{ إنا نحن نزلنا الذكر } أي : القرآن الذي فيه ذكرى لكل شيء من المسائل والدلائل الواضحة ، وفيه يتذكر من أراد التذكر ، { وإنا له لحافظون } أي : في حال إنزاله وبعد إنزاله ، ففي حال إنزاله حافظون له من استراق كل شيطان رجيم ، وبعد إنزاله أودعه الله في قلب رسوله ، واستودعه فيها ثم في قلوب أمته ، وحفظ الله ألفاظه من التغيير فيها والزيادة والنقص ، ومعانيه من التبديل ، فلا يحرف محرف معنى من معانيه إلا وقيض الله له من يبين الحق المبين ، وهذا من أعظم آيات الله ونعمه على عباده المؤمنين ، ومن حفظه أن الله يحفظ أهله من أعدائهم ، ولا يسلط عليهم عدوا يجتاحهم .
ثم بين - سبحانه - أنه قد تكفل بحفظ هذا القرآن الذي سبق للكافرين أن استهزءوا به ، وبمن نزل عليه فقال - تعالى - : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } .
أى : إنا نحن بقدرتنا وعظم شأننا نزلنا هذا القرآن الذي أنكرتموه ؛ على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم { وإنا } لهذا القرآن { لحافظون } من كل ما يقدح فيه ، كالتحريف والتبديل ، والزيادة والنقصان والتناقض والاختلاف ، ولحافظون له بالإِعجاز ، فلا يقدر أحد على معارضته أو على الإِتيان بسورة من مثله ، ولحافظون له بقيام طائفة من أبناء هذه الأمة الإِسلامية باستظهاره وحفظه والذب عنه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
قال صاحب الكشاف : " قوله { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } رد لانكارهم واستهزائهم في قولهم { ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } ، ولذلك قال : إنا نحن ، فأكد عليهم أنه هو المنزل على القطع والبتات ، وأنه هو الذي بعث به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ومن بين يديه ومن خلفه رصد حتى نزل وبلغ محفوظاً من الشياطين ، وهو حافظه في كل وقت من كل زيادة ونقصان . . . " .
وقال الآلوسى : ما ملخصه : " ولا يخفى ما في سبك الجملتين - { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } من الدلالة على كمال الكبرياء والجلالة ، وعلى فخامة شأن التنزيل ، وقد اشتملتا على عدة من وجوه التأكيد . و { نحن } ليس ضمير فصل لأنه لم يقع بين اسمين ، وإنما هو إما مبتدأ أو توكيد لاسم إن . والضمير في { له } للقرآن كما هو الظاهر ، وقيل هو للنبى صلى الله عليه وسلم . . . " .
هذا ونحن ننظر في هذه الآية الكريمة ، من وراء القرون الطويلة منذ نزولها فنرى أن الله - تعالى - قد حقق وعده في حفظ كتابه ، ومن مظاهر ذلك :
1- أن ما أصاب المسلمين من ضعف ومن فتن ، ومن هزائم ، وعجزوا معها عن حفظ أنفسهم وأموالهم وأعراضهم . . هذا الذي أصابهم في مختلف الأزمنة والأمكنة ، لم يكن له أى اثر على قداسة القرآن الكريم ، وعلى صيانته من أى تحريف .
ومن أسباب هذه الصيانة أن الله - تعالى - قيض له في كل زمان ومكان ، من أبناء هذه الأمة ، من حفظه عن ظهر قلب ، فاستقر بين الأمة بمسمع من النبى صلى الله عليه وسلم ، وصار حفاظه بالغين عدد التواتر في كل مصر وفى كل عصر .
قال الفخر الرازى : فإن قيل : فلماذا اشتغل الصحابة بجمع القرآن في المصحف ، وقد وعد الله بحفظه ، وما حفظه الله فلا خوف عليه ؟
فالجواب : أن جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله - تعالى - إياه ، فإنه - سبحانه - لما أن حفظه قيضهم لذلك . . . . .
2- أن أعداء هذا الدين - سواء أكانوا من الفرق الضالة المنتسبة للإِسلام أم من غيرهم - امتدت أيديهم الأثيمة إلى أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم فأدخلوا فيها ما ليس منها . . . وبذل العلماء العدول الضابطون ما بذلوا من جهود لتنقية السنة النبوية مما فعله هؤلاء الأعداء . .
ولكن هؤلاء الأعداء ، لم يقدروا على شيء واحد ، وهو إحداث شيء في هذا القرآن ، مع أنهم وأشباههم في الضلال ، قد أحدثوا ما أحدثوا في الكتب السماوية السابقة . .
قال بعض العلماء . سئل القاضى إسماعيل البصرى عن السر في تَطُّرق التغيير للكتب السالفة ، وسلامة القرآن من ذلك فأجاب بقوله : إن الله أوكل للأحبار حفظ كتبهم فقال : { بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله } وتولى - سبحانه - حفظ القرآن بذاته فقال : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } .
وقد ذكر الإِمام القرطبى ما يشبه ذلك نقلاً عن سفيان بن عيينه في قصة طويلة .
والخلاصة ، أن سلامة القرآن من أى تحريف - رغم حرص الأعداء على تحريفه ورغم ما أصاب المسلمين من أحداث جسام ، ورغم تطاول القرون والدهور - دليل ساطع على أن هناك قوة خارقة - خارجة عن قوة البشر - قد تولت حفظ هذا القرآن ، وهذه القوة هي قوة الله - عز وجل - ولا يمارى في ذلك إلا الجاحد الجهول .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ } .
يقول تعالى ذكره : إنّا نَحْنُ نَزّلْنا الذّكْرَ وهو القرآن ، وإنّا لَهُ لحَافِظُونَ قال : وإنا للقرآن لحافظون من أن يزاد فيه باطل مّا ليس منه ، أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه . والهاء في قوله : «لَهُ » من ذكر الذكر .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني الحسن ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وإنّا لَهُ لحَافِظُونَ قال : عندنا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّا نَحْنُ نَزّلْنا الذّكْرَ وإنّا لَهُ لحَافِظُونَ قال في آية أخرى : لا يَأْتِيهِ الباطِلُ والباطل : إبليس ، مِنْ بينِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ فأنزله الله ثم حفظه ، فلا يستطيع إبليس أن يزيد فيه باطلاً ولا ينتقص منه حقّا ، حفظه الله من ذلك .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وإنّا لَهُ لحَافِظُونَ قال : حفظه الله من أن يزيد فيه الشيطان باطلاً أو ينقص منه حقّا .
وقيل : الهاء في قوله : وإنّا لَهُ لحَافِظُونَ من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم بمعنى : وإنا لمحمد حافظون ممن أراده بسوء من أعدائه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.