جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِن مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا لَيُؤۡمِنَنَّ بِهِۦ قَبۡلَ مَوۡتِهِۦۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يَكُونُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا} (159)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } . .

اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ يعني بعيسى قَبْلَ مَوْتِهِ يعني : قبل موت عيسى ، يوجه ذلك إلى أن جميعهم يصدّقون به إذا نزل لقتل الدجال ، فتصير الملل كلها واحدة ، وهي ملة الإسلام الحنيفية ، دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال : قبل موت عيسى ابن مريم .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال : قبل موت عيسى .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك في قوله : إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال : ذلك عند نزول عيسى ابن مريم لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا ليومننّ به .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن ، قال : قَبْلَ مَوْتِهِ قال : قبل أن يموت عيسى ابن مريم .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن في قوله : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال : قبل موت عيسى ، والله إنه الاَن لحيّ عند الله ، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ يقول : قبل موت عيسى .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال : قبل موت عيسى .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال : قبل موت عيسى إذا نزل آمنت به الأديان كلها .

حدثنا ابو وكيع قال : حدثنا أبي ، عن أبي جعفر الرازيّ ، عن الربيع بن أنس ، عن الحسن ، قال : قبل موت عيسى .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن عوف ، عن الحسن : إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال : عيسى ولم يمت بعد .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمران بن عيينة ، عن حصين ، عن أبي مالك ، قال : لا يبقى أحد منهم عند نزول عيسى إلا آمن به .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حصين ، عن أبي مالك ، قال : قبل موت عيسى .

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال : إذا نزل عيسى ابن مريم فقتل الدجال لم يبق يهوديّ في الأرض إلا آمن به ، قال : وذلك حين لا ينفعهم الإيمان .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه عن ابن عباس ، قوله : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ يعني : أنه سيدرك أناس من أهل الكتاب حين يبعث عيسى ، فيؤمنون به ، ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور بن زاذان ، عن الحسن أنه قال في هذه الاَية : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ . قال أبو جعفر : أظنه إنما قال : إذا خرج عيسى آمنت به اليهود .

وقال آخرون : يعني بذلك : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ بعيسى قبل موت الكتابي .

ذكر من كان يوجه ذلك ، إلى أنه إذا عاين علم الحقّ من الباطل ، لأن كلّ من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحقّ من الباطل في دينه :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال : لا يموت يهوديّ حتى يؤمن بعيسى .

حدثنا ابن وكيع وابن حميد ، قالا : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال : لا تخرج نفسه ، حتى يؤمن بعيسى ، وإن غرق ، أو تردّى من حائط ، أو أيّ ميتة كانت .

حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ كلّ صاحب كتاب ليؤمننّ به بعيسى قبل موته ، موت صاحب الكتاب .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لَيُؤْمِنَنّ بِهِ كلّ صاحب كتاب يؤمن بعيسى قبل موته ، قبل موت صاحب الكتاب قال ابن عباس : لو ضُربت عنقه ، لم تخرج نفسه حتى يؤمن بعيسى .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحويّ ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لا يموت اليهوديّ ، حتى يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله ، ولو عجل عليه بالسلاح .

حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، قال : حدثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال : هي في قراءة أبيّ : «قبل موتهم » . ليس يهوديّ يموت أبدا حتى يؤمن بعيسى قيل لابن عباس : أرأيت إن خرّ من فوق بيت ؟ قال : يتكلم به في الهُويّ . فقيل : أرأيت إن ضُربت عنق أحد منهم ؟ قال : يتلجلج بها لسانه .

