الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{إِذۡ أَبَقَ إِلَى ٱلۡفُلۡكِ ٱلۡمَشۡحُونِ} (140)

وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن الحارث قال : لما خرج يونس عليه السلام مغاضباً أتى السفينة ، فركبها فامتنعت أن تجري فقال أصحاب السفينة : ما هذا إلا لحدث أحدثتموه ! فقال بعضهم لبعض : تعالوا حتى نقترع ، فمن وقعت عليه القرعة فالقوه في الماء ، فاقترعوا ، فوقعت القرعة على يونس عليه السلام ، ثم عادوا فوقعت القرعة عليه في الثالثة ، فلما رأى يونس ذلك قال : هو أنا ، فخرج فطرح نفسه في الماء ، فإذا حوت قد رفع رأسه من الماء قدر ثلاثة أذرع ، فذهب ليطرح نفسه ، فاستقبله الحوت ، فإذا هوى إليه ليأخذه ، فتحول إلى الجانب الآخر ، فإذا الحوت قد استقبله ، فلما رأى يونس عليه السلام ذلك عرف أنه أمر من الله ، فطرح نفسه ، فأخذه الحوت قبل أن يمر على الماء ، فأوحى الله إلى الحوت أن لا تهضم له عظماً ، ولا تأكل له لحماً حتى آمر بأمري [ ]بكذا وكذا وكذا . . .

. . حتى ألزقه بالطين ، فسمع تسبيح الأرض ، فذلك حين نادى .

وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لما ألقى يونس عليه سلام نفسه في البحر التقمه الحوت ، هوى به حتى انتهى إلى مفجر من الأرض أو كلمة تشبهها ، فسمع تسبيح الأرض { فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] فأقبلت الدعوة تحوم العرش ، فقالت الملائكة : يا ربنا إنا نسمع صوتاً ضعيفاً من بلاد غربة قال : وتدرون ما ذاكم ؟ قالوا : لا يا ربنا قال : ذاك عبدي يونس قالوا : الذي كنا لا نزال نرفع له عملاً متقبلاً ، ودعوة مجابة ، قال : نعم . قالوا : يا ربنا ألا ترحم ما كان يصنع في الرخاء ، وتنجيه عند البلاء . قال : بلى فأمر الحوت فحفظه » .

وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن لفظه حين لفظه في أصل يقطينة وهي الدباء ، فلفظه وهو كهيئة الصبي ، وكان يستظل بظلها ، وهيأ الله له أرواة من الوحش ، فكانت تروح عليه بكرة وعشية ، فتفشخ رجليها ، فيشرب من لبنها حتى نبت لحمه .

وأخرج ابن إسحق والبزار وابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لما أراد الله حبس يونس عليه السلام في بطن الحوت ، أوحى الله إلى الحوت أن خذه ، ولا تخدش له لحماً ، ولا تكسر له عظماً ، فأخذه ثم أهوى به إلى مسكنه في البحر ، فلما انتهى به إلى أسفل البحر ، سمع يونس حساً فقال في نفسه : ما هذا . . . ! فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت : إن هذا تسبيح دواب الأرض ، فسبح وهو في بطن الحوت ، فقالوا : ربنا إنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غربة قال : ذاك عبدي يونس ، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر قالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم عمل صالح ؟ قال : نعم . فشفعوا له عند ذلك ، فأمره ، فقذفه في الساحل كما قال الله { وهو سقيم } » .

وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : إن يونس عليه السلام كان وعد قومه العذاب ، وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام ، ففرقوا بين كل والدة وولدها ، ثم خرجوا ، فجأروا إلى الله ، واستغفروه ، فكف الله عنهم العذاب ، وغدا يونس عليه السلام ينتظر العذاب ، فلم ير شيئاً ، وكان من كذب ولم يكن له بينة قتل . فانطلق مغاضباً ، حتى أتى قوماً في سفينة ، فحملوه وعرفوه ، فلما دخل السفينة ركدت ، والسفن تسير يميناً وشمالاً فقال : ما بال سفينتكم ؟ ! قالوا : ما ندري ! قال : ولكني أدري أن فيها عبداً أبق من ربه ، وأنها والله لا تسير حتى تلقوه ، قالوا : أما أنت والله يا نبي الله فلا نلقيك . فقال لهم يونس عليه السلام : اقترعوا فمن قرع . فليقع ، فاقترعوا فقرعهم يونس عليه السلام ثلاث مرات ، فوقع وقد وكل به الحوت ، فلما وقع ابتلعه ، فأهوى به إلى قرار الأرض ، فسمع يونس عليه السلام تسبيح الحصى { فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] قال : ظلمة بطن الحوت ، وظلمة البحر ، وظلمة الليل ، قال { فنبذ بالعراء وهو سقيم } قال كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش ، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين ، فكان يستظل بها ويصيب منها ، فيبست فبكى عليها حين يبست ، فأوحى الله إليه : أتبكي على شجرة أن يبست ، ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون أردت أن تهلكهم ؟ فخرج فإذا هو بغلام يرعى غنماً فقال : ممن أنت يا غلام ؟ قال : من قوم يونس قال : فإذا رجعت إليهم ، فأقرئهم السلام وأخبرهم إنك لقيت يونس ، فقال له الغلام : إن تكن يونس فقد تعلم أنه من كذب ولم يكن له بينة قتل ، فمن يشهد لي قال : تشهد لك هذه الشجرة ، وهذه البقعة . فقال الغلام ليونس : مرهما فقال لهما يونس عليه السلام : إذا جاء كما هذا الغلام فاشهدا له . قالتا : نعم . فرجع الغلام إلى قومه ، وكان له إخوة ، فكان في منعة ، فأتى الملك فقال : إني لقيت يونس وهو يقرأ عليكم السلام ، فأمر به الملك أن يقتل فقال : إن له بينة ، فأرسل معه ، فانتهوا إلى الشجرة والبقعة فقال لهما الغلام : نشدتكما بالله هل أشهدكما يونس ؟ قالتا : نعم . فرجع القوم مذعورين يقولون : تشهد لك الشجرة والأرض ! فأتوا الملك ، فحدثوه بما رأوا ، فتناول الملك يد الغلام ، فأجلسه في مجلسه ، وقال : أنت أحق بهذا المكان مني ، وأقام لهم أمرهم ذلك الغلام أربعين سنة .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه رضي الله عنه قال : إن يونس بن متى كان عبداً صالحاً ، وكان في خلقه ضيق ، فلما حملت عليه أثقال النبوّة .

ولها أثقال لا يحملها إلا قليل . تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل ، فقذفها من يده ، وخرج هارباً منها . يقول الله لنبيه { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تكن كصاحب الحوت } [ الأحقاف : 35 ] .