فقال زكريا من شدة فرحه { رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر } وكل واحد من الأمرين مانع من وجود الولد ، فكيف وقد اجتمعا ، فأخبره الله تعالى أن هذا خارق للعادة ، فقال : { كذلك الله يفعل ما يشاء } فكما أنه تعالى قدر وجود الأولاد بالأسباب التي منها التناسل ، فإذا أراد أن يوجدهم من غير ما سبب فعل ، لأنه لا يستعصي عليه شيء .
ثم حكى القرآن بعد ذلك ما قاله زكريا بعد أن ساقت له الملائكة تلك البشارات السارة فقال - تعالى : { قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ } أنى هنا بمعنى كيف . و " عاقر " أى عقيم لا تلد لكبر سنها من العقر وهو العقم . يقال عقرت المرأة تعقر عقراً وعقراً فهي عاقر إذا بلغت سن اليأس من الولادة . أى قال زكريا على سبيل التعجب بعد أن نادته الملائكة وبشرته بما بشرته به : يا رب كيف يكون لي غلام والحال أنني قد أدركني الكبر الكامل الذى أضعفنى ، وفوق ذلك فإن امرأتى عاقر أى عقيم لا تلد لشيخوختها وبلوغها العمر الذى ينقطع معه النسل ؟
قال بعضهم : وإنما قال ذلك استفهاما عن كيفية حدوث الحمل ، أو استبعادا من حيث العادة ، أو استعظاماً وتعجبا من قدرة الله - تعالى - لا استبعادا أو إنكارا فلا يرد : كيف قال زكريا ذلك ولم يكن شاكاً في قدرة الله - تعالى - .
والجملة الكريمة استئناف مبنى على سؤال مقدر ، كأنه قيل : فماذا قال زكريا عندما بشرته الملائكة ؟ فكان الجواب : قال رب أنى يكون لي غلام .
وقد خاطب زكريا ربه مع أن النداء له صدر من الملائكة ، للإشعار بالمبالغة في التضرع وأنه قد طرح الوسائط واتجه إلى خالقه مباشرة يشكره ويظهر التعجب من قدرته لأنه - سبحانه - أعطاه ما لم تجر العادة به .
قال الألوسي وقوله { يَكُونُ } يجوز أن تكون من كان التامة فيكون فاعلها هوقوله { غُلاَمٌ } ويكون الظرف { أنى } والجار والمجرور { لِي } متعلقان بها .
ويجوز أن تكون من كان الناقصة و { لِي } متعلق بمحذوف وقع حالا لأنه لو تأخر لكان صفة . وفى الخبر حينئذ وجهان : أحدهما { أنى } لأنها بمعنى كيف أو من أين والثانى الخبر الجار والمجرور { أنى } منصوب على الظرفية " .
وقوله { وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر } جملة حالية من ياء المتكلم ، أي أصابني الكبر وأدركني فأضعفني وأفقدني قوتي .
والكبر مصدر كبر الرجل إذا أسن . وقد قال زكريا { وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر } ولم يقل وقد بلغت الكبر للإشارة إلى أن الكبر قد تابعه ولازمه حتى أصابه بالضعف والآلام والأسقام .
وقوله { وامرأتي عَاقِرٌ } جملة حالية أيضاً إما من ياء { لِي } أو ياء { بَلَغَنِي } .
فأنت ترى أن زكريا - عليه السلام - قد أظهر التعجب عندما بشرته الملائكة بغلامه يحيى لأنه كان شيخا مسنا ولأن امرأته كانت عقيما لا تلد إما لكبر سنها - أيضاً وإما لأنها من الأصل كانت على غير استعداد للحمل والإنجاب .
قال ابن عباس : كان زكريا يوم بشر بيحيى ابن عشرين ومائة سنة وكانت أمرأته بنت ثمان وتسعين سنة " .
ثم حكى القرآن أن الله تعالى قد رد على زكريا بما يزيل عجبه ويمنع حيرته فقال تعالى ، { قَالَ كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } .
أى قال - سبحانه - : مثل ذلك الفعل العجيب والصنع البديع الذى رأيته من أن يكون لك غلام وأنت شيخ كبير وامرأتك عاقر مثل ذلك الفعل يفعل الله ما يشاء أن يفعله ، لأنه - سبحانه - هو خالق الأسباب والمسببات ولا يعجزه شىء في هذا الكون ، وبقدرته أن يغير ما جرت به العادات بين الناس .
