( سورة الصف مدنية ، وآياتها 14 آية ، نزلت بعد سورة التغابن )
وهي سورة تدعو إلى وحدة الصف ، وتماسك الأمة ، وتحث على الجهاد ، وتنفّر من الرياء ، وتبين أن الإسلام كلمة الله الأخيرة إلى الأرض ، وأن رسالات السماء كانت دعوة هادفة لبناء الإنسان والدعوة إلى الخير والعدل ، وقد أرسل الله موسى بالتوراة ، فلما انحرف اليهود عن تعاليم السماء أرسل الله عيسى عليه السلام مجددا لناموس التوراة ، ومبشرا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم .
وقد كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ، متممة للرسالات السابقة ، مشتملة على مبادئ الحق واليسر والعدل والمساواة ، وقد كره المشركون انتصار النور والخير فحاولوا مقاومة هذه الدعوة وإطفاء نورها ، ولكن الله أيد الإسلام حتى طوى ممالك الفرس والروم ، وعمّ المشارق والمغارب .
وقد حاولت الصليبية الحاقدة اجتياح بلاد الإسلام في فترات متعددة ، من بينها الحروب الصليبية التي انتهت بهزيمة المعتدين وانتصار المسلمين ، ووجهت الصليبية ضرباتها للمسلمين في الأندلس ، وحاولت تصفية الإسلام أيام الدولة العثمانية ، وأطلقت على تركيا لقب : الرجل المريض ، وعلى البلاد التي تحت يدها : تركة الرجل المريض ، فلما قام كمال أتاتورك بإعلان إلغاء الخلافة الإسلامية كبر له الغرب وهلل ، وتراجعت جيوشه من أمام تركيا ، وجعلوا من أتاتورك بطلا عملاقا لقضائه على الخلافة الإسلامية .
وفي هذه الأيام تقوى الحركة الإسلامية في تركيا ، وتمتلئ المساجد والمدارس الإسلامية بالباحثين وتشتد سواعد الحزب الإسلامي هناك ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون .
جمهور المفسرين على أن صدر هذه السورة نزل حين اشتاق المسلمون إلى معرفة أحب الأعمال إلى الله ، فأنزل الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } . ( الصف : 4 ) .
فلما أخبرهم الله بأن أفضل الأعمال بعد الإيمان هو الجهاد في سبيل الله ، كره قوم الجهاد ، وشق عليهم أمره : فقال الله سبحانه وتعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } . ( الصف : 2-3 ) .
الهدف الأول : الدعوة إلى الجهاد والحثّ عليه ، والتحذير من كراهيته والفرار منه ، وبيان ثوابه وفضله ، وأنه تجارة رابحة . وتبع ذلك ترسيخ العقيدة ، ووجوب اتفاق الظاهر مع الباطن ، ووجوب الطاعة للقائد ، وتماسك الأمة ، وترابط بنيانها حتى تصبح صفا واحدا ، محكم الأساس ، قوي الوشيجة والرباط ، كأنه بنيان مرصوص .
فالآيات الأربع الأولى دعوة للجهاد ، وتحذير من الخوف والجبن ، وبيان أن العقيدة السليمة تستتبع التضحية والفداء ، حتى يصبح جيش الإسلام قوي البناء متلاحم الصفوف .
والآيات ( 10-12 ) صورة رائعة لفضل الجهاد وثوابه فهو أربح تجارة ، وأفضل سبيل للمغفرة ودخول الجنة ، وهو باب النصر والفتح ، والبشرى للمؤمنين بالسيادة والعزة .
والهدف الثاني : بيان وحدة الرسالات ، فالرسالات الإلهية كلها دعوة إلى التوحيد ، وثورة على الباطل ، وإصلاح للضمير ، وإرساء لمعالم الفضيلة ، ومحاربة للرذيلة .
وقد دعا الرسل جميعا إلى توحيد الله ، وتكفل كل رسول بإرشاد قومه وهدايتهم ونصحهم إلى ما فيه الخير ، وتحذيرهم من الانحراف والشر .
وفي سورة الصف نجد الآية الخامسة تبين رسالة موسى لقومه ، وتذكر عنت اليهود ، وإيذاءهم لموسى وتجريحهم له ، وانصرافهم عن روحانية الدعوة إلى مادية المال .
وفي الآية السادسة نجد عيسى عليه السلام يجدد أمر الناموس ، ويصيح باليهود صيحات ضارعة ، ويعظهم ويدعوهم للإيمان ، ويحثهم على الصدقة ، والعناية بالروح ، وتقديم الخير لوجه الله .
