متشابها : يشبه بعضه بعضا في النظم والحسن والإحكام .
مثاني : واحدها مثنى ، وهي التثنية أي : التكرار .
تقشعر : ترتعد وتضطرب وتتحرك بالخوف مما فيه من الوعيد .
تلين : تسكن وتطمئن عند ذكر آيات الرحمة .
23- { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد } .
عن ابن عباس : أن قوما من الصحابة قالوا : يا رسول الله ، حدثنا بأحاديث حِسان ، وبأخبار الدّهر ، فنزلت هذه الآية .
الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن من السماء ، فهو سبحانه الذي أنزله ، فنعم الذي أنزل ، ونعم الكتاب المنزّل ، فهو أحسن الحديث ، حيث أنزله مشتملا على دلائل التوحيد والوعظ والإرشاد ، والقصص وأخبار الأولين ، والتشريع والآداب ، وأخبار البعث والحساب ، والصراط والميزان ، والجنة والنار .
{ متشابها } : يشبه بعضه بعضا في إحكامه وسمو بيانه ، ودقة بنيانه ، وليس فيه خلل ولا ضعف ولا اضطراب ، ولا ركاكة أسلوب ، بل كلّه يشبه بعضه بعضا في قوّته وجزالته ، وإحكامه وسمو معانيه .
{ مثاني } . يثنى ويكرر في قصصه وأخباره ووعظه ووعده ووعيده ، لحكمة إلهية يقتضيها السياق ، وتحتاج إليه الخلائق ، مع الجزالة والإعجاز ، ولا تُملّ إعادته ، بل كلما تكرر حلا ، فهو يأتي بمناسبة جديدة في كل قصة ، وتوضع القصة في سياق مناسب .
قال تعالى : { ص والقرآن ذي الذكر } . ( ص : 1 )
وقال تعالى : { وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون } . ( الزخرف : 44 ) .
وهذا الكتاب إذا سمعه المؤمنون ، وأصغى إليه المتقون ، وتأمّله الذاكرون ؛ وجلت قلوبهم ، واقشعرت جلودهم من خشية الله تعالى ومخافته ، حيث ترتعش القلوب ، وتبكي العيون من خوف العذاب والوعيد ، ومن خوف غضب الله وعقابه .
{ تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم . . . }
فمن هيبة القرآن وجلاله ، إذا سمع المتقون قوارع آياته ووعيده : أصابتهم رهبة وخشية تقشعر منها جلودهم ، وإذا سمعوا وصف الجنة ونعيمها ، ورحمة الله واتساعها ، وآيات الرجاء من فضل الله ، ومحبته لتوبة العباد ؛ تبدل خوفهم إلى رجاء ، وخشيتهم إلى رغبة في فضل الله .
قال تعالى : { ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله . . . }
فما أصدق هذه القلوب ، وما أيسر هذه الشفافية والاستجابة لآيات الله ، حيث نجد الخوف والبكاء والأنين عند آيات الوعيد ، ونجد الأمل والانشراح والرجاء عند آيات الرحمة والوعد وذكر الجنان والنعيم .
قال الزجاج : { إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله } .
{ متشابها } : يشبه بعضه بعضا في الحسن والحكمة ، ويصدّق بعضه بعضا ، ليس فيه تناقض ولا اختلاف .
وقال قتادة : يشبه بعضه بعضا من الآي والحروف ، وقيل : يشبه كتب الله المنزلة على أنبيائه ، لما يتضمنه من أمر ونهي وترغيب وترهيب ، وإن كان أعم وأعجز .
ثم وصفه فقال : { مثاني } . تثنى فيه القصص والمواعظ والأحكام ويثنى للتلاوة فلا يملّ .
{ تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم . . . }
تضطر وتتحرك بالخوف مما فيه من الوعيد .
{ ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله . . . }
أي : عند آية الرحمة ، وقيل : إلى العمل بكتاب الله والتصديق به ، وقيل { إلى ذكر الله } . يعني الإسلام .
قال زيد بن أسلم : قرأ أبي بن كعب عند النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحاب فرقّوا : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اغتنموا الدعاء عند الرّقة فإنها رحمة " {[593]}
وعن العباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا اقشعر جلد المؤمن من مخافة الله تحاتت عنه خطاياه كما يتساقط عن الشجرة البالية ورقها " {[594]}
{ ذلك هدى الله يهدي به من يشاء . . . }
ذلك الكتاب هداية الله لعباده ، أو هذا الفضل والتوفيق ، والخوف من الوعيد ، والرجاء والأمل في الرحمة ، هداية السماء يهدي بها الله من يشاء من المتقين .
