أما الدليل التاسع على قدرته - تعالى - على البعث ، فنراه فى قوله - تعالى - :
{ وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجاً . لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً . وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً } .
والمعصرات - بضم الميم وكسر الصاد - السحب التى تحمل المطر ، جمع معصرة - بكسر الصاد - اسم فاعل ، من أعصرت السحابة إذا أوشكت على إنزال الماء لامتلائها به . .
قال ابن كثير : عن ابن عباس : " المعصرات " الرياح . لأنها تستدر المطر من السحاب . . وفى رواية عنه أن المراد بها : السحاب ، وكذا قال عكرمة . . واختاره ابن جرير . .
وقال الفراء : هى السحاب التى تتحلب بالماء ولم تمطر بعد ، كما يقال : امرأة معصر ، إذا حان حيضها ولم تحض بعد .
وعن الحسن وقتادة : المعصرات : يعنى السموات . وهذا قول غريب ، والأظهر أن المراد بها السحاب ، كما قال - تعالى - : { الله الذي يُرْسِلُ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السمآء كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ . . . } والثجاج : المندفع بقوة وكثرة ، يقال : ثج الماء - كرد - إذا انصب بقوة وكثرة .
ومطر ثجاج ، أى : شديد الانصباب جدا .
وقوله : { أَلْفَافاً } اسم جمع لا واحد له من لفظه ، كالأوزاع للجماعات المتفرقة . وقيل : جمع لفيف ، كأشراف وشريف . أى : وأنزلنا لكم - يا بنى آدم - بقدرتنا ورحمتنا - من السحائب التى أوشكت على الإِمطار ، ماء كثيرا متدفقا بقوة ، لنخرج بهذا الماء حبا تقتاتون به - كالقمح والشعير .
. ونباتا تستعملونه لدوابكم كالتبن والكلأ ، ولنخرج بهذا الماء - أيضا - بساتين قد التفت أغصانها لتقاربها وشدة نمائها .
فهذه تسعة أدلة أقامها - سبحانه - على أن البعث حق ، وهى أدلة مشاهدة محسوسة ، لا يستطيع عاقل إنكار واحد منها . . وما دام الأمر كذلك فكيف ينكرون قدرته على البعث ، مع أنه - تعالى - قد أوجد لهم كل هذه النعم التى منها ما يتعلق بخلقهم ، ومنها ما يتعلق بالأرض والسموات ، ومنها ما يتعلق بنومهم ، وبالليل والنهار ، ومنها ما يتعلق بالشمس ، وبالسحب التى تحمل لهم الماء الذى لا يحاة لهم بدونه .
وبعد إيراد هذه الأدلة المقنعة لكل عاقل ، أكد - سبحانه - ما اختلفوا فيه ، وما تساءلوا عنه ، وبين جانبا من أماراته وعلاماته فقال : { إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ مِيقَاتاً . يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً . وَفُتِحَتِ السمآء فَكَانَتْ أَبْوَاباً . وَسُيِّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً } .
وقوله : وأنْزَلْنا مِنَ المُعْصِرَاتِ اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالمعصِرات ، فقال بعضهم : عُنِي بها الرياح التي تعصر في هبوبها . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَأنْزَلْنا مِنَ المُعْصِرَاتِ فالمعصرات : الريح .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرِمة ، أنه كان يقرأ : «وَأنْزَلْنا بالمُعْصِرَاتِ » يعني : الرياح .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى : عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : مِنَ المُعْصِرَاتِ قال : الريح .
وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : هي في بعض القراءات : «وَأنْزَلْنا بالمُعْصِرَاتِ » : الرياح .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَأنْزَلْنا مِنَ المُعْصِراتِ قال : المعصرات : الرياح ، وقرأ قول الله : الّذِي يُرْسِلُ الرّياحَ فَتُثِيرُ سَحَابا . . . إلى آخر الاَية .
وقال آخرون : بل هي السحاب التي تتحلب بالمطر ولمّا تمطر ، كالمرأة المعصر التي قد دنا أوان حيضها ولم تحض . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان مِنَ المُعْصِرَاتِ قال : المعصرات : السحاب .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله وأنْزَلْنا مِنَ المُعْصِراتِ يقول : من السحاب .
قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع المُعْصِراتِ : السحاب .
