السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ لِتَسۡكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشۡكُرُونَ} (61)

ولما أمر الله تعالى بالدعاء فكأنه قيل الاشتغال بالدعاء لا بد وأن يكون مسبوقاً بحصول المعرفة فما الدليل على وجود الإله القادر فقال تعالى مفتتحاً بالاسم الأعظم :

{ الله } أي : المحيط بصفات الكمال { الذي جعل لكم } لا غيره { الليل } أي : مظلماً { لتسكنوا فيه } راحة ظاهرة بالنوم الذي هو الموت الأصغر وراحة حقيقية بالعبادة التي هي الحياة الدائمة { والنهار مبصراً } لتنظروا فيه باليقظة التي هي إحياء بالمعنى ، فالآية من الاحتباك حذف الظلام أولاً لكونه ليس من النعم المقصودة في نفسها لما دل عليه من الإبصار الذي هو المقصود من نعمة الضياء المقصود في نفسه ، وحذف الانتشار لأنه بعض ما ينشأ عن نعمة الإبصار لما دل عليه من السكون الذي هو المقصود الأعظم من الليل للراحة لمن أرادها والعبادة لمن اعتمدها واستزادها ، فإن قيل : هلا قيل بحسب رعاية النظم : هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار لتبصروا فيه أو يقال جعل لكم الليل ساكناً والنهار مبصراً ولكنه لم يقل ذلك فما الحكمة فيه وفي تقديم ذكر الليل ؟ أجيب عن الأول : بأن الليل والنوم في الحقيقة طبيعة عدمية فهو غير مقصود بالذات وأما النور واليقظة فأمور وجودية مقصودة بالذات ، وقد بين الشيخ عبد القادر في دلائل الإعجاز أن دلالة صيغة الاسم على التمام والكمال أقوى من دلالة صيغة الفعل عليها فهذا هو السبب في الفرق ، وأجيب عن الثاني : بأن الظلمة طبيعة عدمية والنور طبيعة وجودية والعدم في المحدثات مقدم على الوجود فلهذا السبب قال تعالى في سورة الأنعام { وجعل الظلمات والنور } ( الأنعام : 1 ) . { إن الله } أي : ذا الجلال والإكرام { لذو فضل } أي : عظيم جداً باختياره { على الناس } أي : كافة باختلاف الليل والنهار وما يحتويان عليه من المنافع { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } الله فلا يؤمنون وينسبون أفعاله سبحانه إلى غيره جهلاً ويعلمون بما يسلب عنهم اسم الشكر من الشرك وغيره ، فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : { ولكن أكثر الناس } ولم يقل ولكن أكثرهم ولا يكرر ذكر الناس ؟ أجيب : بأن في هذا التكرار تخصيصاً لكفران النعمة بهم وأنهم هم الذين يكفرون فضل الله تعالى ولا يشكرونه كقوله تعالى : { إن الإنسان لظلوم كفار } ( إبراهيم : 34 ) .