{ ومن يضلل الله فما له من هاد } .
ومن قسا قلبه وأعرض عن الله تعالى سُلب الهداية والتوفيق ، وعاش في الضلال بسبب الإصرار والعناد ، وهذا ليس له من هاد يهديه بعد الله أبدا .
1- قلب قابل للهداية ، تحلُّ فيه هداية السماء ، وفيه الرقة والرحمة والخشوع والإيمان .
2- قلب غير قابل للهداية ، وفيه القسوة والصلابة ، والإعراض عن ذكر الله ، والكفر بهدى السماء .
{ ومن يضلل الله فما له من هاد } .
أي : من جعل قلبه قاسيا مظلما بليد الفهم ، منافيا لقبول هداية الله ، { فما له من هاد } . فلن يستطيع أحد هدايته ، أو يؤثر فيه حتى يهتدى . ا ه .
وفي معنى هذه الآية يقول الله تعالى : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون } . ( الحشر : 21 ) .
{ الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله . . . } .
يصف الله المؤمنين بأنهم يلزمون الأدب عند سماع القرآن ، كما كان الصحابة رضي الله عنهم عند سماعهم كلام الله تعالى تقشعر جلودهم ، ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله ، لم يكونوا يتصارخون ، بل عندهم الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك .
تلا – قتادة – رحمه الله – هذه الآية فقال : هذا نعت أولياء الله ، نعتهم الله عز وجل ، بأنهم تقشعر جلودهم ، وتبكي عيونهم ، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله ، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم ، والغشيان عليهم ، إنما هذا في أهل البدع ، وهذا من الشيطان . {[595]}
{ أحسن الحديث كتاباً } : هو القرآن الكريم .
{ متشابهاً } : أي يشبه بعضه بعضا في النظم والحسن وصحة المعاني .
{ مثاني } : أي ثنّى فيه الوعد والوعيد كالقصص والأحكام .
{ تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم } : أي ترتعد من جلود الذين يخشون ربهم وذلك عند ذكر وعيده .
{ ثم تلين جلودهم وقلوبهم } : أي تطمئن وتلين .
{ إلى ذكر الله } : أي عند ذكر وعده لأهل الإِيمان والتقوى بالجنة وما فيها من نعيم مقيم .
قوله تعالى { الله نزّل أحسن الحديث } هذه الآية نزلت لما قال أصحاب الرسول يوماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا يا رسول الله فأنزل الله تعالى قوله { الله نزّل أحسن الحديث } وهو القرآن { كتاباً متشابهاً } أي يشبه بعضه بعضاً في حسن اللفظ وصحة المعاني { مثاني } أي يثني فيه الوعد والوعيد والأمر والنهي والقصص ، { تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم } أي عند سماع آيات الوعيد فيه { ثم تلين جلودهم } إذا سمعوا آيات الوعد { وتطمئن قلوبهم } إذا سمعوا حججه وأدلته وقوله { إلى ذكر الله } أي القرآن وذكر الله بوعده ووعيده وأسمائه وصفاته ويشهد له قوله تعالى من سورة الرعد { ا بذكر الله تطمئن القلوب } وقوله تعالى { ذلك هدى الله يهدي به من يشاء } أي ذلك المذكور وهو القرآن الكريم هدى الله إذ هو الذي أنزله وجعله هادياً يهدي به من يشاء هدايته بمعنى يوفقه للإِيمان والعمل به وترك الشرك والمعاصي . وقوله { ومن يضلل الله فما له من هادٍ } لما سبق في علم الله ولوجود مانع من هدايته كالإِصرار والعناد والتقليد . فهذا ليس له من هاد يهديه بعد الله أبداً .
- بيان أن القرآن أحسن ما يحدث به المؤمن إذ أخباره كلها صدق وأحكامه كلها عدل .
- فضيلة أهل الخشية من الله إذ هم الذين ينفعلون لسماع القرآن فترتعد فرائصهم عند سماع وعيده ، وتلين قلوبهم وجلودهم عند سماع وعده .