الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{فَلَوۡلَآ أَنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلۡمُسَبِّحِينَ} (143)

وأخرج أحمد في الزهد عن الربيع بن أنس رضي الله عنه في قوله { فلولا أنه كان من المسبحين } قال : لولا أنه حلاله عمل صالح { للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } قال : وفي الحكمة . إن العمل الصالح يرفع صاحبه .

وأخرج أحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير رضي الله عنه في قوله { فلولا أنه كان من المسبحين } قال : من المصلين قبل أن يدخل بطن الحوت .

وأخرج أحمد وابن أبي حاتم وابن جرير عن الحسن رضي الله عنه في قوله { فلولا أنه كان من المسبحين } قال : ما كان إلا صلاة أحدثها في بطن الحوت . فذكر ذلك لقتادة رضي الله عنه فقال : لا . إنما كان يعمل في الرخاء .

وأخرج عبد الرزاق والفريابي وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { فلولا أنه كان من المسبحين } قال : من المصلين .

وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد رضي الله عنه { فلولا أنه كان من المسبحين } قال : العابدين الله قبل ذلك .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سعيد بن أبي الحسن رضي الله عنه { فلولا أنه كان من المسبحين } قال : لولا أنه كان له سلف من عبادة وتسبيح ، تداركه الله به حين أصابه ما أصابه ، نعمه في بطن الحوت أربعين من بين يوم وليلة ، ثم أخرجه وتاب عليه .

وأخرج عبد بن حميد عن الحسن رضي الله عنه { فلولا أنه كان من المسبحين } قال : نعلم والله أن التضرع في الرخاء استعداد لنزول البلاء ، ويجد صاحبه متكأ إذا نزل به ، وإن سالف السيئة تلحق صاحبها وإن قدمت .

وأخرج ابن أبي شيبة عن الضحاك رضي الله عنه قال : اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة ، فإن يونس عليه السلام كان عبداً صالحاً ذاكراً لله ، فلما وقع في بطن الحوت قال الله { فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } وإن فرعون كان عبداً طاغياً ، ناسياً لذكر الله ، فلما أدركه الغرق قال : { آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين } [ يونس : 90 ] فقيل له { آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين } .

وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في شعب الإِيمان عن الحسن رضي الله عنه في قوله { فلولا أنه كان من المسبحين } قال : كان يكثر الصلاة في الرخاء ، فلما حصل في بطن الحوت ، ظن أنه الموت ، فحرك رجليه ، فإذا هي تتحرك ، فسجد وقال : يا رب اتخذت لك مسجداً في موضع لم يسجد فيه أحد .

وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن الشعبي قال : التقمه الحوت ضحى ، ولفظه عشية ، ما بات في بطنه .

وأخرج الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : مكث يونس عليه السلام في بطن الحوت أربعين يوماً .

وأخرج عبد الرزاق وابن مردويه عن ابن جريج قال : بقي يونس في بطن الحوت أربعين يوماً .

وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي مالك رضي الله عنه قال : لبث يونس عليه السلام في بطن الحوت أربعين يوماً .

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال : لبث يونس في بطن الحوت سبعة أيام ، فطاف به البحار كلها ، ثم نبذه على شاطئ دجلة .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه قال { التقمه الحوت } يقال له نجم ، وإنه لبث ثلاثاً في جوفه ، وفي قوله { فلولا أنه كان من المسبحين } قال : كان كثير الصلاة في الرخاء ، فنجا { للبث في بطنه } قال : لصار له بطن الحوت قبراً { إلى يوم يبعثون } قال : إلى يوم القيامة . وفي قوله { فنبذناه بالعراء } قال : شط دجلة . ونينوى على شط دجلة ، مكث في بطنه أربعين يوماً يتردّد به في دجلة .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما { فنبذناه بالعراء } قال : ألقيناه بالساحل .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن شهر بن حوشب رضي الله عنه قال : انطلق يونس عليه السلام مغضباً ، فركب مع قوم في سفينة ، فوقفت السفينة لم تسر ، فساهمهم ، فتدلى في البحر ، فجاء الحوت يبصبص بذنبه ، فنودي الحوت أنا لم نجعل يونس لك رزقاً ، إنما جعلناك له حرزاً ومسجداً .

