غورا : غائرا ، ذاهبا في الأرض لا ينال .
بماء معين : جار ، أو ظاهر سهل التناول ، أو تراه العيون لجريانه على الأرض .
قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين .
هنا تصريح بعذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة ، والآية تلمس قلوبهم فتقول : أخبروني ، إن ذهب ماؤكم بعيدا في الأرض ، لا تستطيع الدلاء أن تنقله إليكم ، هل هناك أحد غير الله يستطيع أن يأتيكم بماء ظاهر تراه العين ؟ فمن فضل الله أن أجرى الماء للناس ، يستفيدون به في الزراعة والشرب ونواحي الحياة المتعددة .
قال تعالى : وجعلنا من الماء كل شيء حي . . . ( الأنبياء : 30 ) .
وقال سبحانه وتعالى : أفرأيتم الماء الذي تشربون* أأنتم أنزلتموه من المزن أن نحن المنزلون* لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون . ( الواقعة : 68 -70 ) .
وبذلك تختم سورة الملك ، سورة أرست دعائم الإيمان بالله الخالق ، وحقيقة الابتلاء والرزق ، والعلم المطلق ، والسر والنجوى ، سورة تبين أن الكون كله في قبضة الله ، وفيها منهج حياة المؤمن مع ربه ومع نفسه ومع الناس .
خلاصة ما اشتملت عليه سورة الملك
2-بيان أن نظام العالم لا عوج فيه ولا اختلاف .
3-وصف عذاب الكافرين في الدنيا والآخرة .
4-التذكير بخلق الإنسان ورزقه وأشباه ذلك .
ii الله والعلم الحديث ، للأستاذ عبد الرزاق نوفل ، ص57 .
iii بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروزبادي 1/473 .
iv رواه أبو داود والترمذي وحسنه وغيرهما ، وانظر الترغيب والترهيب .
v إن العبد إذا وضع في القبر وتولّى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع :
رواه البخاري في الجنائز ( 1338 ، 1374 ) ومسلم في الجنة ( 2870 ) وأبو داود في الجنائز ( 3231 ) وفي السنة ( 4751 ) والنسائي في الجنائز ( 2049 ) وأحمد في مسنده ( 11862 ) من حديث أنس رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( العبد إذا وضع في قبره وتولّى وذهب أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فأقعداه فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله ، فيقال : انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا من الجنة ) . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فيراهما جميعا ، وأما الكافر أو المنافق فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس ، فيقال : لا دريت ولا تليت ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين ) . وأحمد في مسنده ( 8358 ) من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولّوا ) . ورواه أبو داود في السنة ( 4753 ) من حديث البراء .
vi والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم :
رواه البخاري في المغازي ( 3976 ) من حديث أبي طلحة أن انبي صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث ، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى واتبعه أصحابه ، وقالوا : ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته حتى قام على شفة الركى فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : ( فلان ابن فلان ) ويا فلان ابن فلان ، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله ، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ) . قال : فقال عمر : يا رسول الله ، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ) . قال قتادة : أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقيمة وحسرة وندما . ورواه البخاري في الجنائز ( 1370 ) وفي المغازي ( 4026 ) من حديث ابن عمر قال : اطّلع النبي صلى الله عليه وسلم على أهل القليب فقال : ( وجدتم ما وعد ربكم حقا ) ؟ فقيل له : تدعو أمواتا ؟ فقال : ( ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون ) . ورواه مسلم في الجنة ( 2873 ) من حديث أنس كنت مع عمر ( ح ) وحدثنا شيبان بن فروخ واللفظ له حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس بن مالك قال : كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءينا الهلال وكنت رجلا حديد البصر فرأيته وليس أحد يزعم أنه رآه غيري قال : فجعلت أقول لعمر أما تراه ، فجعل لا يراه ، قال : يقول عمر : سأراه وأنا مستلق على فراشي ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول : ( هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله ) : قال : فقال عمر : فوالذي بعثه بالحق ما أخطأوا الحدود التي حد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فجعلوا في بئر بعضهم على بعض فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم فقال : ( يا فلان ابن فلان ، ويا فلان ابن فلان ، هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا فإني قد وجدت ما وعدني الله حقا ) ؟ قال عمر : يا رسول الله ، كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها ؟ قال : ( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا عليّ شيئا ) . ورواه مسلم في الجنة ( 2875 ) من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثا ثم أتاهم فقام عليهم فناداهم فقال : ( يا أبا جهل بن هشام ، يا أمية بن خلف ، يا عتبة بن ربيعة ، يا شيبة بن ربيعة ، أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا ؟ ) فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، كيف يسمعون وأنى يجيبون وقد جيفوا ، قال : ( والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا ) ، ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في قليب بدر .
vii لن يهلك الناس حتى يعذروا :
رواه أبو داود في الملاحم ( 4347 ) وأحمد في مسنده ( 17835 ) من حديث أبي البختري قال : أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول- وقال سليمان : حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لن يهلك الناس حتى يعذروا أو يعذروا من أنفسهم ) .
viii مختصر تفسير ابن كثير ، بتحقيق محمد علي الصابوني ، المجلد 3 ، ص528 .
ix تتمة الحديث : ( سبعة يظلّهم الله تعالى في ظلّه يوم لا ظل إلا ظلّه : إمام عادل ، وشاب نشأ في طاعة الله تعالى ، ورجل قلبه معلق بالمساجد ، ورجل ذكر الله تعالى خاليا ففاضت عيناه ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه ) .
x مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم :
رواه البخاري في الأدب ( 6011 ) ، ومسلم في البر والآداب ( 2586 ) ، وأحمد ( 17632 ، 17648 ) ، من حديث النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى ) .
قوله تعالى : " قل أرأيتم " يا معشر قريش " إن أصبح ماؤكم غورا " أي غائرا ذاهبا في الأرض لا تناله الدلاء . وكان ماؤهم من بئرين : بئر زمزم وبئر ميمون . " فمن يأتيكم بماء معين " أي جار ، قاله قتادة والضحاك . فلا بد لهم من أن يقولوا لا يأتينا به إلا الله ، فقل لهم لِمَ تشركون به من لا يقدر على أن يأتيكم . يقال : غار الماء يغور غورا ، أي نضب . والغور : الغائر ، وصف بالمصدر للمبالغة ، كما تقول : رجل عدل ورضا . وقد مضى في سورة " الكهف{[15209]} " ومضى القول في المعنى في سورة " المؤمنون{[15210]} " والحمد لله . وعن ابن عباس : " بماء معين " أي ظاهر تراه العيون ، فهو مفعول . وقيل : هو من مَعَنَ الماءُ أي كثر ، فهو على هذا فعيل . وعن ابن عباس أيضا : أن المعنى : فمن يأتيكم بماء عذب . والله أعلم{[15211]} .
{ قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين }
( قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً ) غائراً في الأرض ( فمن يأتيكم بماء معين ) جار تناله الأيدي والدلاء كمائكم ، أي لا يأتي به إلا الله تعالى ، فكيف تنكرون أن يبعثكم ؟ ويستحب أن يقول القارئ عقب " معين " : الله رب العالمين ، كما ورد في الحديث ، وتليت هذه الآية عند بعض المتجبرين فقال : تأتي به الفؤوس والمعاول ، فذهب ماء عينه وعمي ، نعوذ بالله من الجراءة على الله وعلى آياته .