حدثني المثنى ، قال : ثني أبو نعيم الفضل بن دكين ، قال : حدثنا سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال : لا يموت يهوديّ حتى يؤمن بعيسى ابن مريم ، قيل : وإن ضرب بالسيف ؟ قال : يتكلم به ، قيل : وإن هَوَى ؟ قال : يتكلم به وهو يَهْوي .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي هارون الغنوي ، عن عكرمة عن ابن عباس ، أنه قال في هذه الاَية : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال : لو أنّ يهوديا وقع من فوق هذا البيت لم يمت حتى يؤمن به يعني : بعيسى .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة ، عن مولى لقريش ، قال : سمعت عكرمة يقول : لو وقع يهوديّ من فوق القصر ، لم يبلغ إلى الأرض ، حتى يؤمن بعيسى .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي هاشم الرّماني ، عن مجاهد : لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال : وإن وقع من فوق البيت لا يموت حتى يؤمن به .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن منصور ، عن مجاهد : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال : لا يموت رجل من أهل الكتاب حتى يؤمن به ، وإن غرق ، أو تردّى ، أو مات بشيء .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال : لا تخرج نفسه حتى يؤمن به .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال : لا يموت أحدهم حتى يؤمن به ، يعني : بعيسى ، وإن خرّ من فوق بيت يؤمن به وهو يهوي .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : ليس أحد من اليهود يخرج من الدنيا حتى يؤمن بعيسى .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن فرات القزاز ، عن الحسن في قوله : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال : لا يموت أحد منهم ، حتى يؤمن بعيسى ، يعني : اليهود والنصارى .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن فرات ، عن الحسن في قوله : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال : لا يموت أحد منهم ، حتى يؤمن بعيسى قبل أن يموت .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا الحكم بن عطية ، عن محمد بن سيرين : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال : موت الرجل من أهل الكتاب .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال : قال ابن عباس : ليس من يهوديّ ولا نصرانيّ يموت حتى يؤمن بعيسى ابن مريم . فقال له رجل من أصحابه : كيف والرجل يغرق ، أو يحترق ، أو يسقط عليه الجدار ، أو يأكله السبع ؟ فقال : لا تخرج روحه من جسده حتى يقذف فيه الإيمان بعيسى .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال : لا يموت أحد من اليهود حتى يشهد أن عيسى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا يعلى ، عن جويبر في قوله : لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال : في قراءة أبيّ : «قبل موتهم » .

وقال آخرون : معنى ذلك : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل موت الكتابي . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن حميد ، قال : قال عكرمة : لا يموت النصرانيّ واليهوديّ حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم يعني في قوله : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصحة والصواب قول من قال : تأويل ذلك : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ بعيسى قبل موت عيسى .

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من غيره من الأقوال ، لأن الله جلّ ثناؤه حكم لكل مؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم بحكم أهل الإيمان في الموارثة والصلاة عليه وإلحاق صغار أولاده بحكمه في الملة ، فلو كان كلّ كتابيّ يؤمن بعيسى قبل موته ، لوجب أن لا يرث الكتابيّ إذا مات على ملته إلا أولاده الصغار أو البالغون منهم من أهل الإسلام ، إن كان له ولد صغير أو بالغ مسلم ، وإن لم يكن له ولد صغير ولا بالغ مسلم ، كان ميراثه مصروفا حيث يصرف مال المسلم ، يموت ولا وارث له ، وأن يكون حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه وغسله وتقبيره ، لأن من مات مؤمنا بعيسى فقد مات مؤمنا بمحمد وبجميع الرسل وذلك أن عيسى صلوات الله عليه جاء بتصديق محمد وجميع المرسلين ، فالمصدّق بعيسى والمؤمن به مصدّق بمحمد وبجميع أنبياء الله ورسله ، كما أن المؤمن بمحمد مؤمن بعيسى وبجميع أنبياء الله ورسله ، فغير جائز أن يكون مؤمنا بعيسى من كان بمحمد مكذّبا .

