القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنّهُ ظُلّةٌ وَظَنّوَاْ أَنّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر يا محمد إذ اقتلعنا الجبل ، فرفعناه فوق بني إسرائيل ، كأنه ظلة غمام من الظلام ، وقلنا لهم : خذوا ما آتيناكم بقوّة من فرائضنا ، وألزمناكم من أحكام كتابنا ، فاقبلوه ، واعملوا باجتهاد منكم في أدائه من غير تقصير ولا توان . واذْكُرُوا ما فِيهِ يقول ما في كتابنا من العهود والمواثيق التي أخذنا عليكم بالعمل بما فيه . لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ يقول : كي تتقوا ربكم ، فتخافوا عقابه بترككم العمل به إذا ذكرتم ما أخذ عليكم فيه من المواثيق .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَإذْ نَتَقْنا الجَبَلَ فَوْقَهُمْ كأنّهُ ظُلّةٌ فقال لهم موسى : خذوا ما آتيناكم بقوّة يقول : من العمل بالكتاب وإلا خرّ عليكم الجبل ، فأهلككم فقالوا : بل نأخذ ما آتانا الله بقوّة ثم نكثوا بعد ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ عن ابن عباس ، قوله : وَإذْ نَتَقْنا الجَبَلَ فَوْقَهُمْ كأنّهُ ظُلّةٌ فهو قوله : وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطّورَ بِمِيثاقِهِمْ فقال : خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوّةٍ ، وإلا أرسلته عليكم .
حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : حدثنا خالد بن عبد الله ، عن داود ، عن عامر ، عن ابن عباس ، قال : إني لأعلمُ خلق الله لأيّ شيء سجدت اليهود على حرف وجوههم ، لما رفع الجبل فوقهم سجدوا وجعلوا ينظرون إلى الجبل مخافة أن يقع عليهم ، قال : فكانت سجدة رضيها الله ، فاتخذوها سنة .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإذْ نَتَقْنا الجَبَلَ فَوْقَهُمْ كأنّهُ ظُلّةٌ وَظَنّوا أنّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوّةٍ : أي بجدّ . واذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ جبل نزعه الله من أصله ثم جعله فوق رءوسهم ، فقال : لتأخذنّ أمري ، أو لأرمينّكم به
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : وَإذْ نَتَقْنا الجَبَلَ قال : كما تنتق الزّبدة . قال ابن جريج : كانوا أبوا التوراة أن يقبلوها أو يؤمنوا بها . خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوّةٍ قال : يقول : لتؤمننّ بالتوراة ولتقبلنها ، أو ليقعن عليكم
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، قال : هذا كتاب الله أتقبلونه بما فيه ، فإن فيه بيان ما أحلّ لكم وما حرّم عليكم وما أمركم وما نهاكم . قالوا : انشر علينا ما فيها ، فإن كانت فرائضها يسيرة وحدودها خفيفة قبلناها قال : اقبلوها بما فيها قالوا : لا ، حتى نعلم ما فيها كيف حدودها وفرائضها . فراجعوا موسى مرارا ، فأوحى الله إلى الجبل ، فانقلع فارتفع في السماء حتى إذا كان بين رءوسهم وبين السماء قال لهم موسى : ألا ترون ما يقول ربي ؟ لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها لأرمينكم بهذا الجبل قال : فحدثني الحسن البصري ، قال : لما نظروا إلى الجبل خرّ كلّ رجل ساجدا على حاجبه الأيسر ، ونظر بعينه اليمنى إلى الجبل ، فرَقا من أن يسقط عليه فلذلك ليس في الأرض يهوديّ يسجد إلا على حاجبه الأيسر ، يقولون : هذه السجدة التي رفُعت عنا بها العقوبة . قال أبو بكر : فلما نشَرَ الألواح فيها كتاب الله كتبه بيده ، لم يبق على وجه الأرض جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتزّ ، فليس اليوم يهوديّ على وجه الأرض صغير ولا كبير تقرأ عليه التوراة إلا اهتزّ ونغض لها رأسه .
واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى قوله : نَتَقْنا فقال بعض البصريين : معنى نتقنا : رفعنا واستشهد بقول العجّاج :
***يَنْتُقُ أقْتادَ الشّلِيلِ نَتْقا ***
وقال : يعني بقوله : «ينتق » يرفعها عن ظهره . وبقول الاَخر :
***وَنَتَقُوا أحْلامَنا الأثاقِلا ***
وقد حُكي عن قائل هذه المقالة قول آخر ، وهو أن أصل النتق والنتوق كلّ شيء قلعته من موضعه فرميت به ، يقال منه : نتقت نتقا . قال : ولهذا قيل للمرأة الكبيرة ناتق لأنها ترمي بأولادها رميا ، واستشهد ببيت النابغة :
لَمْ يُحْرَمُوا حُسْنَ الغِذَاءِ وأُمّهُمْ ***دَحَقَتْ عَلَيْكَ بِناتقٍ مِذْكارِ
وقال آخر : معناه في هذا الموضع : رفعناه . وقال : قالوا : نتقني السير : حرّكني . وقال : قالوا : ما نتق برجله لا يركض ، والنتق : نتق الدابة صاحبها حين تعدو به وتتعبه حتى يربو ، فذلك النتق والنتوق ، ونتقتني الدابة ، ونتقت المرأة تنتق نتوقا : كثر ولدها . وقال بعض الكوفيين : نتقنا الجبل : علقنا الجبل فوقهم فرفعناه ننتقه نتقا ، وامرأة منتاق : كثيرة الولد ، قال : وسمعت أخذ الجراب ونَتَقَ ما فيه : إذا نثر ما فيه .
عاد الكلام إلى العبرة بقصص بني إسرائيل مع موسى عليه السلام ، لأن قصة رفع الطور عليهم من أمهات قصصهم ، وليست مثل قصة القرية الذين اعتدوا في السبت ، ولا مثلَ خبر إيذانهم بمن يسومهم سوء العذاب . فضمائر الجمع كلها هنا مراد بها بنو إسرائيل الذين كانوا مع موسى ، بقرينة المقام .
والجملة معطوفة على الجمل قبلها .
و { إذْ } متعلقة بمحذوف تقديره : واذكر إذ نتقنا الجبل فوقهم .
والنتق : الفصل والقلع . والجبل الطور .
وهذه آية أظهرها الله لهم تخويفاً لهم ، لتكون مُذَكرة لهم ، فيعقب ذلك أخذُ العهد عليهم بعزيمة العمل بالتوراة ، فكان رفع الطور معجزة لموسى عليه السلام تصديقاً له فيما سيبلغهم عن الله من أخذ أحكام التوراة بعزيمة ومداومة والقصة تقدمت في سورة البقرة ( 63 ) عند قوله تعالى : { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور } والظلة السحابة ، وجملة : { خذوا ما آتيناكم } مقولة لقول محذوف يدل عليه نظم الكلام ، وحذفُ القول في مثله شائع كثير ، وتقدم نظيرها في سورة البقرة .
وعُدّي { واقع } بالباء : للدلالة على أنهم كانوا مستقرين في الجبل فهو إذا ارتفع وقع ملابساً لهم ففتتهم ، فهم يرون أعلاه فوقهم وهم في سفحه ، وهذا وجه الجمع بين قوله { فوقهم } وبين باء الملابسة . وجعل بعض المفسرين الباء بمعنى ( على ) .
وجملة : { خُذوا ما آتيناكم بقوة } مقول قول محذوف . وتقدم تفسير نظيرها في سورة البقرة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.