اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ لِتَسۡكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشۡكُرُونَ} (61)

قوله تعالى : { الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } اعلم أن تعلقه بما قبله من وجهين :

الأول : كأنه تعالى قال : إني أنعمت عليك قبل طلبك هذه النعم العظيمة ، ومن أنعم عليك قبل السؤال بهذه النعم العالية فكيف لا ينعم بالأشياء القليلة بعد السؤال ؟ ! .

والثاني : أنه تعالى لما أمر بالدعاء فكأنه قيل : الاشتغال بالدعاء لا بد وأن يكون مسبوقاً بحصول المعرفة فما الدليل على وجود الإله القدر ؟ فذكر تعالى هذه الدلائل العشرة على وجوده وقدرته وحكمته ، وقد تقدم ذِكْرُ الدلائل الدالة على وجود الله وقدرته وهي إما فلكيّة ، وإما عُنْصُرِيَّة وأن الفلكيات أقسامٌ كثيرة ، أحدُها الليلًُ والنهارُ ، وأن أكثرَ مصالح العالم مربوطةٌ بهما فذكرهما الله تعالى ههنا ، وبين أن الحكمة في خلق الليل حصولُ الراحة بالنوم والسكون ، والحكمة في خلق النهار إبصار الأشياء ؛ لِيُمْكِنَ التصرفُ فيها على الوجه الأنفع .

فإن قيل : هلاَّ قِيلَ بحسب رِعاية النظم هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار لتبصروا فيه أو يقال : جعل لكم الليلَ ساكناً والنهار مبصراً ولكنه لم يقل ذلك ، فما الفائدة ؟ وما الحكمة في تقدم ذكر الليل ؟{[48362]} .

فالجواب عن الأول : هو أن الليل والنوم في الحقيقة طبيعة عَدَمِيَّة فهو غير مقصود بالذات ، وأما اليقظة فأمور وجودية ، وهي مقصودة بالذات . وقد بيّن الشيخ عَبْدُ القَاهِر النَّحوِيُّ في دلائل الإعْجَازِ{[48363]} أن دلالة صيغة الاسم على الكمال والتمام أقوى من دلالة صيغة الفعل عليها فهذا هو السبب في الفَرْق .

وأما الجواب عن الثاني : فهو أن الظلمة طَبِيعَةٌ عدمِيَّة ، والنورُ طبيعةٌ وجودية ، والعدم في المُحْدَثَاتِ مقدَّمٌ على الوجود ؛ فلهذا السبب قال في أول سورة الأنعام : { وَجَعَلَ الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] .

ثم قال تعالى : { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } والمعنى أن فضل الله تعالى على الخلق كثيرٌ جداً ، ولكنه لا يشكرونه .

واعلم أن ترك الشكر لوجوه :

الأول : أن يَعْتَقِدَ الرجل أنّ هذه النعم ليست من الله ، مثل أن يعتقد أن هذه الأفلاك واجبة الوجود لذواتها ، واجبة الدوران ( لذواتها ) فيعتقد أن هذه النعم منها .

الثاني : أن يَعْتَقِدَ أن كلَّ هذا العالم إنما حصل بتخليق الله وتكوينه إلا أن نعمةَ تَعَاقُبِ الليل والنهار لما دامت واستمرت نَسِيها الإنسان ، فإذا ابْتُلِيَ الإنسان بفِقْدانِ شيء منها عرف قدرها مثل أن يحبس في بئر عميق مظلمةٍ مًُدَّةً مديدةً ، فحينئذ يعرف ذلك الإنسان قَدْرَ نعمةِ الهواء الصافي وقَدْر نعمة الضوء ، وقد كان بعض الملوك يعذب بعض خدمه بأن يأمر أقواماً يمنعونه من النوم وعن الاستناد إلى الجدار .

والثالث : أن الإنسان وإن كان عارفاً بهذه النعم إلا أنه يكون حريصاً على الدنيا ، محبًّا المالَ والجاهَ ، فإذا فاته المال الكثير والجاه العريض وقع في كُفْران هذه النعم العظيمة ، ولما كان أكثر الخلق واقعون في أحد هذه الأودية الثلاثة لا جرم قال تعالى : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } .

ونظيره قوله تعالى : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } [ سبأ : 13 ] وقول إبليس : { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }{[48364]} [ الأعراف : 17 ] .


[48362]:تفسير الرازي 37/82، 83.
[48363]:دلائل الإعجاز له 121، 122 بالمعنى.
[48364]:17 من الأعراف. وانظر في هذا التفسير: الإمام الرازي 27/82 مع تغيير طفيف في العبارة.