فالجملة الكريمة بجانب تضمنها إقناع زكريا وإزالة عجبه ، تتضمن أيضاً تقرير قضية عامة وهى أن الله - تعالى - يفعل ما يشاء أن يفعله بدون تقيد بالأسباب والمسببات والعادات فهو الفعال لما يريد .
{ قَالَ رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ }
يعني أن زكريا قال إذ نادته الملائكة : { أن اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ وَسَيّدا وَحَصُورا وَنَبِيّا مِنَ الصّالِحِينَ } :
{ أنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الكِبَرُ } يعني : من بلغ من السنّ ما بلغت لم يولد له¹ { وَامْرَأتِي عاقِرٌ } والعاقر من النساء : التي لا تلد ، يقال منه : امرأة عاقر ، ورجل عاقر ، كما قال عامر بن الطفيل :
لَبِئْسَ الفَتَى أنْ كُنْتُ أعْوَرَ عَاقِرا جبَانا فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلّ محْضَرِ
وأما الكِبر : فمصدر كَبِرَ فلان فهو يَكْبَرُ كبرا . وقيل : «بلغني الكبر » ، وقد قال في موضع آخر : { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ } لأن ما بلغك فقد بلغته ، وإنما معناه : قد كبرت ، وهو كقول القائل : وقد بلغني الجهد بمعنى : أني في جهد .
فإن قال قائل : وكيف قال زكريا وهو نبيّ الله : { رَبّ أنّى يَكُونُ لي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ } وقد بشرته الملائكة بما بشرته به ، عن أمر الله إياها به ؟ أشك في صدقهم ؟ فذلك ما لا يجوز أن يوصف به أهل الإيمان بالله ، فكيف الأنبياء والمرسلون ؟ أم كان ذلك منه استنكارا لقدرة ربه ؟ فذلك أعظم في البلية ! قيل : كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم على غير ما ظننت ، بل كان قيله ما قال من ذلك ، كما :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : لما سمع النداء يعني زكريا لما سمع نداء الملائكة بالبشارة بيحيى جاءه الشيطان فقال له : يا زكريا إن الصوت الذي سمعت ليس هو من الله ، إنما هو من الشيطان يسخر بك ، ولو كان من الله أوحاه إليك ، كما يوحي إليك في غيره من الأمر ! فشكّ مكانه ، وقال : { أنّى يَكُونُ لي غُلامٌ } ذَكَرٌ ، يقول : ومن أين
{ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الكِبَرُ وَامْرَأتي عاقِرٌ } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن عكرمة ، قال : فأتاه الشيطان ، فأراد أن يكدر عليه نعمة ربه ، فقال : هل تدري من ناداك ؟ قال : نعم ، ناداني ملائكة ربي ، قال : بل ذلك الشيطان ، لو كان هذا من ربك لأخفاه إليك كما أخفيت نداءك ، فقال : { رَبّ اجْعَلْ لي آيَة } .
فكان قوله ما قال من ذلك ، ومراجعته ربه فيما راجع فيه بقوله : { أنّى يَكُونُ لي غُلامٌ } ، للوسوسة التي خالطت قلبه من الشيطان ، حتى خيلت إليه أن النداء الذي سمعه كان نداء من غير الملائكة ، فقال : { رَبّ أنّى يَكُونُ لي غُلامٌ } مستثبتا في أمره لتقرّر عنده بآية ، يريه الله في ذلك أنه بشارة من الله على ألسن ملائكته ، ولذلك قال : { رَبّ اجْعَلْ لي آيَة } . وقد يجوز أن يكون قيله ذلك مسألة منه ربه : من أيّ وجه يكون الولد الذي بشر به ، أمن زوجته فهي عاقر ، أم من غيرها من النساء ؟ فيكون ذلك على غير الوجه الذي قاله عكرمة والسديّ ، ومن قال مثل قولهما .
القول في تأويل قوله تعالى : { قالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ } .
يعني جل ثناؤه بقوله : { كَذَلِكَ اللّهُ } أي هو ما وصف به نفسه ، أنه هين عليه أن يخلق ولدا من الكبير الذي قد يئس من الولد ، ومن العاقر التي لا يرجى من مثلها الولادة ، كما خلقك يا زكريا من قبلُ خلقَ الولد منك ولم تك شيئا ، لأنه الله الذي لا يتعذّر عليه خلق شيء أراده ، ولا يمتنع عليه فعل شيء شاءه ، لأن قدرته القدرة التي لا يشبهها قدرة . كما :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : { كَذَلِكَ اللّهُ يفْعَلُ ما يَشاءُ } وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.