لما ذكر قصة زكريا ويحيى ، وكانت من الآيات العجيبة ، انتقل منها إلى ما هو أعجب منها ، تدريجا من الأدنى إلى الأعلى فقال : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ ْ } الكريم { مَرْيَمَ ْ } عليها السلام ، وهذا من أعظم فضائلها ، أن تذكر في الكتاب العظيم ، الذي يتلوه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ، تذكر فيه بأحسن الذكر ، وأفضل الثناء ، جزاء لعملها الفاضل ، وسعيها الكامل ، أي : واذكر في الكتاب مريم ، في حالها الحسنة ، حين { انْتَبَذَتْ ْ } أي : تباعدت عن أهلها { مَكَانًا شَرْقِيًّا ْ } أي : مما يلي الشرق عنهم .
وبعد هذا الحديث عن جانب من قصة زكريا ويحيى - عليهما السلام - ، انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن قصة أخرى أعجب من قصة ميلاد يحيى ، ألا وهى قصة مريم وميلادها لابنها عيسى - عليه السلام - فقال - تعالى - : { واذكر فِي الكتاب . . . } .
قال ابن كثير : " لما ذكر الله تعالى - قصة زكريا - عليه السلام - وأنه أوجد منه فى حال كبره وعقم زوجته ولدا زكياً طاهراً مباركاً ، وعطف بذكر قصة مريم ، فى إيجاده ولدها عيسى - عليه السلام - منها من غير أب .
وهى مريم ابنة عمران - من سلالة داود - عليه السلام - وكانت من بيت طاهر فى بنى إسرائيل . . . ونشأت نشأة عظيمة ، فكانت إحدى العابدات الناسكات . . .
وكانت فى كفالة زوج أختها زكريا - عليه السلام - ورأى لها من الكرامات الهائلة ما بهره . . . " .
والمعنى : { واذكر } - أيها الرسول الكريم - { فِي الكتاب } أى فى هذه السورة الكريمة ، أو فى القرآن الكريم ، خبر مريم وقصتها { إِذِ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } أى : وقت أن تنحت عنهم واعتزلتهم فى مكان يلى الناحية الشرقية من بيت المقدس ، أو من بيتها الذى كانت تسكنه .
وفى التعبير بقوله - تعالى - { إِذِ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } أى : وقت أن تنحت عنهم واعتزلتهم فى مكان يلى الناحية الشرقية من بيت المقدس ، أو من بيتها الذى كانت تسكنه .
وفى التعبير بقوله - تعالى - { إِذِ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا } إشارة إلى شدة عزلتها عن أهلها إذ النبذ معناه الطرح والرمى ، فكأنها ألقت بنفسها فى هذا المكان لتتخلى للعبادة والطاعة ، والتقرب إلى الله - تعالى - بصالح الأعمال .
قال القرطبى : واختلف الناس لم انتبذت ؟ فقال السدى : انتبذت لتطهر من حيض أو نفاس . وقال غيره : لتعبد الله وهذا حسن . وذلك أن مريم كانت وقفا على سدانة المعبد وخدمته والعبادة فيه ، فتنحت من الناس لذلك ، ودخلت فى المسجد إلى جانب المحراب فى شرقيه لتخلو للعبادة . . .
فقوله { مَكَاناً شَرْقِياً } أى : مكاناً من جانب الشرق . والشرق - بسكون الراء - المكان الذى تشرق فيه الشمس . والشرق - بفتح الراء - الشمس . .
وإنما خص المكان بالشرق ، لأنهم كانوا يعظمون جهة المشرق ، حيث تطلع الأنوار . . . " .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً * فَاتّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر يا محمد في كتاب الله الذي أنزله عليك بالحقّ مريم ابنة عمران ، حين اعتزلت من أهلها ، وانفردت عنهم ، وهو افتعل من النّبذ ، والنّبذ : الطّرْح ، وقد بيّنا ذلك بشواهده فيما مضى قبلُ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : وَاذْكُرْ فِي الكِتابِ مَرْيَمَ إذِ انْتَبَذَتْ أي انفردت من أهلها .
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : حدثنا محمد بن الصّلْت ، قال : حدثنا أبو كُدَينة ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس إذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أهْلِها مَكانا شَرْقِيّا قال : خرجت مكانا شرقيا .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : خرجت مريم إلى جانب المحراب لحيض أصابها ، وهو قوله : فانتبذت من أهلها مكانا شرقيا : في شرقيّ المحراب .
