علق : واحده علقة ، وهي قطعة من الدم جامدة هي أصل البويضة ، وفي القاموس : علقت المرأة : حبلت .
خلق الله آدم بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له الملائكة ، وخلق حواء من ضلعه ليسكن إليها ، وزوّجه الله من حوّاء ، وأسكنه فسيح الجنة ، ونهاه عن الأكل من شجرة معينة ، فعصى آدم ربه ، وأكل من الشجرة ، ثم تاب الله عليه وهداه ، وأنزله إلى الدنيا ليعمر الكون ، وليكدح ويستعمر الأرض هو وذريته ، وجعل خلق ذريته من منيّ يمنى ، ثم ينتقل المني من الذكر إلى الأنثى ، ثم يتم الحمل ويتحول المنيّ إلى علقة ، وهي قطعة لحم تعلق بجدار الرّحم وتتشبث به ، وتمسك بقرار مكين في رحم الأم ، فما أبدع الخالق الذي خلق الكون للإنسان ، وما أكرم الخالق الذي خلق الإنسان من علق ، أي جعل بداية خلق الإنسان من نطفة ، ثم تطورت إلى علقة ، ومرت بمراحل في بطن الأم إلى أن اكتملت حياة الجنين ، وقد أنشأه الله خلقا آخر ، فتبارك الله أحسن الخالقين . ( المؤمنون : 14 ) .
{ خلق الإنسان } أي جنس الإنسان من بني آدم . وخصه بالذكر لكونه أشرف المخلوقات ؛ وفيه من بدائع الصنع والتدبير ما فيه . { من علق } دم جامد ، وهو الطور الثاني من أطوار تحلق المادة الإنسانية . والمراد : التنبيه إلى ما بين حالتيه الأولى والآخرة من التباين البين ، وأن الذي خلقه من هذه المادة ثم سواه بشرا في أحسن تقويم ، قادر على كل شيء .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني جلّ ثناؤه بقوله : "اقْرأْ باسِمِ رَبّكَ" محمدا صلى الله عليه وسلم، يقول : اقرأ يا محمد بذكر ربك الّذِي خَلَقَ ، ثم بين الذي خلق فقال : "خَلَقَ الإنْسانَ مِنْ عَلَقٍ" يعني : من الدم ، وقال : من علق والمراد به من علقة...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
...والعلقة قطعة من دم رطب سميت بذلك لأنها تعلق لرطوبتها بما تمر عليه ، فإذا جفت لم تكن علقة... ويحتمل مراده بذلك وجهين :
أحدهما : أن يبين قدر نعمته على الإنسان بأن خلقه من علقة مهينة حتى صار بشراً سوياً وعاقلاً متميزاً .
الثاني : أنه كما نقل الإنسان من حال إلى حال حتى استكمل ، كذلك نقلك من الجهالة إلى النبوة حتى تستكمل محلها . ...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
تخصيص لبعض ما ذكره بقوله ( الذي خلق ) لأنه يشتمل على الإنسان وغيره ، وإنما أفرد الإنسان بالذكر تشريفا له وتنبيها على ما خصه الله به من سائر الحيوان ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ الذي خَلَقَ } مبهماً ، ثم فسره بقوله : { خَلَقَ الإنسان } تفخيماً لخلق الإنسان، ودلالة على عجيب فطرته . ...
تخصيص للإنسان بالذكر من بين جملة المخلوقات ، إما لأن التنزيل إليه أو لأنه أشرف ما على وجه الأرض ... احتج الأصحاب بهذه الآية على أنه لا خالق غير الله تعالى ، ...
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
وفى الآية تلويح بأَن الإنسان خلق للقراءة والدراية ؛ إذ ذكر مع الأَمر بهما كما ذكر بذلك في قوله عز وجل { الرحمن علم القرآن خلق الإنسان } [ الرحمن : 1 - 3 ] ...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال الإمام : أي ومن كان قادرا على أن يخلق من الدم الجامد إنسانا ، وهو الحي الناطق الذي يسوده بعلمه على سائر المخلوقات الأرضية ، ويسخرها لخدمته ، يقدر أن يجعل من الإنسان الكامل مثل النبي صلى الله عليه وسلم قارئا ، وإن لم يسبق له تعلم القراءة ، وجاء بهذه الآية بعد سابقتها ليزيد المعنى تأكيدا ، كأنه يقول لمن كرر القول( إنه ليس بقارئ ) : أيقن أنك قد صرت قارئا بإذن ربك الذي أوجد الكائنات ، وما القراءة إلا واحدة منها ، والذي أنشأ الإنسان خلقا كاملا من دم جامد لا شكل فيه ولا صورة ، وإنما القراءة صفة عارضة على ذلك الإنسان الكامل ، فهي أولى بسهولة الإيجاد ....