فإن ظنّ ظانّ أن معنى إيمان اليهوديّ بعيسى ، الذي ذكره الله في قوله : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ إنما هو إقراره بأنه لله نبيّ مبعوث دون تصديقه بجميع ما أتى به من عند الله ، فقد ظنّ خطأ . وذلك أنه غير جائز أن يكون منسوبا إلى الإقرار بنبوّة نبيّ من كان له مكذّبا في بعض ما جاء به من وحي الله وتنزيله ، بل غير جائز أن يكون منسوبا إلا الإقرار بنبوةّ أحد من أنبياء الله لأن الأنبياء جاءت الأممم بتصديق جميع أنبياء الله ورسله فالمكذب بعض أنبياء الله فيما أتى به أمته من عند الله مكذب جميع أنبياء الله فيما دعوا إليه من دين عباد الله . وإذ كان ذلك كذلك ، كان في إجماع الجميع من أهل الإسلام على أن كل كتابي مات قبل إقراره بمحمد صلوات الله عليه وما جاء به من عند الله ، محكوم له بحكم المسألة التي كان عليها أيام حياته ، غير منقول شيء من أحكامه في نفسه وماله وولده صغارهم وكبارهم بموته عما كان عليه في حياته ، أدلّ الدليل على أن معنى قول الله : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ إنما معناه : إلا ليؤمننّ بعيسى قبل موت عيسى ، وأن ذلك في خاصّ من أهل الكتاب ، ومعنىّ به أهل زمان منهم دون أهل كل الأزمنة التي كانت بعد عيسى ، وأن ذلك كائن عند نزوله . كالذي :

حدثني بشر بن معاذ ، قال : ثني يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عبد الرحمن بن آدم ، عن أبي هريرة ، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : «الأنْبِياءُ إخْوَةٌ لِعَلاّتٍ أُمّهاتُهُمْ شَتّى وَديِنُهُمْ وَاحِدٌ ، وإنّى أوْلى النّاسِ بعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ لأنّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيّ . وَإنّهُ نازِلٌ ، فإذَا رأيْتُمُوهُ فاعْرِفُوهُ ، فإنّهُ رَجُلٌ مَرْبُوعُ الخَلْقِ إلى الحُمْرَةِ وَالبَياضِ ، سَبْطُ الشّعْرِ كأنّ رأسَهُ يَقْطُرُ وَإنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ ، بينَ مُمَصّرَتَيْنِ ، فَيَدُقّ الصّلِيبَ ، وَيَقْتُلُ الخِنْزِيرَ ، وَيَضَعُ الجزْيَةَ ، وَيُفِيضُ المَالُ ، وَيُقاتِلِ النّاسَ على الإسْلامِ حتى يَهْلِكَ اللّهُ فِي زَمانِهِ المِلَلَ كُلّها غيرَ الإسْلامِ ، ويُهْلِكُ اللّهُ فِي زَمانِهِ مَسِيحَ الضّلالَةِ الكَذّابَ الدّجّالَ ، وَتَقَعُ الأمَنَةُ فِي الأرْضِ فِي زَمانِهِ حتى تَرْتَعَ الأُسُودُ معَ الإبِلِ والنّمُورُ مَعَ البَقَرِ وَالذّئابُ مَعَ الغَنمِ ، وَتَلْعَبُ الغِلْمانُ وَالصبْيانُ بالحَيّاتِ لا يَضُرّ بَعْضُهُمْ بَعْضا ، ثُمّ يَلْبَثُ فِي الأرْضِ ما شاء الله » وربما قال : «أربعين سنة ، ثم يُتوفى ويصلي عليه المسلمون ويُدفنونه » .

وأما الذي قال : عني بقوله : لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ليؤمننّ بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل موت الكتابي ، فمما لا وجه له مفهوم لأنه مع فساده من الوجه الذي دللّنا على فساد قول من قال : عنى به : ليؤمننّ بعيسى قبل موت الكتابيّ ، يزيده فسادا أنه لم يجر لمحمد عليه الصلاة والسلام في الاَيات التي قبل ذلك ذكر ، فيجوز صرف الهاء التي في قوله : لَيُؤْمِنَنّ بِهِ إلى أنها من ذكره ، وإنما قوله : لَيُؤْمِنَنّ بِهِ في سياق ذكر عيسى وأمه واليهود ، فغير جائز صرف الكلام عما هو في سياقه إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها من دلالة ظاهر التنزيل أو خبر عن الرسول تقوم به حجة فأما الدعاوي فلا تتعذّر على أحد . فتأويل الاَية إذ كان الأمر على ما وصفت : وما من أهل الكتاب إلا من ليؤمننّ بعيسى قبل موت عيسى ، وحذف «مَنْ » بعد «إلا » لدلالة الكلام عليه ، فاستغني بدلالته عن إظهاره كسائر ما قد تقدمّ من أمثاله التي قد أتينا على البيان عنها .