وقال آخرون : بل هي السماء . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، قال : سمعت الحسن يقول : وَأنْزَلْنا مِنَ المُعْصِرَاتِ قال : من السماء .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَأنْزَلْنا مِنَ المُعْصِرَاتِ قال : من السموات .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : وأنْزَلْنا مِنَ المُعْصِراتِ قال : من السماء .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر أنه أنزل من المعصِرات ، وهي التي قد تحلبت بالماء من السحاب ماء .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن القول في ذلك على أحد الأقوال الثلاثة التي ذكرت ، والرياح لا ماء فيها ، فينزل منها ، وإنما ينزل بها ، وكان يصحّ أن تكون الرياح ، ولو كانت القراءة : «وَأنْزَلْنا بالمُعْصِرَاتِ » فلما كانت القراءة : منَ المُعْصِرَاتِ علم أن المعنيّ بذلك ما وصفت .
فإن ظنّ ظانّ أن الباء قد تعقب في مثل هذا الموضع من قيل ذلك ، وإن كان كذلك ، فالأغلب من معنى «من » غير ذلك ، والتأويل على الأغلب من معنى الكلام . فإن قال : فإن السماء قد يجوز أن تكون مرادا بها . قيل : إن ذلك وإن كان كذلك ، فإن الأغلب من نزول الغيث من السحاب دون غيره .
وأما قوله : مَاءً ثَجّاجا يقول : ماء منصبا يتبع بعضه بعضا ، كثجّ دماء البدن ، وذلك سفكها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ماءً ثَجّاجا قال : منصبا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ماءً ثَجّاجا ماء من السماء منصبا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ماءً ثَجّاجا قال : منصبا .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ماءً ثَجّاجا قال : الثجاج : المنصب .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع : مَاءً ثَجّاجا قال : منصبا .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ماءً ثَجّاجا قال : متتابعا .
وقال بعضهم : عُنِي بالثجّاج : الكثير . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ماءً ثَجّاجا قال : كثيرا .
ولا يُعرف في كلام العرب من صفة الكثرة الثجّ ، وإنما الثجّ : الصبّ المتتابع . ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أفْضَلُ الحَجّ العَجّ والثّجّ » : يعني بالثجّ : صبّ دماء الهدايا والبُدن بذبحها ، يقال منه : ثَجَجت دمه ، فأنا أُثجّه ثجا ، وقد ثَجّ الدم ، فهو يثجّ ثجوجا .
وأنزلنا من المعصرات السحائب إذا أعصرت أي شارفت أن تعصرها الرياح فتمر كقولك احصد الزرع إذا حان له أن يحصد ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض أو من الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب أو الرياح ذوات الأعاصير وإنما جعلت مبدأ للإنزال لأنها تنشيء السحاب وتدرأ خلافه ويؤيده أنه قرئ بالمعصرات ماء ثجاجا منصبا بكثرة يقال ثجه وثج بنفسه وفي الحديث أفضل الحج العج والثج أي رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدي وقرئ ثجاجا ومثاجج الماء مصابه .
واختلف الناس في { المعصرات } ، فقال الحسن بن أبي الحسن وأبيّ بن كعب وابن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل وقتادة : هي السموات ، وقال ابن عباس وأبو العالية والربيع والضحاك : { المعصرات } السحاب القاطرة ، وهو مأخوذ من العصر ، لأن السحاب ينعصر فيخرج منه الماء وهذا قول الجمهور وبه فسر عبيد الله بن الحسن بن محمد العنبري القاضي بيت حسان : [ الكامل ]
كلتاهما حلب العصير{[11565]} . . . وقال بعض من سميت هي السحاب التي فيها الماء تمطر كالمرأة المعصر وهي التي دنا حيضها ولم تحض بعد ، وقال ابن الكيسان : قيل : للسحاب معصرات من حيث تغيث فهي من المعصرة ومنه قوله تعالى : { وفيه يعصرون }{[11566]} [ يوسف : 49 ] قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : { المعصرات } الرياح ، لأنها تعصر السحاب ، وقرأ ابن الزبير وابن عباس والفضل بن عباس وقتادة وعكرمة : «وأنزلنا بالمعصرات » فهذا يقول أنه أراد الرياح ، و «الثجاج » : السريع الاندفاع كما يندفع الدم عن عروق الذبيحة ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد قيل له : ما أفضل الحج ؟ قال : «العج والثج »{[11567]} أراد التضرع إلى الله بالدعاء الجهير وذبح الهدي .
