حكى - سبحانه - بعد ذلك ما يقوله أهل النار بعضهم لبعض على سبيل الندم والتحسر والتقريع . فقال : { هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ النار } .
والفوج : الجمع الكثير من الناس ، والاقتحام : ركوب الشدة والدخول فيها . يقال : قحم فلان نفسه فى الأمر ، إذا رمى نفسه فيه من غير روية .
أى : قال الكفار بعضهم لبعض بعد أن رأوا غيرهم يلقى فى النار معهم ، أو قالت الملائكة لهم على سبيل التقريع والتأنيب : { هذا فَوْجٌ } أى جمع كثير من أتباعكم وإخوانكم فى الضلال . { مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ } أى داخل معكم النار وعلى غير اختيار منه . وإنما يساق إليها سوقا فى ذلة ومهانة .
وهنا يقول زعماء الكفر : { لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ النار } أى : لا مرحباً ولا أهلاً بهؤلاء الداخلين فى النار معنا ، لأنهم سيصلون سعيرها مثلنا ، ولن يستطيعوا أن يدفعوا شيئا من حرها عنا . .
فقوله { مَرْحَباً } مفعول به لفعل محذوف وجوبا ، والتقدير : أتوا معنا لا مرحباً بهم . والجملة دعائية لا محل لها من الإِعراب أى : لا أتوا مكانا رحباً بل ضيقاً ، وهنا يحكى القرآن رد الفوج المقتحم للنار معهم فيقول : { قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ . . }
يعني تعالى ذكره بقوله : ( هَذَا فَوْجٌ ) : هذا فرقة وجماعة مقتحمة معكم أيها الطاغون النار ، وذلك دخول أمة من الأمم الكافرة بعد أمة لا مرحبا بهم ، وهذا خبر من الله عن قيل الطاغين الذين كانوا قد دخلوا النار قبل هذا الفوج المقتحِم للفوج المقتحَم فيها عليهم ، لا مرحبا بهم ، ولكن الكلام اتصل فصار كأنه قول واحد ، كما قيل : ( يُرِيدُ أنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ )فاتصل قول فرعون بقول مَلئه ، وهذا كما قال تعالى ذكره مخبرا عن أهل النار : كُلّما دَخَلَتْ أُمّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها .
ويعني بقولهم : لا مَرْحَبا بِهِمْ لا اتّسعت بهم مداخلُهم ، كما قال أبو الأسود :
لا مَرْحَبٌ وَاديكَ غيرُ مُضَيّقِ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ في النار لا مَرْحَبا بِهِمْ إنّهُمْ صَالُوا النّارِ ) : قالُوا بَلْ أنْتُمْ لا مَرْحَبا بِكُمْ . . . حتى بلغ : ( فَبِئْسَ القَرَارُ ) : قال : هؤلاء التبّاع يقولون للرؤوس .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبا بِهِمْ ) : قال : الفوج : القوم الذين يدخلون فوجا بعد فوج ، وقرأ : ( كُلّما دَخَلَتْ أُمّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها التي كانت قبلها ) .
وقوله : ( إنّهُمْ صَالُوا النّارِ ) : يقول : إنهم واردو النار وداخلوها .
ابتداء كلام حكي به تخاصم المشركين في النار فيما بينهم إذا دخلوها كما دل عليه قوله تعالى في آخره : { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } [ ص : 64 ] ، وبه فسر قتادة وابن زيد ، وجريانه بينهم ليزدادوا مقتاً بأن يضاف إلى عذابهم الجسماني عذاب أنفسهم برجوع بعضهم على بعض بالتنديم وسوء المعاملة .
وأسلوب الكلام يقتضي متكلماً صادراً منه ، وأسلوبُ المقاولة يقتضي أن المتكلم به هم الطاغون الذين لهم شر المآب لأنهم أساس هذه القضية . فالتقدير : يقولون ، أي الطاغون بعضهم لبعض : هذا فوج مقتحم معكم ، أي يقولون مشيرين إلى فوج من أهل النار أُقحم فيهم لَيسوا من أكفائهم ولا من طبقتهم وهم فوج الأتباع من المشركين الذين اتبعوا الطاغين في الحياة الدنيا ، وذلك ما دل عليه قوله : { أنتم قدمتموه لنا } [ ص : 60 ] أي أنتم سبب إحضار هذا العذاب لنا . وهو الموافق لمعنى نظائره في القرآن كقوله تعالى : { كلما دخلت أمة لعنت أختها } [ الأعراف : 38 ] إلى قوله : { بما كنتم تكسبون } في سورة [ الأعراف : 39 ] ، وقوله : { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } في سورة [ البقرة : 166 ] ، وقوله : { وأَقْبَلَ بَعْضُهُم على بَعْضضٍ يَتَسَآءَلُونَ } الآيات من سورة { الصافات : 27 ] . وأوضحُ من ذلك كله قوله تعالى في آخر هذه الآية { إنَّ ذلك لحقٌّ تخاصم أهللِ النَّارِ } [ ص : 64 ] .
فجملة القول المحذوف في موضع الحال من الطّاغين . وجملة { هذا فوجٌ } إلى آخرها مقول القول المحذوف .
والفوج : الجماعة العظيمة من الناس ، وتقدم في قوله : { ويوم نحشر من كل أمة فوجاً } في سورة [ النمل : 83 ] .
والاقتحام : الدخول في الناس ، و ( مع ) مؤذنة بأن المتكلمين متبوعون ، وأن الفوج المقتحم أتباع لهم ، فأدخلوا فيهم مدخل التابع مع المتبوع بعلامات تشعر بذلك .
وجملة : { لا مرحباً بهم } معترضة مستأنفة لإِنشاء ذم الفوج . و { لاَ مَرْحَباً } نفيٌ لكلمةٍ يقولها المزور لزائره وهي إنشاء دعاء الوافد . و { مرحباً } مصدر بوزن المفعل ، وهو الرُّحب بضم الراء وهو منصوب بفعل محذوف دل عليه معنى الرحب ، أي أتيت رحباً ، أي مكاناً ذا رحب ، فإذا أرادوا كراهية الوافد والدعاء عليه قالوا : لا مرحباً به ، كأنهم أرادوا النفي بمجموع الكلمة :
لا مرحباً بِغَدٍ ولا أهلاً به *** إن كان تفريق الأحبة في غدِ
وذلك كما يقولون في المدح : حبّذا ، فإذا أرادوا ذمّاً قالوا : لا حبّذا . وقد جمعهما قول كنزة أمّ شملة المنقري تهجو فيه صاحبة ذي الرمة :
ألا حبّذا أهل الملا غير أنه *** إذا ذكرت ميَّ فلا حبّذا هيا
ومعنى الرحب في هذا كله : السعة المجازية ، وهي الفرح ولقاء المرغوب في ذلك المكان بقرينة أن نفس السعة لا تفيد الزائد ، وإنما قالوا ذلك لأنهم كرهوا أن يكونوا هم وأتباعهم في مكان واحد جرياً على خلق جاهليتهم من الكبرياء واحتقار الضعفاء .
وجملة { إنهم صَالُوا النَّارِ } خبر ثان عن اسم الإِشارة ، والخبر مستعمل في التضجّر منهم ، أي أنهم مضايقوننا في مضيق النار كما أومأ إليه قولهم : { مقتحِم معكم لا مرحباً بهم } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.