والمسيح يبشر برسالة أحمد خاتم المرسلين ، فالرسالات كلها حلقات متتابعة في تاريخ الهداية والإصلاح ، والإسلام كان ختام هذه الرسالات وآخرها ، والمهيمن عليها ، فقد حفظ تاريخها في القرآن ، ودعا إلى الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل .
قال تعالى : { آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } . ( البقرة : 285 ) .
وروى البخاري في صححيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنما مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة ، فجعل الناس يقولون : لو وُضعت هذه اللبنة ، فأنا هذه اللبنة وأنا خاتم الرسل " i
وقال تعالى : { قُولُوا آمنّا بِاللّهِ وما أُنْزِل إِليْنا وما أُنْزِل إِلى إِبْراهِيم وإِسْماعِيل وإِسْحاق ويعْقُوب والْأسْباطِ وما أُوتِي مُوسى وعِيسى وما أُوتِي النّبِيُّون مِنْ ربِّهِمْ لا نُفرِّقُ بيْن أحدٍ مِنْهُمْ ونحْنُ لهُ مُسْلِمُون } . ( البقرة : 136 ) .
وفي آخر آية في السورة دعوة للمسلمين أن ينصروا دين الله ، كما نصر الحواريون دين عيسى ، أيام كان دينه توحيدا خالصا ، والعاقبة دائما للمتقين .
والعبرة المستفادة من هذه الدعوة هي استنهاض همة المؤمنين بالدين الأخير ، الأمناء على منهج الله في الأرض ، ورثة العقيدة والرسالة الإلهية ، المختارين لهذه المهمة الكبرى .
استنهاض همتهم لنصرة الله ، ونصرة دينه ورسالته وشريعته : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ . . . }( الصف : 14 ) .
معظم مقصود سور الصف هو : عتاب الذين يقولون أقوالا لا يعلمون بمقتضاها ، وتشريف الغزاة والمصلين ، والتنبيه على جفاء بني إسرائيل ، وإظهار دين المصطفى صلى الله عليه وسلم على سائر الأديان ، وبيان التجارة الرابحة مع الرحمن الرحيم ، والبشارة بنصر أهل الإيمان على الكفر والخذلان .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 1 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ( 2 ) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ( 3 ) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ( 4 ) }
سبح لله : نزهه عما لا يليق ومجّده ، ودلّ عليه .
1- { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .
جميع ما في السماوات ، من ملائكة وأجرام وكواكب ، وشموس وأقمار ، وجميع ما في الأرض من الحيوانات والنباتات وغيرهما ، يسبّح لله بلسان الحال ، فوجود هذا النظام البديع ، من سماء مرفوعة ، وأرض مبسوطة وجبال راسية ، وبحار جارية ، وهواء وفضاء ونبات ، وليل ونهار ، وشمس وقمر ، وظلام ونور ، كل ذلك يدل على وجود قدرة عالية تمسك بنظام هذا الكون وتحفظ توازنه .
وقد يكون التسبيح بلسان المقال ، بمعنى أن يخلق الله في هذه الكائنات وسائل للتسبيح والتعظيم لله ، كما قال تعالى : { وإن من شيء إلاّ يسبح بحمده ولكن لاّ تفقهون تسبيحهم . . . }( الإسراء : 44 ) .
سورة الصف مدنية وآياتها أربع عشرة ، نزلت بعد سورة التغابن ، وهي من السور المدنية التي تضمنت بعض الأحكام التشريعية ، وتهذيب الأخلاق . فبعد أن بدأت بالإخبار بأن كل ما في السموات والأرض يسبحون الله ، أشارت إلى أنه لا يليق بالمؤمنين أن يخالف قولهم عملهم ، فالله يطلب منا أن تطابق أفعالنا أقوالنا ، ومن أكبر الجرائم عند الله أن يقول الإنسان شيئا مخالفا لفعله .
ثم بعد أن أمرنا بالصدق في القول والعمل ، أمرنا أن نكون صفا واحدا في قتال العدو . ومقتضى ذلك أننا نكون صفا واحدا في أمور الحياة كلها ، فلا جهاد إلا مع انتظام الأحوال وصدق الأفعال والأقوال في جميع الأمور . فإذا انتظم داخلنا وصدَقنا في جميع معاملاتنا ، وكنا يدا واحدة-يئس منا العدو وانتصرنا عليه .
ولذلك قال بعد أن حثنا على الصدق : { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص } .