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وخص خلق الإِنسان بالذكر من بين بقية المخلوقات لأنه المطَّرد في مقام الاستدلال إذ لا يَغفُلُ أحد من الناس عن نفسه ولا يخلو من أن يخطر له خاطر البحث عن الذي خلقه وأوجده ولذلك قال تعالى : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [ الذاريات : 21 ] . وفيه تعريض بتحميق المشركين الذين ضلوا عن توحيد الله تعالى مع أن دليل الوحدانية قائم في أنفسهم ....
قوله تعالى : " خلق الإنسان " يعني ابن آدم . " من علق " أي من دم ، جمع علقة ، والعلقة الدم الجامد ، وإذا جرى فهو المسفوح . وقال : " من علق " فذكره بلفظ الجمع ؛ لأنه أراد بالإنسان الجمع ، وكلهم خلقوا من علق بعد النطفة . والعلقة : قطعة من دم رطب ، سميت بذلك لأنها تعلق لرطوبتها بما تمر عليه ، فإذا جفت لم تكن علقة . قال الشاعر :
تركناه يَخِرُّ على يديه *** يمج عليهما عَلَقَ الوتينِ
وخص الإنسان بالذكر تشريفا له . وقيل : أراد أن يبين قدر نعمته عليه ، بأن خلقه من علقة مهينة ، حتى صار بشرا سويا ، وعاقلا مميزا .
ولما كان الحيوان أكمل المخلوقات ، وكان الإنسان أكمل الحيوان وزبدة مخضه ، ولباب حقيقته وسر محضه ، وأدل على تمام القدرة لكونه جامعاً لجميع ما في الأكوان ، فكان خلقه أبدع من خلق غيره ، فكان لذلك أدل على كمال الصانع وعلى وجوب إفراده بالعبادة ، خصه فقال : { خلق الإنسان } أي هذا الجنس الذي من شأنه الأنس بنفسه وما رأى من أخلاقه وحسه ، وما ألفه من أبناء جنسه .
ولما كانت العرب تأكل الدم ، وكان الله تعالى قد حرمه لأنه أصل الإنسان وغيره من الحيوان وهو مركب الحياة ، فإذا أكل تطبع آكله بخلق ما هو دمه ، قال معرفاً بأنه سبحانه وتعالى بنى هذه الدار على حكمة الأسباب مع قدرته على الإيجاد من غير تطوير في تسبيب : { من علق * } أي خلق هذا النوع من هذا الشيء وهو دم شديد الحمرة جامد غليظ ، جمع علقة ، وكذا الطين الذي يعلق باليد يسمى علقاً ، وهو مقرون بخلق الآدمي من الأمرين كليهما ، فالآية من أدلة إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه على استعمال المشترك في معنييه ، ولعله عبر به ليعم الطين فيكون - مع ما فيه من الإشارة إلى بديع الصنعة - إشارة إلى حرمة أكل ما هو أصلنا من الدم والتراب قبل أن يستحيل ، فإذا استحال وصف بالحلال ؛ لأن الاستحالات لها مدخل في الإحلالات في النكاح وغيره ، واحمرار النطفة ليس استحالة ؛ لأنها كانت حمراء قبل قصر الشهوة لها ، وربما ضعفت الشهوة عن قصرها فنزلت حمراء ، فإذا تحول الدم لحماً صار إلى جنس ما يحل ، وكذا إذا تحول التراب بمخالطة الماء تمراً أو حباً حل .
