الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ مَن يَأۡتِيهِ عَذَابٞ يُخۡزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيۡهِ عَذَابٞ مُّقِيمٌ} (39)

{ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } يهينه { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } دائم ، قال ابن عباس : اتخذ نوح ( عليه السلام ) السفينة في سنتين ، وكان طول السفينة ثلاثمائة ذراع ، وعرضها خمسين ، وطولها في السمك ثلاثين ذراعاً ، وكانت من خشب الساج ، وجعل لها ثلاثة بطون فحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام ، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام ، وركب هو في البطن الأعلى [ . . . . . ] ، عمّا يحتاج إليه من الزاد .

روي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مكث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله ، فأوحى الله عزّ وجلّ لما كان آخر زمانه وغرس شجرة [ فعظمت وذهبت كلّ مذهب ثمّ قطعها ] ويقطع ما يبس منها ، ثمّ جعل يعمل سفينة ويمّرون عليه قومه فيسألونه فيقول : أعمل سفينة فيسخرون منه ويقولون : يعمل سفينة في البر فكيف تجري ؟ فيقول : فسوف تعلمون ، فلّما فرغ منها وفار التنور وكثر الماء في السكك ، خشيت أُمّ صبي عليه وكانت تحبّه حبّاً شديداً ، فخرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه ، فلمّا بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثيه ، فلمّا بلغها الماء خرجت حتى صعدت على الجبل فلما بلغ الماء رقبته رفعته بيديها حتى ذهب بها الماء ، فلو رحم الله أحداً منهم لرحم أُمّ الصبي " .

وروى علي بن زيد بن صوحان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال : قال الحواريون لعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام : لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة فيحدّثنا عنها ، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفّاً من ذلك التراب بكفّه قال : أتدرون ماهذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : هذا كفن حام بن نوح ، قال : فضرب الكثيب بعصاه وقال : قم بإذن الله ، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه وقد شاب ، قال له عيسى : هكذا هلكت ؟ قال : لا بل متُّ وأنا شاب ولكنني ظننت أنها الساعة فمن ثَمّ شبت ، قال : حدِّثْنا عن سفينة نوح ، قال : كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع ، وعرضها ستمائة ذراع ، وكانت ثلاث طبقات ، فطبقة فيها الدواب والوحش ، وطبقة فيها الإنس ، وطبقة فيها الطير ، فلمّا كثرت فضلات الدواب أوحى الله تعالى إلى نوح أن اغمز ذنب الفيل ، فغمز فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث ، فلمّا وقع الفار بحوض السفينة وحبالها فقرضها ، وذلك أن الفار ولدت في السفينة فأوحى الله تعالى إلى نوح أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وهرّة فأقبلا على الفار .

فقال له عيسى : كيف علم نوح أن البلاد قد غرقت ؟ قال : بعث الغراب يأتيه بالخبر فوجد جيفة فوقع عليها فدعا عليه بالخوف ، فلذلك لا يألف البيوت ، ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجلها فعلم أن البلاد قد غرقت قال : فطوّقها بالحمرة التي في عنقها ودعا لها أن تكون في قصر بأمان فمن ثم تألف البيوت .

قال : فقالوا : يا رسول الله ألا ننطلق به إلى أهلنا فيجلس معنا ويحدّثنا ؟ قال : كيف يتبعكم من لا رزق له ؟ فقال له : عد بإذن الله ، قال : فعاد تراباً .

وروى محمد بن إسحاق عن عبيد بن عمير أنّه كان يحدّث الأحاديث وكانوا يبطشون به ، يعني قوم نوح فيخنقونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال : ربّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون ، حتى إذا تمادوا في المعصية وعظمت في الأرض منهم الخطيئة وتطاولوا عليه ، وتطاول عليه وعليهم الشأن واشتد عليه منهم البلاء ، وانتظر البخل بعد البخل ، فلا يأتي قرن إلاّ كان أخبث من الذي قبله حتى إذا كان الآخر منهم ليقول : قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنوناً لا يقبلون منه شيئاً ، حتى شكا ذلك من أمرهم إلى الله عزّ وجل فقال : رب إنّي دعوت قومي ليلا ونهاراً ، حتى قال : ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً إلى آخر القصة ، فأوحى الله إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا أي بعد اليوم إنهم مغرقون .

فأقبل نوح على [ عمل ] الفلك ولجأ عن قومه إلى جبل يقطع الخشب ويضرب بيديه [ الحديد ] ، ويهيّئ عدة الفلك من القار وغيره مما لا يصلحه إلاّ هو ، وجعل قومه يمرون به وهو في ذلك من عمله فيسخرون منه ويقولون : يا نوح هل صرت نجاراً بعد النبوة ؟ وأعقم الله أرحام النساء فلبثوا سنين فلا يولد لهم ولد .

قال : ويزعم أهل التوراة أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج وأن يصنعه أزور وأن يطليه بالقار من أسفله وخارجه ، وأن يجعل طولها ثمانين ذراعاً وعرضها خمسين ذراعاً ، ومائة في عرضه وبطوله في السماء ثلاثين ذراعاً ، والذراع إلى المنكب ، وجعلها ثلاثة طوابق سفلى ووسطى وعليا ، فجعل فيه كوى ، ففعل نوح كما أمره الله تعالى .