي يحب للمسلم ما يحب لنفسه.
فأشارت جملة {إنما المؤمنون إخوة} إلى وجه وجوب الإصلاح بين الطائفتين المُتبَاغِيَتَيْن منهم ببيان أن الإيمان قد عَقَد بين أهله من النسب الموحَى ما لا ينقص عن نسب الأخوة الجسدية على نحو قول عمر بن الخطاب للمرأة التي شكت إليه حاجة أولادها وقالت: أنا بنت خُفاف بن أيْمَاء، وقد شهد أبي مع رسول الله الحديبية فقال عمر « مرحبا بنسب قريب». ولما كان المتعارف بين الناس أنه إذا نشبت مشاقّة بين الأخوين لزم بقية الإخوة أن يتناهضوا في إزاحتها مشياً بالصلح بينهما فكذلك شأن المسلمين إذا حدث شقاق بين طائفتين منهم أن ينهض سائرهم بالسعي بالصلح بينهما وبثِّ السفراء إلى أن يرقعوا ما وهى، ويرفعوا ما أصاب ودهَى.
وتفريع الأمر بالإصلاح بين الأخوين، على تحقيق كون المؤمنين إخوة تأكيد لما دلت عليه {إنما} من التعليل فصار الأمر بالإصلاح الواقع ابتداء دون تعليل في قوله: {فأصلحوا بينهما}، وقوله: {فأصلحوا بينهما بالعدل} [الحجرات: 9] قد أردف بالتعليل فحصل تقريره، ثم عقب بالتفريع فزاده تقريراً.
وقد حصل من هذا النَظم ما يشبه الدعوى وهي كمطلوب القياس، ثم ما يشبه الاستدلال بالقياس، ثم ما يشبه النتيجة.
ولمَّا تقرر معنى الأخوة بين المؤمنين كمالَ التقرّر عُدل عن أن يقول: فأصلحوا بين الطائفتين، إلى قوله: {بين أخويكم} فهو وصف جديد نشأ عن قوله: {إنما المؤمنون إخوة}، فتعين إطلاقه على الطائفتين فليس هذا من وضع الظاهر موضع الضمير فتأمل.
وأوثرت صيغة التثنية في قوله: {أخويكم} مراعاة لكون الكلام جار على طائفتين من المؤمنين فجعلت كل طائفة كالأخ للأخرى. وقرأ الجمهور {بين أخويكم} بلفظ تثنية الأخ، أي بين الطائفة والأخرى مراعاة لجريان الحديث على اقتتال طائفتين. وقرأ الجمهور {بين أخويكم} بلفظ تثنية الأخ على تشبيه كل طائفة بأخ. وقرأ يعقوب {فأصلحوا بين إخوَتِكم} بتاء فوقية بعد الواو على أنه جمع أخ باعتبار كل فرد من الطائفتين كالأخ.
والمخاطب بقوله: {واتقوا اللَّه لعلكم ترحمون} جميع المؤمنين فيشمل الطائفتين الباغية والمبغي عليها، ويشمل غيرهما ممن أمروا بالإصلاح بينما ومقاتلة الباغية، فتقوى كلَ بالوقوف عند ما أمر الله به كُلّا مما يخصه، وهذا يشبه التذييل. ومعنى {لعلكم ترحمون}: تُرجى لكم الرحمة من الله فتجري أحوالكم على استقامة وصلاح. وإنما اختيرت الرحمة لأن الأمر بالتقوى واقع إثر تقرير حقيقة الأخوة بين المؤمنين وشأن تعامل الإخوة الرحمة فيكون الجزاء عليها من جنسها.