القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ كَذّبُواْ بِالْحَقّ لَمّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِيَ أَمْرٍ مّرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنظُرُوَاْ إِلَى السّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيّنّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } .
يقول تعالى ذكره : ما أصاب هؤلاء المشركون القائلون أئِذَا مِتْنا وكُنّا تُرَابا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ في قيلهم هذا بَلْ كَذّبُوا بالحَقّ ، وهو القرآن لَمّا جَاءَهُمْ من الله . كالذي :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة بَلْ كَذّبُوا بالحَقّ لَمّا جاءَهُمْ أي كذّبوا بالقرآن فَهُمْ فِي أمْرٍ مَرِيجٍ يقول : فهم في أمر مختلط عليهم ملتبس ، لا يعرفون حقه من باطله ، ( يقال ) قد مرج أمر الناس إذا اختلط وأهمل .
وقد اختلفت عبارات أهل التأويل في تأويلها ، وإن كانت متقاربات المعاني ، فقال بعضهم : معناها : فهم في أمر منكر وقال : المريج : هو الشيء المنكر . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن خالد بن خداش ، قال : ثني سلم بن قُتيبة ، عن وهب بن حبيب الاَمديّ ، عن أبي حمزة ، عن ابن عباس أنه سُئل عن قوله : أمْرٍ مَرِيجٍ قال : المريج : الشيء المنكر أما سمعت قول الشاعر :
فَجالَتْ والْتَمَسَتْ بهِ حَشاهَا *** فَخَرّ كأنّهُ خُوطٌ مَرِيج
وقال آخرون : بل معنى ذلك : في أمر مختلف . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله فِي أمْرٍ مَرِيجٍ يقول : مختلف .
وقال آخرون : بل معناه : في أمر ضلالة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس فَهُمْ في أمْرٍ مَرِيجٍ قال : هم في أمر ضلالة .
وقال آخرون : بل معناه : في أمر مُلْتبِس . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن أشعث بن إسحاق ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جُبَير ، في قوله : فَهُمْ فِي أمْرٍ مَرِيجٍ قال : مُلْتَبِسٍ .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : أَمْرٍ مَرِيجٍ قال : ملتبس .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَهُمْ فِي أمْرٍ مَرِيجٍ ملتبس عليهم أمره .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : والتبس عليه دينه .
وقال آخرون : بل هو المختلط . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فِي أمْرٍ مَرِيجٍ قال : المريج : المختلط .
وإنما قلت : هذه العبارات وإن اختلفت ألفاظها فهي في المعنى متقاربات ، لأن الشيء مختلف ملتبس ، معناه مشكل . وإذا كان كذلك كان منكرا ، لأن المعروف واضح بين ، وإذا كان غير معروف كان لا شكّ ضلالة ، لأن الهدى بيّن لا لبس فيه .
إضراب ثان تابع للإضراب الذي في قوله : { بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم } [ ق : 2 ] على طريقة تكرير الجملة في مقام التنديد والإبطال ، أو بدل من جملة { بل عجبوا أن جاءهم منذر } لأن ذلك العجب مشتمل على التكذيب ، وكلا الاعتبارين يقتضيان فصل هذه الجملة بدون عاطف . والمقصد من هذه الجملة : أنهم أتوا بأفظع من إحالتهم البعث وذلك هو التكذيب بالحق .
والمراد بالحق هنا القرآن لأن فعل التكذيب إذا عدي بالباء عدي إلى الخبر وإذا عدي بنفسه كان لتكذيب المخبر .
و { لمّا } حرف توقيت فهي دالة على ربط حصول جوابها بوقت حصول شرطها فهي مؤذنة بمبادرة حصول الجواب عند حصول الشرط كقوله تعالى : { فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] ، وقوله { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } [ البقرة : 89 ] وقد مضيا في سورة البقرة . ومعنى { جاءهم } بلغهم وأعلموا به .
والمعنى : أنهم بادروا بالتكذيب دون تأمل ولا نظر فيما حواه من الحق بل كذبوا به من أول وهلة فكذبوا بتوحيد الله ، وهو أول حق جاء به القرآن ، ولذلك عقب بقوله : { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها } إلى قوله : { وأحيينا به بلدة ميتا } [ ق : 6 11 ] . فالتكذيب بما جاء به القرآن يعمّ التكذيب بالبعث وغيره .
وفرع على الخبر المنتقل إليه بالإضراب وصفُ حالهم الناشئة عن المبادرة بالتكذيب قبل التأمل بأنها أمر مريج أحاط بهم وتجلجلوا فيه كما دل عليه حرف الظرفية .
و { أمر } اسم مبهم مثل شيء ، ولما وقع هنا بعد حرف { في } المستعمل في الظرفية المجازية تعين أن يكون المراد بالأمر الحالُ المتلبسون هم به تلبُّس المظروف بظرفه وهو تلبس المحوط بما أحاط به فاستعمال { في } استعارة تبعية .
والمريج : المضطرب المختلط ، أي لا قرار في أنفسهم في هذا التكذيب ، اضطربت فيه أحوالهم كلها من أقوالهم في وصف القرآن فإنهم ابتدروا فنفوا عنه الصدق فلم يتبينوا بأي أنواع الكلام الباطل يلحقونه فقالوا : { سحر مبين } [ المائدة : 110 ] ، وقالوا { أساطير الأولين } [ الأنعام : 25 ] وقالوا { قول شاعر } [ الحاقة : 41 ] ، وقالوا : { قول كاهن } [ الحاقة : 42 ] وقالوا : ( هذيان مجنون ) . وفي سلوكهم في طرق مقاومة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وما يصفونه به إذا سألهم الواردون من قبائل العرب . ومن بهتهم في إعجاز القرآن ودلالة غيره من المعجزات وما دمغهم به من الحجج على إبطال الإشراك وإثبات الوحدانية لله . وهذا تحميق لهم بأنهم طاشت عقولهم فلم يتقنوا التكذيب ولم يرسوا على وصف الكلام الذي كذبوا به .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.