وسميت السورة " سورة الصف " أخذا من هذه الآية .
ثم وصمت السورة بني إسرائيل بالعناد والكفر على لسان رسولين كريمين هما موسى وعيسى عليهما السلام ، إذ زاغوا عنادا ، فختم الله على قلوبهم عندما كذبوا موسى ، وجاء بعده عيسى مصدقا بالتوراة مبشرا بمحمد صلى الله عليه وسلم فكذبه قومه أيضا . فليكن لك يا محمد أسوة بمن سبق من الأنبياء الذين صبروا على إيذاء قومهم وتكذيبهم . إن الله قد قضى أن من قام بالحق منصور ، ويا أيها المسلمون : إن الإيمان بالله والجهاد في سبيله هما الخلّتان اللتان تفوزون بهما في الدارين ، إذ لا فوز في الدنيا والآخرة إلا بعلم وعمل . والإيمان أفضل ما في العلم ، والجهاد أفضل ما في العمل . فلتكن فيكم الخصلتان والله يضمن لكم ثلاث خلال : غفران الذنوب ، ودخول الجنة ، والنصر المصحوب بالفتح القريب{ وبشر المؤمنين } . لماذا لا تقتدون بحواريّي عيسى إذ قالوا : { نحن أنصار الله } ، ونصرناهم على أعدائهم فأصبحوا ظاهرين عليهم . فإن أخلصتم في القول والعمل ، وصدقتم في جهادكم ونصركم لدينكم-ينصركم الله ويُظهركم على عدوكم . وقد صدق الله وعده .
قدّس اللهَ ونزّهه كلُّ شيء في هذا الكون : بعضُها بلسان الحال ، وبعضها بلسان المقال . وقد تقدم أن كل شيء في هذا الوجود يسبّح الله ، ويشهد له بالربوبية والوحدانية والقدرة وغيرها من صفات الكمال ، وهو الغالبُ على كل شيء ، الحكيم في تدبير خلقه .
{ 1-3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } وهذا بيان لعظمته تعالى وقهره ، وذل جميع الخلق{[1069]} له تبارك وتعالى ، وأن جميع من في السماوات والأرض يسبحون بحمد الله ويعبدونه ويسألونه حوائجهم ، { وَهُوَ الْعَزِيزُ } الذي قهر الأشياء بعزته وسلطانه ، { الْحَكِيمُ } في خلقه وأمره .
سورة الصف{[1]} وتسمى الحواريين .
مقصودها الحث{[2]} على الاجتهاد التام في{[3]} الاجتماع على قلب{[4]} واحد في جهاد من دعت الممتحنة إلى البراءة منهم ، بحملهم على الدين الحق ، أو محقهم عن جديد الأرض أقصى المحق ، تنزيها للملك{[5]} الأعلى عن الشرك ، وصيانة لجنابه الأقدس عن الإفك ، ودلالة على الصدق في البراءة منهم والعداوة لهم ، فهي{[6]} نتيجة سورة التوبة ، وأدل ما فيها على هذا المقصد الصف بتأمل آيته ، وتدبر ما له{[7]} من جليل النفع في أوله وأثنائه [ وغايته-{[8]} ] ، وكذا الحواريون ( بسم الله ) الملك الأعظم الذي له الأمر كله لأنه لا كفوء له ( الرحمان ) الذي عم بنعمة{[9]} البيان عما يرضيه ممن شاقه ، فقد شرك لكل أحد أن يرده أو يقبله ( الرحيم ) الذي خص{[10]} بإتمام الإنعام الموصل إلى دار السلام من شاء من عباده فهيأه لذلك وأهله .
لما ختمت الممتحنة بالأمر بتنزيهه سبحانه عن{[64786]} تولي من يخالف أمره بالتولي عنهم والبراءة منهم اتباعاً لأهل الصافات المتجردين عن كل ما سوى الله لا سيما عمن{[64787]} كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ، افتتحت الصف بما هو كالعلة لذلك فقال :{ سبح لله } أي أوقع التنزيه الأعظم للملك الأعظم الذي له{ ما في السموات } من جميع الأشياء التي لا يغفل من أفلاكها ونجومها وغير ذلك من{[64788]} جواهرها وأعراضها{[64789]} في طلوعها وأفولها وسيرها في ذهابها ورجوعها وإنشاء السحاب وإنزال المياه وغير ذلك . ولما كان الخطاب مع غير الخلص أكده فقال :{ وما في الأرض } أي بامتثال جميع ما يراد منه مما هو كالمأمور بالنسبة إلى أفعال العقلاء من نزول المياه وإخراج النبات من النجم والشجر وإنضاج الحبوب والثمار - وغير ذلك من الأمور الصغار والكبار .
