{ الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون 61 ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون 62 كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون 63 الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين 64 هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين 65* } .
لتسكنوا فيه : لتخلدوا فيه إلي السكون والراحة .
مبصرا : مضيئا صالحا للحركة والعمل .
61-{ الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } .
تلفت الآيات النظر إلى بعض أنعم الله على عباده .
الله الذي جعل لكم الليل مظلما ساكنا هادئا ، حتى ينام الناس ويستردّوا عافيتهم ، ويستعيدوا طاقتهم ، كما جعل سبحانه النهار مبصرا ، ليبصر الإنسان الأشياء ، فيعمل ويربح ويكسب الرزق .
وهناك أفضال متعددة من الله على عباده ، فهذا التكامل والتوافق في خلق الكون ، وجعله صالحا لحياة الناس بنسب دقيقة ، أثر من آثار قدرة الله تعالى .
فوجود الكون ، ودورة الأرض حول الشمس ، ودورة الأرض حول نفسها ، تؤدي إلى وجود الفصول الأربعة ، ونسبة الأكسجين في الهواء – وهي 21 % - تؤدي إلى حفظ الكون وحفظ الإنسان ، فلو زادت نسبة الأكسجين في الهواء إلى 50% مثلا لكثرت الحرائق ، بحيث لو حدثت شرارة واحدة في الغابة لكان ذلك كفيلا باحتراقها ، ولو قلّت نسبة الأكسجين عن المعدّل وهو 21% فأصبحت 10% لاقترب الإنسان من الاختناق ، ولقلّت قدرته على التمدن والابتكار .
وكذلك تناسق العين لترى ، والأذن لتسمع ، والفكّ ليأكل ويتكلم ، واليد لتعمل ، والرّجل لتمشي ، والعقل ليفكر ، وسائر الأجهزة المتعددة ، التي يسفر عنها نظام هذه الآلة البديعة . التي هي الإنسان ، ثم تناسقها مع هذا الكون ، ليكون الإنسان خليفة لله في هذه الأرض ، يعمل على عمارتها ، واستثمار خيراتها ، والاستفادة منها ، والإفادة لعباد الله من خيراتها .
{ إن الله لذو فضل على الناس . . . } .
أي : له أنعم متعددة على الناس أجمعين ، برهم وفاجرهم ، مؤمنهم وكافرهم .
{ ولكن أكثر الناس لا يشكرون } .
أي : لا يؤدون حق الشكر لهذه النعم لجهلهم ، وغفلتهم عن التأمل في نعم الله عليهم .
ثم شرع الله يبين بعض نعمه على الناس ، وهي تُظهر عظمته تعالى ، لكنهم
{ الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ }
من أكبرِ النعم على الناس أن الله جعل لهم الليلَ ليستريحوا فيه من العمل ، والنهارَ مضيئا ليعملوا فيه ويكسبوا رزقهم ، والله هو المتفضل عليهم بالنعم التي لا تحصى .
{ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } هذه النعم ، ولا يعترفون بها . { إنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } الآية [ إبراهيم : 34 ] .
{ 61 - 65 } { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
تدبر هذه الآيات الكريمات ، الدالة على سعة رحمة الله تعالى وجزيل فضله ، ووجوب شكره ، وكمال قدرته ، وعظيم سلطانه ، وسعة ملكه ، وعموم خلقه لجميع الأشياء ، وكمال حياته ، واتصافه بالحمد على كل ما اتصف به من الصفات الكاملة ، وما فعله من الأفعال الحسنة ، وتمام ربوبيته ، وانفراده فيها ، وأن جميع التدبير في العالم العلوي والسفلي في ماضي الأوقات وحاضرها ، ومستقبلها بيد الله تعالى ، ليس لأحد من الأمر شىء ، ولا من القدرة شيء ، فينتج من ذلك ، أنه تعالى المألوه المعبود وحده ، الذي لا يستحق أحد من العبودية شيئًا ، كما لم يستحق من الربوبية شيئًا ، وينتج من ذلك ، امتلاء القلوب بمعرفة الله تعالى ومحبته وخوفه ورجائه ، وهذان الأمران -وهما معرفته وعبادته- هما اللذان خلق الله الخلق لأجلهما ، وهما الغاية المقصودة منه تعالى لعباده ، وهما الموصلان إلى كل خير وفلاح وصلاح ، وسعادة دنيوية وأخروية ، وهما اللذان هما أشرف عطايا الكريم لعباده ، وهما أشرف اللذات على الإطلاق ، وهما اللذان إن فاتا ، فات كل خير ، وحضر كل شر .
