وهو الحق من ربهم : الحق الثابت الذي لا مرية فيه .
كفر عنهم سيئاتهم : أزالها ومحاها بالإيمان والعمل الصالح .
وأصلح بالهم : حالهم في الدين والدنيا ، وأصل البال : الحال التي يكترث بها ، ولذلك يقال : ما باليت به ، أي : ما اكترثت به ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : ( كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمان الرحيم فهو أجزم أو أقطع ) .
2- { والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم } .
والذين آمنوا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبالقرآن كتابا منزلا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا ، وآمنوا بأن القرآن كتاب الله ، نزل به جبريل الأمين على محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن القرآن حق وعدل وصدق أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ، هؤلاء المؤمنون يقبل الله إيمانهم ويكفر عنهم السيئات التي ارتكبوها قبل الإسلام ، ويرزقهم الهدى والتقوى ، والسعادة في الدنيا ، والجنة في الآخرة ، ويصلح بالهم وشأنهم وأمورهم .
وأما { وَالَّذِينَ آمَنُوا } بما أنزل الله على رسله عموما ، وعلى محمد صلى الله عليه وسلم خصوصا ، { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } بأن قاموا بما عليهم من حقوق الله ، وحقوق العباد الواجبة والمستحبة .
{ كَفَّرَ } الله { عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } صغارها وكبارها ، وإذا كفرت سيئاتهم ، نجوا من عذاب الدنيا والآخرة . { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } أي : أصلح دينهم ودنياهم ، وقلوبهم وأعمالهم ، وأصلح ثوابهم ، بتنميته وتزكيته ، وأصلح جميع أحوالهم ، والسبب في ذلك أنهم :
قوله تعالى : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد } وقال سفيان الثوري : يعني لم يخالفوه في شيء ، { وهو الحق من ربهم } قال ابن عباس رضي الله عنهما : الذين كفروا وصدوا مشركو مكة ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات : الأنصار . { كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم } حالهم ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : عصمهم أيام حياتهم ، يعني أن هذا الإصلاح يعود إلى إصلاح أعمالهم حتى لا يعصوا .
ولما ذكر أهل{[59275]} الكفر معبراً عنهم بأدنى طبقاتهم ليشمل من فوقهم ، ذكر أضدادهم كذلك ليعم من كان منهم من جميع الفرق فقال تعالى : { والذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان باللسان { وعملوا } تصديقاً لدعواهم{[59276]} ذلك { الصالحات } أي الأعمال الكاملة في الصلاح بتأسيسها على الإيمان . ولما كان هذا الوصف لا يخص أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، خصهم بقوله تعالى : { وآمنوا } أي مع ذلك .
ولما كان بعضهم كحيي بن أخطب ومن نحا نحوه قد طعن في القرآن بنزوله منجماً مع أن التوراة ما نزلت إلا كذلك ، وليس أحد منهم يقدر{[59277]} أن ينكره قال : { بما نزل } أي ممن لا منزل إلا هو{[59278]} {[59279]}منجماً مفرقاً ليجددوا بعد الإيمان به{[59280]} إجمالاً الإيمان بكل نجم منه { على محمد } النبي الأمي العربي القرشي المكي ثم-{[59281]} المدني الذي يجدونه مكتوباً عندهم{[59282]} في التوراة والإنجيل صلى الله عليه وسلم ، ولما كان هذا معلماً بأن كل إيمان لم يقترن بالإيمان به صلى الله عليه وسلم-{[59283]} لم يعتد به ، اعترض بين المبتدأ وجوابه بما يفهم علته حثاً عليه وتأكيداً له فقال تعالى : { وهو } أي هذا الذي نزل عليه صلى الله عليه وسلم مختص بأنه { الحق } أي الكامل في الحقية لأن ينسخ ولا ينسخ{[59284]} كائناً { من ربهم } المحسن إليهم بإرساله{[59285]} ، أما إحسانه إلى أمته فواضح ، وأما سائر الأمم {[59286]}فبكونه هو{[59287]} الشافع فيهم الشفاعة العظمى يوم القيامة ، وأمته هي الشاهدة لهم .
ولما ثبت بهذا أنهم أحق الناس بالحق ، بين ما أثمر{[59288]} لهم ذلك دالاً على أنه لا يقدر أحد-{[59289]} أن يقدر الله حق قدره ، فلا يسع الخلق إلا العفو لأنهم وإن اجتهدوا في الإصلاح {[59290]}بدا لهم{[59291]} لنقصانهم من سيئات أو هفوات فقال تعالى : { كفر } أي غطى تغطية عظيمة { عنهم } في الدارين بتوبتهم وإيمانهم لأن التوبة تجب ما كان قبلها كالإيمان { سيئاتهم } أي الأعمال السيئة التي لحقتهم قبل ذلك بما يظهر لهم من المحاسن وهدى أعمالهم . ولما كان من يعمل سوءاً يخاف عاقبته فيتفرق فكره ، إذ لا عيشة لخائف{[59292]} قال تعالى : { وأصلح بالهم * } أي موضع سرهم وفكرهم بالأمن والتوفيق والسداد وقوة الفهم والرشاد{[59293]} لما يوفقهم له من محاسن الأعمال ويطيب به اسمهم في الدارين ، قال ابن برجان : وإذا أصلح ذلك من العبد-{[59294]} صلح ما يدخل{[59295]} إليه وما يخرج عنه وما يثبت فيه ، وإذا فسد فبالضد من ذلك . ولذلك إذا اشتغل البال لم ينتفع {[59296]}من صفات{[59297]} الباطن بشيء ، وقد علم أن الآية من الاحتباك : ذكر ضلال الكفار أولاً دليلاً على إرادة الهدى للمؤمنين ثانياً ، وإصلاح البال ثانياً دليلاً على حذف-{[59298]} إفساده أولاً .