اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَرۡيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتۡ مِنۡ أَهۡلِهَا مَكَانٗا شَرۡقِيّٗا} (16)

قوله تعالى : { واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ } القصة .

اعلم أن الله تعالى إنَّما قدَّم قصَّة يحيى -عليه الصلاة والسلام- على قصَّة عيسى -عليه الصلاة والسلام- لأنَّ الولد أعني : لأن خلق الولد من شيخين فانيين أقربُ إلى مناهج العاداتِ من خلق الولد من الأب ألبتَّة ، وأحسنُ طُرُق التعليم والتفهيم الترقِّي من الأقرب فالأقرب ، وإلى الأصعب فالأصعب .

قوله : { إِذِ انتبذت } : في " إذ " أوجهٌ :

أحدها : أنَّها منصوبةٌ ب " اذْكُر " على أنَّها خرجت عن الظرفية ؛ إن يستحيلُ أن تكون باقيةً على [ مُضِيِّها ] ، والعاملُ فيها ما هو نصٌّ في الاستقبال .

الثاني : أنَّه منصوبٌ بمحذوفٍ مضافٍ لمريم ، تقديره : واذكر خبر مريم ، أو نبأها ؛ إذا انتبذت ، ف " إذْ " منصوبٌ بذلك الخبر ، أو النبأ .

والثالث : أنه منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ ، تقديره : وبيَّن ، أي : الله تعالى ، فهو كلامٌ آخرُ ، وهذا كما قال سيبويه{[21477]} في قوله : { انتهوا خَيْراً لَّكُمْ } [ النساء : 171 ] وهو في الظرف أقوى ، وإن كان مفعولاً به .

والرابع : أن يكون منصوباً على الحال من ذلك المضاف المقدر ، أي : خبر مريم ، أو نبأ مريم ، وفيه بعد ، قاله أبو البقاء{[21478]} .

والخامس : أنه بدل من " مريمَ " بدلُ اشتمال ، قال الزمخشريُّ : " لأنَّ الأحيان مشتملةٌ على ما فيها ، وفيه : أن المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا ؛ لوقوع هذه القصَّةِ العجيبةِ فيه " .

قال أبو البقاء{[21479]} -بعد أن حكى عن الزمخشريِّ هذا الوجه- : " وهو بعيدٌ ؛ لأنَّ الزمان إذا لم يكن حالاً من الجثَّة ، ولا خبراً عنها ، ولا صفة لها لم يكن بدلاً منها " انتهى . وفيه نظرٌ ؛ لأنه لا يلزمُ من عدم صحَّةِ ما ذكر عدمُ صحَّة البدلية ؛ ألا ترى نحو : " سُلِبَ زيدٌ ثوبُهُ " ف " ثوبه " لا يصحُّ جعله عن " زَيْد " ولا حالاً منه ، ولا وصفاً له ، ومع ذلك ، فهو بدل اشتمالٍ .

السادس : أنَّ " إذ " بمعنى " أن " المصدرية ؛ كقولك : " لا أكْرِمُكَ إذ لم تُكْرِمْنِي " أي : لأنَّك لا تُكْرِمُني ، فعلى هذا يحسنُ بدلُ الاشتمال ، أي : واذكُرْ مريم انتباذهَا ، ذكره أبو البقاء{[21480]} .

وهو في الضعف غايةٌ . و " مكاناً " : يجوزُ أن يكون ظرفاً ، وهو الظاهرُ وأن يكون مفعولاً به على معنى : إذ أتتْ مكاناً . قوله : { انتبذت } الانتباذُ : افتعالٌ من النَّبْذ ، وهو الطَّرْح ، والإلقاء ، ونُبْذَة : بضمِّ النون ، وفتحها أي : ناحيةٌ ، وهذا إذا جلس قريباً منك ؛ حتى لو نبذتَ إليه شيئاً ، وصل إليه ، ونبذتُ الشيء : رَمَيْتُهُ ، ومنه النَّبِيذُ ؛ لأنَّه يطرح في الإنَاءِ .

ومنه المَنْبُوذ ، وهو أصله ، فصرف إلى " فعيل " ، ومنه قيل للَّقيطِ : منبوذٌ ؛ لأنه رُمِيَ به .

ومنه النهيُ عن المُنَابذةِ في البيع ، وهو أن يقول : إذا نبذتُ إليك الثَّوب ، أو الحَصَاة ، فقد وجب البَيْعُ فقوله : { انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } : تباعدتْ واعتزلتْ عن أهلها مكاناً في الدار ، ممَّا يلي المشرق ،


[21477]:ينظر: الكتاب 1/143.
[21478]:ينظر: الإملاء 2/111.
[21479]:ينظر: المصدر السابق.
[21480]:ينظر: الإملاء 2/111.