فنسأله تعالى أن يملأ قلوبنا بمعرفته ومحبته ، وأن يجعل حركاتنا الباطنة والظاهرة ، خالصة لوجهه ، تابعة لأمره ، إنه لا يتعاظمه سؤال ، ولا يحفيه نوال .
فقوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ } أي : لأجلكم جعل الله الليل مظلمًا ، { لِتَسْكُنُوا فِيهِ } من حركاتكم ، التي لو استمرت لضرت ، فتأوون إلى فرشكم ، ويلقي الله عليكم النوم الذي يستريح به القلب والبدن ، وهو من ضروريات الآدمي لا يعيش بدونه ، ويسكن أيضًا ، كل حبيب إلى حبيبه ، ويجتمع الفكر ، وتقل الشواغل .
{ و } جعل تعالى { النَّهَارَ مُبْصِرًا } منيرًا بالشمس المستمرة في الفلك ، فتقومون من فرشكم إلى أشغالكم الدينية والدنيوية ، هذا لذكره وقراءته ، وهذا لصلاته ، وهذا لطلبه العلم ودراسته ، وهذا لبيعه وشرائه ، وهذا لبنائه أو حدادته ، أو نحوها من الصناعات ، وهذا لسفره برًا وبحرًا ، وهذا لفلاحته ، وهذا لتصليح حيواناته .
{ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ } أي : عظيم ، كما يدل عليه التنكير { عَلَى النَّاسِ } حيث أنعم عليهم بهذه النعم وغيرها ، وصرف عنهم النقم ، وهذا يوجب عليهم ، تمام شكره وذكره ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ } بسبب جهلهم وظلمهم . { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } الذين يقرون بنعمة ربهم ، ويخضعون للّه ، ويحبونه ، ويصرفونها في طاعة مولاهم ورضاه .
ولما ختم ذلك أيضاً بأمر الساعة ، زاد في الدلالة عليه وعلى الفعل بالاختيار والحكمة التي لا يسوغ معها إهمال الخلق من غير حساب ، في دار ثواب وعقاب ، بعد الإتقان لدار العمل بالخطإ والصواب ، فقال معللاً مفتتحاً بالاسم الأعظم الذي لا يتخيل أن المسمى به يهمل المتكبرين عليه مع الإبلاغ في الإحسان إليهم { الله } أي المحيط بصفات الكمال { الذي جعل لكم } لا غيره { الّيل } أي مظلماً { لتسكنوا فيه } راحة ظاهرية بالنوم الذي هو الموت الأصغر ، وراحة حقيقية بالعبادة التي هي الحياة الدائمة { والنهار مبصراً } لتنتشروا فيه باليقظة التي هي إحياء في المعنى ، فالآية من الاحتباك : حذف الظلام أولاً لكونه ليس من النعم المقصودة في أنفسها لما دل عليه من الإبصار الذي هو المقصود من نعمة الضياء المقصود في نفسه ، وحذف الانتشار لأنه بعض ما ينشأ عن نعمة الإبصار لما دل عليه من السكون الذي هو المقصود الأعظم من الليل : للراحة لمن أرادها ، والعبادة لمن اعتمدها واستزادها .
ولما كان بعض الكفرة ينسب الأفعال كما مضى للطبائع ويجعلها بغير اختيار ، قال مستأنفاً أو معللاً مؤكداً : { إن الله } أي ذا الجلال والإكرام { لذو الفضل } أي عظيم جداً باختياره { على الناس } أي كافة باختلاف الليل والنهار وما يحتويان عليه من المنافع . ولما بلغت هذه الآيات من الدلالة على الوحدانية والبعث ونفى أمر الطبائع حداً قل أن يوجد في غيرها ، فكان المخالف مذموماً لذلك غاية الذم ، فكان التعميم بالذم للمخالفين واقعاً في أوفق محاله ، وكان الاسم قد يراد به بعض مدلوله ، وكان المراد هنا التعميم ، أظهر للإفهام إرادة ذلك ، ولم يضمر ليتعلق الحكم بالوصف المفهم للنوس المشير إلى أن صاحبه قاصر عن درجة أول أسنان المؤمنين فيعلم أن هذا النوع مطبوع على ذلك فقال : { ولكن أكثر الناس } أي بما لهم من الاضطراب وعدم الثبات في لزوم الصواب { لا يشكرون * } فينسبون أفعاله سبحانه إلى غيره جهلاً ، أو يعملون بما يسلب عنهم اسم الشكر من الشرك وغيره ، ويجوز أن يكون المراد بالناس أولاً كل من يتأتى منه النوس ، وهو كل من برز من الوجود ، وبهم ثانياً الجن والإنس - والله أعلم .