8- { فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم } .
لقد تفضل الله على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصفات الحكيمة ، وأنعم عليهم بهذه النعم ، وهو { عليم } . مطلع على النفوس ، { حكيم } . جليل الحكمة في أفعاله .
والآية وسام على صدر هؤلاء الصحابة ، فهي وما سبقها تبين أن معظم الصحابة كانوا نموذجا ومثلا أعلى في محبة الإيمان والصدق فيه ، والتضحية والفداء ، وكراهة الكفر والفسوق والعصيان ، وأن هذا الهدى والطاعة ، كان فضلا من الله ونعمة ، لا تعادلهما أي نعمة ، وقد امتن الله على رسوله بأنه هو الذي هدى ووفق ، وأخرج من أصلاب الكافرين هؤلاء المؤمنين .
قال تعالى : { وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم } . ( الأنفال : 63 ) .
ذكر الأستاذ وهبة الزحيلي في التفسير المنير ( جزء 26 ص 232 ) أنه يستنبط من الآيات السابقة ما يأتي :
1- إن وجود الرسول صلى الله عليه وسلم في أصحابه ركن تثبت وأناة وتأن فيمنع التسرع في إصدار الأحكام ، فإنه لو قتل القوم الذين سعى بهم الوليد بن عقبة إليه ، لكان خطأ ، ووقع في العنت ( الإثم والمشقة والهلاك ) من أراد إيقاع الهلاك بأولئك القوم ، لعداوة كانت بينه وبينهم ، ويكون المراد من قوله تعالى : { واعلموا أن فيكم رسول الله . . . } ألا تكذبوا فإن الله تعالى يعلم رسوله صلى الله عليه وسلم أنباءكم فتفتضحون .
2- استدلت الأشاعرة بقوله : { حبب } ، { وكره } . على مسألة خلق الأفعال ، أي أن الله تعالى خلق أفعال العباد وذواتهم وصفاتهم وألسنتهم وألوانهم ، لا شريك له ، لقوله تعالى : { والله خلقكم وما تعملون } . ( الصافات : 96 ) . وهذا رد على القدرية7 ، والإمامية ، والمعتزلة الذين يقولون : إن الإنسان يخلق أفعال نفسه ، ويؤولون آية : { حبب } ، { وكره } . على اللطف والتوفيق .
3- إن الله تعالى عليم بكل شيء ، يعلم من يتحرى الخير ومن لا يتحراه ، ومن يريد الرسول صلى الله عليه وسلم على ما لا تقتضي به الحكمة ومن لا يريده ، وهو فوق هذا يعلم الأشياء ويعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بها ، ويأمره بما تقضي به الحكمة ، فيجب الوقوف عند أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، واجتناب الاقتراح عليه .
4- كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو بمضمون الآيات السابقة ، فقد أخرج الإمام أحمد ، والنسائي ، عن أبي رفاعة الزُّرقي ، عن أبيه قال : لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( استووا حتى أثنى على ربي عز وجل ) ، فصاروا خلفه صفوفا ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( اللهم لك الحمد كله ، اللهم لا قابض لما بسطت ، ولا باسط لما قبضت ، ولا هادي لمن أضللت ، ولا مضل لمن هديت ، ولا معطي لما منعت ، ولا مانع لما أعطيت ، ولا مقرب لما باعدت ، ولا مباعد لما قربت ، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك ، وفضلك ورزقك ، اللهم إني أسالك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول ، اللهم أسالك النعيم يوم العَيْلة ، والأمن يوم الخوف ، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا ، ومن شر ما منعتنا ، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين ، اللهم توفنا مسلمين ، وأحينا مسلمين ، وألحقنا بالصالحين ، غير خزايا ولا مفتونين ، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ، ويصدون عن سبيلك ، واجعل عليهم رجزك وعذابك ، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب ، إله الحق )8 .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فضلا من الله ونعمة} يقول: الإيمان الذي حببه إليكم فضلا من الله ونعمة، يعني رحمة.
{والله عليم} بخلقه {حكيم} في أمره...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَنِعْمَةً "يقول: ولكن الله حبّب إليكم الإيمان، وأنعم عليكم هذه النعمة التي عدّها فضلاً منه، وإحسانا ونعمة منه أنعمها عليكم.
"وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" يقول: والله ذو علم بالمحسن منكم من المسيء، ومن هو لنعم الله وفضله أهل، ومن هو لذلك غير أهل، وحكمةٍ في تدبيره خلقه، وصرفه إياهم فيما شاء من قضائه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... رُشدُهم فضل من الله لكونهم موفقين فيه، والفضل والنعمة بمعنى الإفضال والإنعام. {والله عَلِيمٌ} بأحوال المؤمنين وما بينهم من التمايز والتفاضل {حَكِيمٌ} حين يفضل وينعم بالتوفيق على أفاضلهم.
ما الفرق بين الفضل والنعمة في الآية؟
نقول فضل الله إشارة إلى ما عنده من الخير وهو مستغن عنه، والنعمة إشارة إلى ما يصل إلى العبد وهو محتاج إليه، لأن الفضل في الأصل ينبئ عن الزيادة، وعنده خزائن من الرحمة لا لحاجة إليها، ويرسل منها على عباده ما لا يبقون معه في ورطة الحاجة بوجه من الوجوه، والنعمة تنبئ عن الرأفة والرحمة وهو من جانب العبد... {والله عليم حكيم} فيه مناسبات عدة {منها} أنه تعالى لما ذكر نبأ الفاسق، قال إن يشتبه على المؤمن كذب الفاسق فلا تعتمدوا على ترويجه عليكم الزور، فإن الله عليم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فضلاً} أي زيادة وتطولاً وامتناناً عظيماً جسيماً ودرجة عالية {من الله} الملك الأعظم الذي بيده كل شيء {ونعمة} أي- وعيشاً حسناً ناعماً وخفضاً ودعة وكرامة... {والله} أي المحيط بصفات الكمال {عليم} أي محيط العلم، فهو يعلم أحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل {حكيم} بالغ الحكمة، فهو يضع الأشياء في أوفق محالها وأتقنها، فلذلك وضع نعمته من الرسالة والإيمان على حسب علمه وحكمته...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والذي يستوقف النظر هنا هو تذكيرهم بأن الله هو الذي أراد بهم هذا الخير، وهو الذي خلص قلوبهم من ذلك الشر: الكفر والفسوق والعصيان. وهو الذي جعلهم بهذا راشدين فضلا منه ونعمة. وأن ذلك كله كان عن علم منه وحكمة.. وفي تقرير هذه الحقيقة إيحاء لهم كذلك بالاستسلام لتوجيه الله وتدبيره، والاطمئنان إلى ما وراءه من خير عليهم وبركة، وترك الاقتراح والاستعجال والاندفاع فيما قد يظنونه خيرا لهم؛ قبل أن يختار لهم الله. فالله يختار لهم الخير، ورسول الله [صلى الله عليه وسلم] فيهم، يأخذ بيدهم إلى هذا الخير. وهذا هو التوجيه المقصود في التعقيب.
وإن الإنسان ليعجل، وهو لا يدري ما وراء خطوته. وإن الإنسان ليقترح لنفسه ولغيره، وهو لا يعرف ما الخير وما الشر فيما يقترح. (ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا). ولو استسلم لله، ودخل في السلم كافة، ورضي اختيار الله له، واطمأن إلى أن اختيار الله أفضل من اختياره، وأرحم له وأعود عليه بالخير. لاستراح وسكن. ولأمضى هذه الرحلة القصيرة على هذا الكوكب في طمأنينة ورضى.. ولكن هذا كذلك منة من الله وفضل يعطيه من يشاء.
ولما ذكر التحبيب والتزيين والتكريه وما أنتجه من الرشاد ، ذكر علته إعلاماً بأنه تعالى لا يحب عليه شيء حثاً على الشكر فقال : { فضلاً } أي زيادة وتطولاً وامتناناً عظيماً جسيماً ودرجة عالية { من الله } الملك الأعظم الذي بيده كل شيء { ونعمة } أي-{[60800]} وعيشاً حسناً ناعماً وخفضاً{[60801]} ودعة وكرامة .
ولما كان التقدير : فالله منعم بفضل ، بيده كل ضر ونفع ، عطف عليه قوله : { والله } أي المحيط بصفات الكمال { عليم } أي محيط العلم ، فهو يعلم أحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل { حكيم * } بالغ الحكمة ، فهو يضع الأشياء في أوفق محالها وأتقنها ، فلذلك وضع نعمته من الرسالة والإيمان على حسب علمه وحكمته{[60802]} .