قوله تعالى : { الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } اعلم أن تعلقه بما قبله من وجهين :
الأول : كأنه تعالى قال : إني أنعمت عليك قبل طلبك هذه النعم العظيمة ، ومن أنعم عليك قبل السؤال بهذه النعم العالية فكيف لا ينعم بالأشياء القليلة بعد السؤال ؟ ! .
والثاني : أنه تعالى لما أمر بالدعاء فكأنه قيل : الاشتغال بالدعاء لا بد وأن يكون مسبوقاً بحصول المعرفة فما الدليل على وجود الإله القدر ؟ فذكر تعالى هذه الدلائل العشرة على وجوده وقدرته وحكمته ، وقد تقدم ذِكْرُ الدلائل الدالة على وجود الله وقدرته وهي إما فلكيّة ، وإما عُنْصُرِيَّة وأن الفلكيات أقسامٌ كثيرة ، أحدُها الليلًُ والنهارُ ، وأن أكثرَ مصالح العالم مربوطةٌ بهما فذكرهما الله تعالى ههنا ، وبين أن الحكمة في خلق الليل حصولُ الراحة بالنوم والسكون ، والحكمة في خلق النهار إبصار الأشياء ؛ لِيُمْكِنَ التصرفُ فيها على الوجه الأنفع .
فإن قيل : هلاَّ قِيلَ بحسب رِعاية النظم هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار لتبصروا فيه أو يقال : جعل لكم الليلَ ساكناً والنهار مبصراً ولكنه لم يقل ذلك ، فما الفائدة ؟ وما الحكمة في تقدم ذكر الليل ؟{[48362]} .
فالجواب عن الأول : هو أن الليل والنوم في الحقيقة طبيعة عَدَمِيَّة فهو غير مقصود بالذات ، وأما اليقظة فأمور وجودية ، وهي مقصودة بالذات . وقد بيّن الشيخ عَبْدُ القَاهِر النَّحوِيُّ في دلائل الإعْجَازِ{[48363]} أن دلالة صيغة الاسم على الكمال والتمام أقوى من دلالة صيغة الفعل عليها فهذا هو السبب في الفَرْق .
وأما الجواب عن الثاني : فهو أن الظلمة طَبِيعَةٌ عدمِيَّة ، والنورُ طبيعةٌ وجودية ، والعدم في المُحْدَثَاتِ مقدَّمٌ على الوجود ؛ فلهذا السبب قال في أول سورة الأنعام : { وَجَعَلَ الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] .
ثم قال تعالى : { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } والمعنى أن فضل الله تعالى على الخلق كثيرٌ جداً ، ولكنه لا يشكرونه .
الأول : أن يَعْتَقِدَ الرجل أنّ هذه النعم ليست من الله ، مثل أن يعتقد أن هذه الأفلاك واجبة الوجود لذواتها ، واجبة الدوران ( لذواتها ) فيعتقد أن هذه النعم منها .
الثاني : أن يَعْتَقِدَ أن كلَّ هذا العالم إنما حصل بتخليق الله وتكوينه إلا أن نعمةَ تَعَاقُبِ الليل والنهار لما دامت واستمرت نَسِيها الإنسان ، فإذا ابْتُلِيَ الإنسان بفِقْدانِ شيء منها عرف قدرها مثل أن يحبس في بئر عميق مظلمةٍ مًُدَّةً مديدةً ، فحينئذ يعرف ذلك الإنسان قَدْرَ نعمةِ الهواء الصافي وقَدْر نعمة الضوء ، وقد كان بعض الملوك يعذب بعض خدمه بأن يأمر أقواماً يمنعونه من النوم وعن الاستناد إلى الجدار .
والثالث : أن الإنسان وإن كان عارفاً بهذه النعم إلا أنه يكون حريصاً على الدنيا ، محبًّا المالَ والجاهَ ، فإذا فاته المال الكثير والجاه العريض وقع في كُفْران هذه النعم العظيمة ، ولما كان أكثر الخلق واقعون في أحد هذه الأودية الثلاثة لا جرم قال تعالى : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } .
ونظيره قوله تعالى : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } [ سبأ : 13 ] وقول إبليس : { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }{[48364]} [ الأعراف : 17 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.