وقوله : مَكانا شَرْقِيّا يقول : فتنحت واعتزلت من أهلها في موضع قِبَلَ مَشرق الشمس دون مَغربها ، كما :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : مَكانا شَرْقِيّا قال : من قِبَل المشرق .
حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : حدثنا خالد بن عبد الله ، عن داود ، عن عامر ، عن ابن عباس ، قال : إني لأعلم خلق الله لأيّ شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة ؟ لقول الله : فانتبذت من أهلها مكانا شرقيا ، فاتخذوا ميلاد عيسى قبلة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : أخبرنا محمد بن الصّلْت ، قال : حدثنا أبو كُدَينة ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت ، والحجّ لله ، وما صرفهم عنهما إلا قول ربك إذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أهْلِها مَكانا شَرْقِيّا فصلوا قبل مطلع الشمس .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة إذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أهْلِها مَكانا شَرْقِيّا قال : شاسعا متنحيا ، وقيل : إنها إنما صارت بمكان يلي مشرق الشمس ، لأن ما يلي المشرق عندهم كان خيرا مما يلي المغرب ، وكذلك ذلك فيما ذُكر عند العرب .
جملة { واذكر في الكتاب مريم } عطف على جملة { ذِكْرُ رحمتِ ربِّكَ } [ مريم : 2 ] عطف القصة على القصة فلا يراعى حُسن اتّحاد الجملتين في الخبرية والإنشائية ، على أن ذلك الاتحاد ليس بملتزم . على أنك علمت أن الأحسن أن يكون قوله { ذكر رحمة ربك عبده زكريا } مصدراً وقع بدلاً من فعله .
والمراد بالذكر : التّلاوة ، أي اتل خبر مريم الذي نقصّه عليك .
وفي افتتاح القصة بهذا زيادة اهتمام بها وتشويق للسامع أن يتعرفها ويتدبرها .
والكتاب : القرآن ، لأنّ هذه القصة من جملة القرآن . وقد اختصت هذه السورة بزيادة كلمة { في الكتاب } بعد كلمة { واذكر } . وفائدة ذلك التنبيه إلى أن ذكر من أمر بذكرهم كائن بآيات القرآن وليس مجرد ذكر فضله في كلام آخر من قول النبي صلى الله عليه وسلم كقوله : " لو لبثت ما لبث يوسف في السجن لأجبت الداعي " .
ولم يأت مثل هذه الجملة في سورة أخرى لأنه قد حصل علم المراد في هذه السورة فعلم أنه المراد في بقية الآيات التي جاء فيها لفظ { اذكر } . ولعل سورة مريم هي أول سورة أتى فيها لفظ { واذكرْ } في قصص الأنبياء فإنها السورة الرابعة والأربعون في عدد نزول السور .
و { إذ } ظرف متعلق { باذكر } باعتبار تضمنه معنى القصة والخبر ، وليس متعلقاً به في ظاهر معناه لعدم صحة المعنى .
ويجوز أن يكون ( إذ ) مجرد اسم زمان غير ظرف ويجعل بدلاً من ( مريم ) ، أي اذكر زمن انتباذها مكاناً شرقياً . وقد تقدم مثله في قوله { ذكر رحمة ربك عبده زكريا إذ نادى ربه } [ مريم : 2 ، 3 ] .
والانتباذ : الانفراد والاعتزال ، لأن النبذ : الإبعاد والطرح ، فالانتباذ في الأصل افتعال مطاوع نبذه ، ثم أطلق على الفعل الحاصل بدون سبق فاعل له .
وانتصب { مكاناً } على أنه مفعول { انتبذت } لتضمنه معنى حلت . ويجوز نصبه على الظرفية لما فيه من الإبهام . والمعنى : ابتعدت عن أهلها في مكان شرقي .
ونُكر المكان إبهاماً له لعدم تعلُّق الغرض بتعيين نوعه إذ لا يفيد كمالاً في المقصود من القصة . وأما التصدّي لوصفه بأنه شرقي فللتنبيه على أصل اتخاذ النصارى الشرقَ قبلة لصلواتهم إذ كان حمل مريم بعيسى في مكان من جهة مشرق الشمس . كما قال ابن عباس : « إني لأعلم خلقِ الله لأي شيء اتّخذت النصارى الشرقَ قبلة لقوله تعالى : { مكاناً شرقِيّاً } » ، أي أن ذلك الاستقبال ليس بأمر من الله تعالى . فذكر كون المكان شرقياً نكتة بديعة من تاريخ الشرائع مع ما فيه من مؤاخاة الفواصل .