القول في تأويل قوله تعالى : وَيَوْمَ القِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدا .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : وَيَوْمَ القِيامَةِ يَكُونُ عيسى على أهل الكتاب شَهِيدا يعني : شاهدا عليهم بتكذيب من كذّبه منهم ، وتصديق من صدّقه منهم فيما أتاهم به من عند الله وبإبلاغه رسالة ربه . كالذي :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : وَيَوْمَ القِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدا أنه قد أبلغهم ما أرسله به إليهم .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَيَوْمَ القِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدا يقول : يكون عليهم شهيدا يوم القيامة ، على أنه قد بلّغ رسالة ربه وأقرّ بالعبودية على نفسه .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِن مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا لَيُؤۡمِنَنَّ بِهِۦ قَبۡلَ مَوۡتِهِۦۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يَكُونُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا} (159)

عطف على جملة { وما قتلوه } [ النساء : 157 ] . وهذا الكلام إخبار عنهم ، وليس أمراً لهم ، لأنّ وقوع لام الابتداء فيه ينادي على الخبرية . و { إن } نافية و { من أهل الكتاب } صفة لموصوف محذوف تقديره : أحد .

والضمير المجرور عائد لعيسى : أيّ ليومنَنّ بعيسى ، والضمير في { موته } يحتمل أن يعود إلى أحد أهل الكتاب ، أي قبل أن يموت الكتابيّ ، ويؤيّده قراءة أبَي بن كعب { إلا ليؤمنن به قبل موته } . وأهل الكتاب يطلق على اليهود والنّصارى ؛ فأمّا النصارى فهم مؤمنون بعيسى من قبل ، فيتعيّن أن يكون المراد بأهل الكتاب اليهود . والمعنى أنّ اليهود مع شدّة كفرهم بعيسى لا يموت أحد منهم إلاّ وهو يؤمن بنبوّته قبل موته ، أي ينكشف له ذلك عند الاحْتضار قبل انزهاق روحه ، وهذه منّة مَنّ الله بها على عيسى ، إذ جعل أعداءه لا يخرجون من الدنيا إلاّ وقد آمنوا به جزاء له على ما لقي من تكذيبهم ، لأنّه لم يتمتّع بمشاهدة أمّةٍ تتبعه . وقيل : كذلك النصرانيّ عند موته ينكشف له أنّ عيسى عبد الله .

وعندي أنّ ضمير { به } راجع إلى الرفع المأخوذ من فعل { رفعه الله إليه } [ النساء : 158 ] ، ويعمّ قولُه { أهلِ الكتاب } اليهودَ ، والنّصارى ، حيث استووا مع اليهود في اعتقاد وقوع الصلب .

والظاهر أنّ الله يقذف في نفوس أهل الكتابين الشكّ في صحّة الصلب ، فلا يزال الشكّ يخالج قلوبهم ويقوَى حتّى يبلغ مبلغ العلم بعدم صحّة الصلب في آخر أعمارهم تصديقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم حيث كذّب أخبارهم فنفَى الصلبَ عن عيسى عليه السلام .

وقيل : الضمير في قوله { موته } عائد إلى عيسى ، أي قبل موت عيسى ، ففرّع القائلون بهذا تفاريع : منها أنّ موته لا يقع إلاّ آخر الدنيا ليتمّ إيمان جميع أهل الكتاب به قبل وقوع الموت ، لأنّ الله جعل إيمانهم مستقبلاً وجعله قبل موته ، فلزم أن يكون موته مستقبلاً ؛ ومنها ما ورد في الحديث : أنّ عيسى عليه السلام ينزل في آخر مدّة الدنيا ليؤمن به أهل الكتاب ، ولا يخفى أنّ عموم قوله : { وإن من أهل الكتاب } يبطل هذا التفسير : لأنّ الَّذين يؤمنون به على حسب هذا التأويل هم الذين سيوجدون من أهل الكتاب لا جميعهم .

والشهيد : الشاهد ؛ يشهد بأنّه بلّغ لهم دعوة ربّهم فأعرضوا ، وبأنّ النّصَارى بدّلوا ، ومعنى الآية مفصّل في قوله تعالى : { يوم يجمع الله الرسل } الآيَات في سورة العقود ( 109 ) .