استدلال بحالة أخرى من الأحوال التي أودعها الله تعالى في نظام الموجودات وجعلها منشأً شبَيهاً بحياة بعد شبيهٍ بموت أو اقتراب منه ومَنْشأ تَخلق موجودات من ذرات دقيقة . وتلك حالة إنزال ماء المطر من الأسحبة على الأرض فتنبت الأرض به سنابل حبّ وشجراً ، وكلأً ، وتلك كلها فيها حياة قريبة من حياة الإِنسان والحيوان وهي حياة النمَاء فيكون ذلك دليلاً للناس على تصور حالة البعث بعد الموت بدليل من التقريب الدال على إمكانه حتى تضمحل من نفوس المكابرين شُبَهُ إحالة البعث .
وهذا الذي أشير إليه هنا قد صرح به في مواضع من القرآن كقوله تعالى : { ونزَّلنا من السماء ماء مباركاً فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقاً للعباد وأحيينا به بلدة ميتاً كذلك الخروج } [ ق : 9 11 ] ففي الآية استدلالان : استدلال بإنزال الماء من السحاب ، واستدلال بالإِنبات ، وفي هذا أيضاً منّة على المُعْرضِين عن النظر في دلائل صنع الله التي هي دواع لشكر المنعم بها لما فيها من منافع للناس من رزقهم ورزق أنعامهم ، ومن تنعمهم وجمال مَرَائيهم فإنهم لو شكروا المنعم بها لكانوا عندما يَبلغهم عنه أنه يدعوهم إلى النظر في الأدلة مستعدين للنظر ، بتوقع أن تكون الدعوة البالغة إليهم صَادقة العَزو إلى الله فما خفيت عنهم الدلالة .
ومناسبة الانتقال من ذكر السماوات إلى ذكر السحاب والمطر قوية .
والمعصرات : بضم الميم وكسر الصاد السحابات التي تحمل ماء المطر واحدتها مُعصرةِ اسم فاعل من : أعْصَرَتْ السحابةُ ، إذا آن لها أن تَعْصِر ، أي تُنزل إنزالاً شبيهاً بالعَصْر . فهمزة ( أعصر ) تفيد معنى الحينونة وهو استعمال موجود وتسمَّى همزة التهيئة كما في قولهم : أجَزَّ الزرعُ ، إذا حان له أن يُجزّ ( بزاي في آخره ) وأُحصد إذا حان وقت حصاده . ويظهر من كلام صاحب « الكشاف » أن همزة الحينونة تفيد معنى التهيُّؤ لقبول الفعل وتفيد معنى التهيُّؤ لإِصدار الفعل فإنه ذكر : أعْصَرتْ الجاريةُ ، أي حان وقت أن تصير تحيض ، وذكر ابن قتيبة في « أدب الكاتب » : أركَبَ المُهْرُ ، إذا حان أن يركب ، وأقطفَ الكَرْمُ ، إذا حان أن يُقطف . ثم ذكر : أقْطَفَ القومُ : حان أن يَقطِفوا كُرومهم ، وأنتجت الخيل : حان وقت نَتاجها .
وفي تفسير ابن عطية عند قوله تعالى : { ألم تر أن اللَّه يزجي سحاباً } الآية من سورة النور ( 43 ) ، والعرب تقول : إن الله تعالى إذا جعل السحاب ركاماً جاء بالريح عَصَر بعضُه بعضاً فيخرج الودق منه ، ومن ذلك قوله : وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً } ومن ذلك قول حسان :
كلتاهما حَلَب العَصير فعَاطني *** بزُجاجة أرخاهما للمفصل
أراد حَسَّانُ الخمرَ والماءَ الذي مُزجت به ، أي هذه من عصير العنب وهذه من عصير السحاب ، فسر هذا التفسير قاضي البصرة عبيد الله بن الحسن العنبري{[440]} للقومَ الذين حلف صاحبهم بالطلاق أن يسأل القاضي عن تفسير بيت حسان ا ه .
والثّجاج : المُنْصَبُّ بقوة وهو فَعَّال من ثَجّ القاصر إذا انصب ، يقال : ثجّ الماءُ ، إذا انصبّ بقوة ، فهو فِعل قاصر . وقد يسند الثجُّ إلى السحاب ، يقال : ثج السحاب يَثُجّ بضم الثاء ، إذا صَبَّ الماءَ ، فهو حينئذ فعل متعدّ .
ووصف الماء هنا بالثّجاج للامتنان .
وقد بينت حكمة إنزال المطر من السحاب بأن الله جعله لإنبات النبات من الأرض جمعاً بين الامتنان والإِيماء إلى دليل تقريب البعث ليحصل إقرارهم بالبعث وشكر الصّانع .