الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَرۡيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتۡ مِنۡ أَهۡلِهَا مَكَانٗا شَرۡقِيّٗا} (16)

قوله : { إِذِ انتَبَذَتْ } : في " إذ " أوجهٌ ، أحدُها : أنَّها منصوبةٌ ب " اذكُرْ " على أنها خَرَجَتْ عن الظرفية ، إذ يستحيل أنْ تكونَ باقيةً على مُضِيِّها . والعاملُ فيها ما هو نَصٌّ في الاستقبال . الثاني : أنَّه منصوبٌ بمحذوفٍ مضافٍ لمريم تقديره : واذكر خبرَ مريم ، أو نَبَأَها ، إذ انْتَبَذَتْ ، ف " إذ " منصوبٌ بذلك الخبر أو النبأ . والثالث : أنه منصوبٌ بفعلٍ محذوف تقديره : وبَيَّنَ ، أي : اللهُ تعالى ، فهو كلامُ آخرُ . وهذا كما قال سيبويه في قوله :

{ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ } [ النساء : 171 ] وهو في الظرف أقوى وإنْ كان مفعولاً به . والرابع : أن يكونَ منصوباً على الحال مِنْ ذلك المضافِ المقدَّر ، أي : خبر مريم أو نبأ مريم . وفيه بُعْدٌ . قاله أبو البقاء . والخامس : أنه بدلٌ مِنْ " مريمَ " بدلُ اشتمال . قال الزمخشري : " لأنَّ الأحيانَ مشتملةٌ على ما فيها ، وفيه : أنَّ المقصودَ بِذِكْر مريم ذِكْرُ وقتها هذا لوقوع هذه القصةِ العجيبةِ فيه " .

قال أبو البقاء : - بعد أن حكى عن الزمخشريِّ هذا الوجهَ - " وهو بعيدٌ ؛ لأنَّ الزمانَ إذا لم يكنْ حالاً من الجثة ولا خبراً عنها ولا صفةً لها لم يكن بَدَلاً منها " . وفيه نظرٌ لأنَّه لا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ صحةِ ما ذَكَرَ عَدَمُ صحةِ البدلية ، ألا ترى نحو : " سُلِبَ زيدٌ ثوبُه " ف " ثوبُه " لا يَصِحُّ جَعْلُه خبراً عن " زيد " ولا حالاً منه ولا وصفاً له ، ومع ذلك فهو بدلٌ اشتمالٍ .

السادس : أنَّ " إذ " بمعنى " أَنْ " المصدرية كقولك : " لا أُكْرِمُك إذ لم تكرِمْني " ، أي : لأنَّك لا تُكْرِمُني ، فعلى هذا يَحْسُن بدلُ الاشتمال ، أي : واذكر مريمَ انتباذَها . ذكره أبو البقاء .

والانْتِباذُ : افتعالٌ من النَّبْذِ وهو الطَّرْحُ ، وقد تقدَّم بيانُه .