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :{ فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين }[ التين : 7 - 8 ] وكان معنى ذلك : أيّ شيء حمل على هذا بعد وضوح الأمر لك وبيانه وقد نزهه سبحانه وتعالى عن التكذيب بالحساب وأعلى قدره عن ذلك ، ولكن سبيل مثل هذا إذا ورد كسبيل قوله تعالى : ( لئن أشركت ليحبطن عملك }[ الزمر : 65 ] وبابه ، وحكم هذا القبيل واضح في حق من تعدى إليه الخطاب ، وقصد بالحقيقة به من أمته صلى الله عليه وسلم من حيث عدم عصمتهم ، وإمكان تطرق الشكوك والشبهة إليهم ، فتقدير الكلام : أيّ شيء يمكن فيه أن يحملكم على التوقف أو التكذيب بأمر الحساب ، وقد وضح لكم ما يرفع الريب ويزيل الإشكال ، ألم تعلموا أن ربكم أحكم الحاكمين ؟ أفيليق به وهو العليم الخبير أن يجعل اختلاف أحوالكم في الشكوك بعد خلقكم في أحسن تقويم ؟ أفيحسن أن يفعل ذلك عبثاً ؟ وقد قال تعالى : { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً }[ ص : 27 - فلما قرر سبحانه العبيد على أنه أحكم الحاكمين مع ما تقدم ذلك من موجب نفي الاسترابة في نوع الحق إذا اعتبر ونظر ، ووقعت في الترتيب سورة العلق مشيرة إلى ما به يقع الشفاء ، ومنه يعلم الابتداء والانتهاء ، وهو كتابه المبين ، الذي جعله الله تعالى تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمحسنين ، فأمر بقراءته ليتدبروا آياته فقال { اقرأ باسم ربك } مستعيناً به فسوف يتضح سبيلك وينتهج دليلك { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً }[ الفرقان : 1 ] وأيضاً فإنه تعالى أعلم عباده بخلقه الإنسان في أحسن تقويم
{ ثم رددناه أسفل سافلين }[ التين : 5 ] وحصل منه على ما قدم بيانه افتراق الطرفين وتباين القائلين ، كل ذلك بسابق حكمته وإرادته { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } وقد بين سبحانه لنا أقصى غاية ينالها أكرم خلقه وأجل عباده لديه من الصنف الإنساني ، وذلك فيما أوضحت السورتان قبل من حال نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم وجليل وعده الكريم له في قوله { ولسوف يعطيك ربك فترضى }[ الضحى : 5 ] وفضل حال ابتداء { ألم نشرح } على تقدم سؤال { رب اشرح }[ طه : 25 ] إلى ما أشارت إليه آي السورتين من خصائصه الجليلة ، وذلك أعلى مقام يناله أحد ممن ذكر ، فوقع تعقيب - ذلك بسورة تضمنت الإشارة إلى حال من جعل في الظرف الآخر من الجنس الإنساني ، وذلك حال من أشير إليه من لدن قوله تعالى : { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } إلى قوله : { كلا لا تطعه } ليظهر تفاوت المنزلتين وتباين ما بين الحالتين ، وهي العادة المطردة في الكتب ، ولم يقع صريح التعريف هنا كما وقع في الظرف الآخرة ليطابق المقصود ، ولعل بعض من لم يتفطن يعترض هنا بأن هذه السورة من أول ما أنزل فكيف يستقيم مرادك من ادعاء ترتيبها على ما تأخر عنها نزولاً ، فنقول له : وأين غاب اعتراضك في عدة سور مما تقدم بل في معظم ذلك ، وإلا فليست سورة البقرة من المدني ؟ ومقتضى تأليفنا هذا بناء ما بعدها من السور على الترتيب الحاصل في مصحف الجماعة إنما هو عليها وفيها بعد من المكي ما لا يحصى ، فإنما غاب عنك نسيان ما قدمناه في الخطبة من أن ترتيب السور ما هي عليه راجع إلى فعله عليه الصلاة والسلام أكان ذلك بتوقيف منه أو باجتهاد الصحابة رضي الله عنهم على ما قدمناه ، فارجع بصرك ، وأعد في الخطبة نظرك ، والله يوفقنا إلى اعتبار بيناته وتدبر آياته ، ويحملنا في ذلك على ما يقربنا إليه بمنه وفضله - انتهى .