ولما كان امتثال غير العاقل وعصيان العاقل ربما{[64790]} أوهم نقصاً قال :{ وهو } أي وحده لا شريك له { العزيز } أي العظيم النفع الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ، ويعسر الوصول إليه{[64791]} { الحكيم * } أي الذي يضع الأشياء في أتقن مواضعها ، فما مكّن العاقل من المعصية إلا لإظهار صفات الكمال من العلم والقدرة والحلم{[64792]} والكرم والرحمة والغضب وغير ذلك ، وقد علم بهذا التنزيه وختم آيته بهاتين الصفتين أنه تعالى منزه عما تضمنه يأس الكفار المذكور من{[64793]} أنه لا بعث وعن {[64794]}أن يجعل سبحانه لهم{[64795]} حظاً في الآخرة لأن كلاًّ من عدم البعث والتسوية بين المسيء والمحسن نقص{[64796]} .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : افتتحت بالتسبيح لما ختمت به سورة الممتحنة من قوله
{ لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم }[ الممتحنة : 13 ] وهم اليهود ، {[64797]}وقد تقدم{[64798]} الإيماء إلى ما استوجبوا به هذا فأتبع بالتنزيه لما تقدم بيانه فإنه مما تعقب به ذكر جرائم المرتكبات ولا يرد في غير ذلك ، ثم أتبع ذلك بأمر العباد بالوفاء وهو الذي حد لهم{[64799]} في الممتحنة ليتنزهوا عن حال مستوجبي الغضب بنقيض الوفاء والمخالفة بالقلوب والألسنة{[64800]}{ يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم }[ آل عمران : 167 ] .
{ لياً بألسنتهم وطعناً في الدين }[ النساء : 46 ] .
{ من الذين قالوا آمنا{[64801]} بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم }[ المائدة : 41 ] .
{ ويقولون آمنا بالله والرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم }[ النور : 47 ] وبمجموع هذا استجمعوا {[64802]}اللعنة والغضب فقيل للمؤمنين :{ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون }[ الصف : 2 ] احذروا أن تشبه أحوالكم حال من استحق المقت واللعنة والغضب ، ثم أتبع بحسن الجزاء لمن{[64803]} وفى قولاً وعقداً ولساناً وضميراً ، وثبت على ما{[64804]} أمر به فقال :{ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً }[ الصف : 4 ] الآية ثم تناسج ما بعد . ولما كان الوارد من هذا الغرض في سورة الممتحنة قد جاء على طريق{[64805]} الوصية وسبيل النصح والإشفاق ، أتبع في سورة الصف بصريح العتب في ذلك والإنكار ليكون بعد ما{[64806]} تمهد في السورة قبل أوقع في الزجر ، وتأمل كم بين قوله سبحانه :{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء }{[64807]}[ الممتحنة : 1 ] وما تضمنته من اللطف{[64808]} وبين قوله : { لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون }[ الصف : 2 ] انتهى .
هذه السورة مدنية وآياتها أربع عشرة آية . وهي مبدوءة بالإيذان من الله بأن كل شيء في الوجود مسبح لله فهو مقدّسه ومنزّهه عن كل نقيصة أو عيب .
وفي السورة ينهى الله عن القول الذي لا يتبعه فعل . أو الوعد الذي لا يعقبه وفاء . ثم يندد الله تنديدا شديدا بالذين يتحدثون عن الخير أو المعروف ولا يأتونه أو يأتون خلافه من المعاصي .
وفي السورة تأنيس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ يبين الله له ما لقيه موسى كليمه من أذى قومه وسوء فعالهم وكذلك ما لقيه عيسى ابن مريم من المكاره والأذى وسوء القول فتحمل واصطبر ولم يتزعزع .
ثم يبين الله لعباده أفضل تجارة فيها التنجية والاستنقاذ من سوء العذاب ، وهي الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله بالمال والنفس .
{ سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم 1 ياأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون 2 كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون 3 إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص } .
كل شيء في هذا الكون ذاكر لله بتسبيحه وتنزيهه والإذعان له بالإلهية والربوبية ، { وهو العزيز الحكيم } الله القوي الغالب الذي لا يغالب . وهو سبحانه الحكيم في أقواله وأفعاله وتدبيره أمور خلقه .