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة رضي الله عنه قال : لما ذهب مغاضباً ، فكان في بطن الحوت قال من بطن الحوت : إلهي من البيوت أخرجتني ، ومن رؤوس الجبال أنزلتني ، وفي البلاد سيرتني ، وفي البحر قذفتني ، وفي بطن الحوت سجنتني ، فما تعرف مني عملاً صالحاً تروح به عني . قالت الملائكة عليهم السلام : ربنا صوت معروف من مكان غربة ! فقال لهم الرب : ذاك عبدي يونس قال الله { فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } وكان في بطن الحوت أربعين يوماً ، فنبذه الله { بالعراء وهو سقيم } وأنبت { عليه شجرة من يقطين } قال : اليقطين الدباء ، فاستظل بظلها ، وأكل من قرعها ، وشرب من أصلها ما شاء الله . ثم إن الله تعالى أيبسها ، وذهب ما كان فيها ، فحزن يونس عليه السلام ، فأوحى الله إليه : حزنت على شجرة أنبتها ثم أيبستها ، ولم تحزن على قومك حين جاءهم العذاب ، فصرف عنهم ، ثم ذهبت مغاضباً .

وأخرج أحمد في الزهد وعبد بن حميد وأبو الشيخ عن حميد بن هلال قال : كان يونس عليه السلام يدعو قومه ، فيأبون عليه ، فإذا خلا دعا الله لهم بالخير ، وقد بعثوا عليه عيناً ، فلما أعيوه ، دعا الله عليهم ، فأتاهم عينهم فقال : ما كنتم صانعين فاصنعوا ، فقد أتاكم العذاب ، فقد دعا عليكم ، فانطلق ولا يشك أنه سيأتيهم العذاب ، فخرجوا قد ولهوا البهائم عن أولادها ، فخرجوا تائبين فرحمهم الله تعالى ، وجاء يونس عليه السلام ينظر بأي شيء أهلكها ، فإذا الأرض مسودة منهم بدون عذاب ، وذاك حين ذهب مغاضباً ، فركب مع قوم في سفينة ، فجعلت السفينة لا تنفذ ، ولا ترجع فقال بعضهم لبعض ، ماذا إلا لذنب بعضكم ؟ فاقترعوا أيكم نلقيه في الماء ونخلي وجهنا ، فاقترعوا ، فبقي سهم يونس عليه السلام في الشمال فقالوا : لا نفتدي من أصحابنا بنبي الله فقال يونس عليه السلام : ما يراد غيري ، فاقذفوني ولا تنكسوني ، ولكن صبوني على رجلي صباً ، ففعلوا وجاء الحوت شاحباً فاه ، فالتقمه فاتبعه حوت أكبر من ذلك ليلتقمهما ، فسبقه فكان يونس في بطن الحوت حتى رق العظم ، وذهب اللحم والبشر والشعر ، وكان سقيماً فدعا بما دعا به ، فنبذ بالعراء وهو سقيم ، فأنبت الله { عليه شجرة من يقطين } فكان فيها غذاه حتى اشتد العظم ، ونبت اللحم والشعر والبشر ، فعاد كما كان ، فبعث الله عليها ريحاً ، فيبست فبكى عليها ، فأوحى الله إليه يا يونس أتبكي على شجرة جعل الله لك فيها غذاء ، ولا تبكي على قومك أن يهلكوا ؟

وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال : لما بعث الله يونس عليه السلام إلى قومه يدعوهم إلى الله وعبادته ، وأن يتركوا ما هم فيه ، أتاهم فدعاهم ، فأبوا عليه ، فرجع إلى ربه فقال : رب إن قومي قد أبوا عليَّ وكذبوني قال : فارجع إليهم فإن هم آمنوا وصدقوا ، وإلا فاخبرهم أن العذاب مصبحهم غدوة ، فأتاهم فدعاهم ، فأبوا عليه قال : فإن العذاب مصبحكم غدوة ، ثم تولى عنهم فقال القوم بعضهم لبعض ، والله ما جربنا عليه من كذب منذ كان فينا ، فانظروا صاحبكم ، فإن بات فيكم الليلة ، ولم يخرج من قريتكم ، ولم يبت فيها ، فاعلموا أن العذاب مصبحكم ، حتى إذا كان في جوف الليل ، أخذ مخلاة فجعل فيها طعيماً له ، ثم خرج فلما رأوه فرقوا بين كل والدة وولدها ، من بهيمة أو إنسان ، ثم عجوا إلى الله مؤمنين ومصدقين بيونس عليه السلام ، وبما جاء به ، فلما رأى الله ذلك منهم بعد ما كان قد غشيهم العذاب كما يغشى القبر بالثوب كشفه عنهم ، ومكث ينظر ما أصابهم من العذاب ، فلما أصبح رأى القوم يخرجون لم يصبهم شيء من العذاب قال : لا والله لا آتيهم وقد جربوا عليَّ كذبة ، فخرج فذهب مغاضباً لربه ، فوجد قوماً يركبون في سفينة ، فركب معهم ، فلما جنحت بهم السفينة ، تكفت ووقفت فقال القوم : إن فيكم لرجلاً عظيم الذنب ، فاستهموا لا تغرقوا جميعاً ، فاستهم القوم فسهمهم يونس عليه السلام قال القوم : لا نلقي فيه نبي الله ، اختلطت سهامكم ، فأعيدوها فاسهموا ، فسهمهم يونس فلما رأى يونس عليه السلام ذلك قال للقوم : فالقوني لا تغرقوا جميعاً ، فألقوه فوكل الله تعالى به حوتاً ، فالتقمه لا يكسر له عظماً ، ولا يأكل له لحماً ، فهبط به الحوت ، إلى أسفل البحر ، فلما جنه الليل ، نادى في ظلمات ثلاث : ظلمة بطن الحوت ، وظلمة الليل ، وظلمة البحر

{ أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] فأوحى الله إلى الحوت : أن ألقيه في البر ، فارتفع الحوت ، فألقاه في البر لا شعر له ، ولا جلد ، ولا ظفر ، فلما طلعت عليه الشمس أذاه حرها ، فدعا الله فأنبتت { عليه شجرة من يقطين } وهي الدباء .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن سعيد بن جبير قال : لما ألقي يونس عليه السلام في بطن الحوت ، طاف في البحور كلها سبعة أيام ، ثم انتهى به إلى شط دجلة ، فقذفه على شط دجلة ، فأنبت الله { عليه شجرة من يقطين } قال من نبات البرية ، فأرسله { إلى مائة ألف أو يزيدون } قال : يزيدون بسبعين ألفاً ، وقد كان أظلهم العذاب ، ففرقوا بين كل ذات رحم ورحمها من الناس والبهائم ، ثم عجوا إلى الله ، فصرف عنهم العذاب ، ومطرت السماء دماً .

وأخرج عبد الرزاق وأحمد في الزهد وعبد بن حميد عن وهب قال : أمر الحوت أن لا يضره ، ولا يكلمه . قال الله { فلولا أنه كان من المسبحين } قال : من العابدين قبل ذلك ، فذكر بعبادته ، فلما خرج من البحر نام نومة ، فأنبت الله { عليه شجرة من يقطين } وهي الدباء فأظلته ، فبلغت في يومها ، فرآها قد أظلته ، ورأى خضرتها فأعجبته ، ثم نام نومة فاستيقظ ، فإذا هي قد يبست ، فجعل يحزن عليها ، فقيل أنت الذي لم تخلق ، ولم تسق ، ولم تنبت ، تحزن عليها . وأنا الذي خلقت مائة ألف من الناس أو يزيدون ، ثم رحمتهم ، فشق عليك .

وأخرج ابن جرير من طريق ابن قسيط أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول : طرح بالعراء ، فأنبت الله عليه يقطينة ، فقلنا يا أبا هريرة : ما اليقطينة ؟ قال : شجرة الدباء . هيأ الله تعالى له أروية وحشية تأكل من خشاش الأرض ، فتفشخ عليه ، فترويه من لبنها كل عشية وبكرة . حتى نبت وقال ابن أبي الصلت قبل الإِسلام في ذلك بيتاً من شعر :

فأنبت يقطيناً عليه برحمة *** من الله لولا الله ألفى ضاحيا